في مجال السياسة يغلب الحديث عن القوة والموارد ومهارة إدارة الصراعات والقدرة الفذة علي تحصيل أكبر استحقاق من الخصوم مقابل أقل ثمن. وقد ربط العقل الحديث بين السياسة ورؤية مكيافيللي في كتابه الشهير «الأمير» حين شاع عن هذا الكاتب والأديب والسياسي أنه قرن بين السياسة والانتهازية، واشتهر عنه مقولة «الغاية تبرر الوسيلة»، رغم أن الرجل تحدث أيضاً عن مصداقية الأمير وحاجته للتراوح بين الترغيب والترهيب، وأهمية كسبه حب الناس وإلا انقلبوا عليه، فالترويع وحده لا يكفل استقرار النظم السياسية، وإرهاب الدولة قد يكون بداية النهاية لأن الصبر له.. حدود. لذا فإن الحديث عن رأس المال الأخلاقي في السياسة ليس من قبيل الترف ولا الرومانسية، فكل نظام وكل قيادة علي الساحة السياسية أو الاجتماعية تحتاج لرأسمال أخلاقي يستبقي لها شرعيتها أمام الجماهير، ويحفظ لها مكانتها، وشأن أي رأسمال فقد يزيد هذا الرصيد الأخلاقي، وقد ينقص. وقد يكون متراكماً، لكن النظام أو الشخص لا يحسن استثماره فيحمله دون أن يجيد توظيفه، وقد يتآكل هذا الرصيد مع كل خطأ وكل زلة لسان وكل خسارة في موقف ما حتي يصل لنقطة الصفر، فالخطأ وارد بشرياً نتيجة سوء التقدير أو فساد النية أو ضعف النفس أو بطانة السوء، لكن يمكن بالطبع استعادته بالجهد الدءوب والفعل الرشيد والذكاء الاجتماعي والمهارة والبراعة في إدارة مواقف تالية حتي يعود مرة أخري، لكن هذا يحتاج وقتًا وجهدًا لتعويض الخسارة ومحو آثارها وتجديد وتحسين الصورة والمكانة. المشهد السياسي في مصر مشكلته ليست في الأخطاء السياسية الفادحة فحسب، فقد تحملنا أنظمة سابقة رغم فداحة الأخطاء، لأن رصيدها الأخلاقي كان رفيعاً، مشكلة هذا النظام في الفساد الذي أفقده مصداقيته، وفي تآكل رصيده الأخلاقي، حتي صار الرصيد بالسلب، فتجاوز الصفر.. للمديونية، ونجح بامتياز في فقدان أي مكانة لدي الناس. في تقديري الأسباب كثيرة، بل تستعصي علي الحصر في مساحة مقال، لكن العاملين الرئيسيين في تقديري هما أولاً الفساد الاقتصادي والاجتماعي للنخبة السياسية برمتها، وهو ما يعرفه الناس قبل أن يؤدي التنازع علي الثروة لتحريك قضايا الفساد في مواجهة من يعرف القاصي والداني فسادهم، وهو ما يتم بقرار سياسي (أو سيادي) في اللحظة «المناسبة»، وقد يصبر الناس علي الفساد المالي، لكن الأخطر هو الفساد الأخلاقي، والفجور في إنفاق الثروة، وهو ما يراه البسطاء الذين يشيدون للأغنياء قصورهم ويحرسون لهم حياتهم اليومية التي تشهد بالتردي الفاحش - في أغلب الأحيان- إلا من رحم ربي، ولا يدخر هؤلاء وسعاً في فضح أنفسهم بكل فخر، بل تعيش مطبوعات بالعربية والإنجليزية علي تغطية أخبارهم وتنافس غالبيتهم في صنوف الترف والانحلال. والناس تقرأ وتعرف وتغضب.. وتنتظر. أما العنصر الثاني والأشد خطرا فهو أداء الجهاز الأمني الذي تجاوز في فساد قياداته المعلوم المعدلات المسموح بها دولياً، وتجاوز في ممارسات قاعدته كل حدود الأخلاق، إهانة للناس وتعذيباً وتلفيقاً وتنكيلاً، دون حساب ولا عقاب إلا في حالات نادرة وذرا للرماد في الأعين، ثم يخرج من حوسب ليستلم عمله مرة أخري ويستمر في تجريد الناس من إنسانيتهم بدعوي أنهم لا يستحقون إلا ذلك، وأن هذا هو سبيل التعامل مع الغالبية، وضمان مكانة رجال الأمن، فيسحقون إنسانية البشر، ويدمرون كل معنيً للكرامة وأي رصيد لمعاني الانتماء للوطن في نفوس الناس، ولم أر في حياتي شعبًا يسب الوطن في الحياة اليومية مثلنا، من شدة القهر والقمع. فقد النظام رأسماله الأخلاقي من خلال هيمنة الفساد وبيع ثروات الوطن وتقسيم مساحاته علي المحاسيب والشركاء من أهل النفط (ما صفة علاء مبارك ليذهب للتعزية في أحمد بن زايد وينشر ذلك في الأهرام؟)، وأفلح في إسكات صوت القوي المعارضة في الأعوام الأخيرة، فالإخوان ليس لديهم جريدة تعبر عنهم أو منصة إعلامية يتحركون من خلالها في بيان رؤاهم، رغم أن القيادات التي تتبني الوهابية - السعودية تحديداً - (ولا أقول السلفية بشكل عام) المدعومة بالبترودولارات تتمتع بكامل الحرية في نشر أفكارها، فضلاً عن ملاحقة المدونين الشباب واعتقال بعضهم، ناهيك عن إسكات صوت الحركة الطلابية وأخيراً أعضاء هيئة التدريس. المشكلة أن تآكل وتجريف رأس المال الأخلاقي ينشر حلة من القبح العام في المجتمع، فالأخلاق قرينة الجمال، ولا أقصد بالجمال زخرفة القصور ولا تشجير الشوارع، بل أقصد مفهوم الجمال بالمعني العميق.. حتي إنك لو تحدثت اليوم مع أحد عن أي شيء جميل سخر منك، حتي صبرنا لم يعد.. جميلاً، بل صبر قبيح يأكل في القوب ويسوِّد الحياة في عيوننا. الأخلاق والجمال ليست قيما كمالية، بل شروط سياسة: إنسانية.. في حدها الأدني.