أكثر ما يخرب أي مجال ويفسد عمله.. تحدُّث وتدخل غير الفاهمين فيه؛ بما يصفه المواطنون المصرّيون ببلاغة -كما هو معهود بهم- ب"الفَتْيْ"، ويُسمى هؤلاء المتدخلون بما لا يعلمون ب"الفتايين". نرى أمثال هؤلاء الفتّايين كثيرا على برامج المكلمات "التوك شو"، والتي قد يشعر الكثير منّا أن تلك البرامج تُقدّم بخاصة ليتحدّث "الفتّايون"، والذين يستهدفون بكلامهم تخريب العقول والمعلومات، وصولا إلى إدخال المستمع أو المشاهد في حالة من السخط والإحباط والنقم والتشاؤم... وإلى آخره من المشاعر السلبية التي يستهدف "الفتايون" إشعار المواطن بها. ومناسبة ذكر من تقدّم.. هو إثارة الجدل حول أمرين فعلهما الرئيس محمد مرسي، وهما -من وجهة نظر "الفتايين"- أمران مذمومان كان يجب ألا يرتكبهما، وأولهما: حلف اليمين الدستورية أمام المحكمة الدستورية العليا؛ لأن ذلك من وجهة نظرهم اعتراف بإعلان مكمّل كان قد سبق وأن أعلن رفضه له. وثانيهما: مدحه الرئيس للقوات المسلحة، وأن هذا المدح من وجهة نظر "الفتايين" -وكما قال أحدهم بالأمس إلى إحدى برامج المكلمات- إنه كان يجب توبيخ المؤسسة العسكرية، وسبّ قيادتها لما ارتكبوه من مخالفات في المرحلة الانتقالية؛ على حد وصف السيد الأستاذ الناشط السياسي الفتَّاي أفندي. ولولا أني رأيت عددا من الأصدقاء قد تأثروا بكلام مثل هؤلاء لما علّقت على ما قالوه، لأنه لا يمتّ إلى السياسة بصلة، ولأن كلامهم قد أثار بعد الجدل على الأصدقاء الفيسبوكيين؛ لذا لزم التفسير والتنويه. هناك مصطلحان في العلوم السياسية الفارق بينهم كبير؛ وهما: "رجل الدولة".. و"رجل السياسة".. سنحاول في السطور القادمة تبسيطها؛ لفهم لماذا أدى الرئيس اليمين أمام المحكمة الدستورية رغم اعتراضه السابق على الإعلان الدستوري المكمّل؟ ولماذا مدح القوات المسلحة على الرغم من خلافاته مع مجلسها الأعلى سابقا؟! ودون ذكر تعريفات سياسية "مكلكعة" سنحاول باختصار وببساطة أن نشرح الفارق بين "رجل الدولة".. و"رجل السياسة".. رجل السياسة: هو رجل له انتماء سياسي معين، إسلامي، ليبرالي، علماني، يساري... وهكذا، ويتصرف وفق رؤيته السياسية الخاصة، فيخرج في تظاهرات، وينتقد أحكام القضاء إذا رآها -من وجهة نظره- غير صحيحة، ويدخل هو وحزبه أو أنصاره في اعتصام، ويرفض الإعلان الدستوري المكمّل ويطالب بإلغائه، ويرفض قرار حلّ البرلمان، ويطالب بعودته، كل هذا مشروع لرجل السياسية. أما رجل الدولة: أي الشخص المسئول بالدولة، تصرفاته -أيا كانت توجهاته- يجب أن تلتزم أحكام أركان الدولة، فحتى لو كانت رؤيته السياسية أنه لا يجب حلّ البرلمان؛ إلا أن هناك حكما قضائيا ألزمه بذلك، عندها -ولأنه رجل دولة- ينبغي أن ينفذ حكم القضاء، وإذا أراد الاعتراض؛ فعليه أن يسلُك الطريق القانوني -أي العودة إلى القضاء- دون إعلان رفضه، أو الدعوة إلى تظاهرات؛ لأن رجل الدولة في التعريفات السياسية هو رجل يحترم المؤسسات ويحكم بينها. رئيس الدولة هو رجل الدولة الأول -أيها الفتايّون- الذي لا يمكنه أن يعترض على القسم أمام المحكمة الدستورية العليا؛ بل عليه أن يحترم ما جاء في الإعلان الدستوري حتى لو كان مخالفا لرأيه ولهواه، ويقوم هو بعد ذلك بإسقاط هذا الإعلان الدستوري أو تعديله، إذا إن من حقه كرئيس للبلاد -وفقا لعدد من فقهاء القانون الدستوري من أمثال: الدكتور جابر نصّار، والدكتور عاطف البنا، والدكتور طارق البشري، والمستشار محمود الخضيري- أن يعدّل من الإعلان الدستوري أو يلغيه.. لكن قبل أن يقوم بذلك؛ ينبغي أن يتسلم مهامه كرئيس للدولة، ولن يتسلم تلك المهام إلا بعد أداء اليمين؛ لذا تحتم عليه أن يُقسم أمام المحكمة الدستورية. وقد أبدى الرئيس مرسي اعتراضه على الإعلان الدستوري بصورة، وصفها الخبراء السياسيون بأنها "الصورة التي ينبغي أن يعترض بها رجل الدولة"، وذلك عندما أقسم أولا بميدان التحرير، وثالثا عندما أقسم في خطاب التنصيب بجامعة القاهرة، وبينهما أقسم أمام المحكمة الدستورية. رجل الدولة رئيس الجمهورية.. عندما يخاطب القوات المسلحة عليه أن ينحي خلافاته مع قادتها جانبا؛ لأنه وفقا للإعلان الدستوري الذي استفتي على بنوده في 19 مارس 2011؛ فإن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، أي المسئول عن جنودها قبل ضباطها.. فكيف له أن يُعلن خلافا كان له مع قادتها حينما كان رئيسا لحزب الحرية والعدالة؟؟ القضية باختصار شديد.. حينما كان الدكتور محمد مرسي رئيسا لحزب الحرية والعدالة كان رجل سياسة، يعترض ويخرج في تظاهرات، واعتصامات، ويلقي خطبا -وقد فعل قبل ذلك- يبدي فيها خلافه مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. أمّا الآن محمد مرسي هو رئيس الجمهورية، أي رجل دولة.. عندما يعترض فعليه أن يسلك الطرق القانونية المؤسسية، يفصل بين السُلطات؛ لأنه الحكم بينها، ويحترمها حتى يحترمها الناس، فإن أعلن رئيس الدولة خلافه مع مؤسسة ما وهو رأس الدولة.. فكيف للشعب أن يحترم هذه المؤسسة؟! إن أعلن رفضه لحكم قضائي وهو رأس الدولة.. فكيف يحترم الناس أحكام القضاء؟! إن أعلن رفضه للإعلان الدستوري.. فكيف يحترم من يعترض على الدستور القادم رأي الأغلبية التي وافقت عليه؟ هذا هو الفارق بين رجل الدولة.. ورجل السياسة.. اللهم أجرنا من مخربي العقول.. والفتايّين