ظاهرة غريبة تعيشها الحياة السياسية في مصر جسدتها بوضوح وبشكل صارخ الأيام القليلة الماضية .. في أسبوع واحد كانت مصر كلها بفيس بوكها بمحلليها بسياسييها بمجلس صورتها (أو شورتها) بسلطاتها بباباغنوجها تفتي في شؤون الإرهاب والجماعات المتطرفة واستراتيجية حرب العصابات في سيناء .. وفجأة وبقدرة قادر تحول الجميع إلى خبراء في الشؤون الأفريقية والموارد المائية وأثيوبيا وسد النهضة ورقصني يا جدع .. وفي ثانية .. أصبح الجميع قادرين على تكوين رأي في شؤون آسيا الصغرى والحالة التركية .. بالنسبة للكثيرين .. تكوين رأي حول موضوع ما هو أمر شديد السهولة والبساطة .. مجرد "كوبي" و"بيست" من صفحة الإنترنت التي يرتاح لها .. إذا كان يحب الذقون تصبح الصفحات الملتحية هي الأصدق .. وإذا كان بني آدم مصري طبيعي (قرفان) من الإخوان يبقى ينقل عن صفحة "بشنب" أو حتى "زلبطة" .. بهذه الطريقة يتم تكوين الآراء .. ليس فقط تكوينها بل التخندق حولها والتعصب لها والدفاع عنها و"الخناق" من أجلها. المشكلة ليست فقط في ملايين "الفتايين" من أهل الفيس بوك ورواد المقاهي ومستخدمي المواصلات العامة الذين يمارسون "الدردشة السياسية" كوسيلة لقطع ملل المشاوير.. المشكلة أن سياسيين وإعلاميين ومسؤولين وصناع قرار كثيرين جدا يخرجون بتصريحات ويكونون آراء ويتخذون مواقف بنفس الطريقة الساذجة السطحية العبيطة يا كل أهل مصر .. المادة الخام لتكوين الآراء هي المعلومات وقواعد البيانات .. المعلومات المجردة والبحث والقراءة في الموضوع من مصادر متعددة..أرجوكم .. كل من لا يستطيع أن يذكر أسماء 4 مدن في أثيوبيا أو تطور ناتجها القومي أو أحزابها السياسية وجماعات الضغط ومراكز صنع القرار يخرس خالص ولا يفتي بالحديث عن "الميتافيزيقا الجيوبولوتيكية لأبعاد سد النهضة" .. وكل من لا يعرف أسماء أربع سياسيين أتراك غير أردوغان أو تركيبة المجتمع التركي أو موازين القوى ومراكز الثقل وأهم الأحزاب والتيارات وحال العمال ورؤوس الأموال والقوانين والإثنيات يخرس خالص ولا يفتي بالحديث عن "المؤامرة العلمانية المهلبية الصهيوماسونية على المشروع الإسلامي الإخواني البطيخي ".. "من قال لا أعلم فقد أفتى"..هل يمكن أن يقتدي الناس (كل الناس) بهذه المقولة قبل أن يتصدوا للفتوى والفتة .. هل يمكن أن يتواضع الناس (كل الناس) فيجتهدوا أياما أو أسابيع في جمع المعلومات والقراءة في موضوع معين قبل تكوين رأي معين .. كل البلاوي التي تعيشها مصر حاليا بداية من (أفضل دستور في العالم) إلى (أول رئيس منتخب) بسبب طاجن الفتة المهول الذي نعيش فيه .. طاجن فتة بحجم الوطن .. طاجن فتة يعيش فيه الجميع و"يلغوص" فيه الجميع .. البسطاء منهم يكونون "الرأي" ويتعصبون له فقط حسب ارتياحهم لقائله دون أن يعرفوا أي معلومات حول الموضوع .. والمثقفون منهم (وياللأسف) يكونون "الرأي" ويتعصبون له ثم يبحثون فيما بعد عن معلومات تؤيده.. وصناع القرار (وياللخجل) يحصلون على الرأي والمعلومات بطريقة "الدليفري" من مكتب الإرشاد وكل ما عليهم هو السمع والطاعة .