تمر مصر بحالة من الحراك السياسي ربما لم تشهدها منذ فترة طويلة، فهناك غضب عارم أسفر عن مظاهرات واضطرابات واعتصامات من قبل جميع طوائف الشعب بداية من الأطباء والصيادلة والمهندسين والمدرسين والمحامين والصحفيين والعمال وانتهاء بأولياء الأمور الذين طالبوا بإقالة الدكتور أحمد زكي بدر وزير التربية والتعليم بسبب صعوبة امتحانات الثانوية العامة. ولكن إلى أين سيتجه هذا الحراك أو ما هي مصادره ودوافعه وأسبابه؟ في غضون عام ستجري انتخابات رئاسية هي الثانية في تاريخ هذا البلد, وبعد ثلاثة أشهر ستنطلق انتخابات مجلس الشعب, وقبل حوالي شهرين تم انتخاب نواب مجلس الشورى عبر انتخابات شابتها العديد من علامات الاستفهام وسط اتهامات بالتزوير لحساب الحزب الوطني الحاكم. وحتى يتسنى لنا تحليل الصورة جيدا، وجب علينا قراءة الأمور بنظرة موضوعية بعيدا عن الانتماءات السياسية حتى نعلم ما هي دوافع هذه الثورة العارمة وما إذا كان النظام الحاكم هو المسئول الوحيد عن الوضع المزري الذي آلت إليه أحوال الشعب أم أن الأخير شريك في الجريمة. لست خبيرا أو محللا سياسيا ولكنني أود فقط الإشارة إلى دور الحكومة في معاناة الشعب ودور الأخير في تعقيد الأمور سواء بصمته تجاه كل ما يحدث أو بمشاركته غير المباشرة في حالة الفساد أو "الإفساد" البشعة التي تمر بها دولة من المفترض أنها تقود الأمة العربية لتحقيق حلم "الظهور" على الساحة الدولية، نعم إنه مجرد حلم بالظهور فقط ولا يتعدى ذلك فلن يكون لنا دور ريادي في العالم إذا لم نصبح "يداً واحدة" كأمة عربية يجب عليها أن تتكاتف بحكم العرق والجنس واللغة والدين حتى يكون لها دور على الساحة، ولا ننسى أن دول أوروبا نجحت في "الوحدة" بالرغم من الاختلافات الشديدة بينها ولكنها تخطت جميع تلك الحواجز من أجل غد أفضل. وبالمقارنة بين دول العالم العربي ودول أوروبا، نجد أننا أقل حظا بكثير فنحن دول فقيرة وضعيفة وبالرغم من مواردنا الفريدة فقد فشلنا في الوحدة ونحن في أشد الحاجة إليها، بينما نجح الأقوياء في ذلك ليصبحوا أقوى وتزداد فرصهم في إضعافنا، وسيكون من الجهل أو العار إنكار الحقيقة التي تقول إن الغرب دائما في عداء مع الشرق طمعا في ثرواته وخيره، ناهيك عن الأهداف الدينية التي لن أخوض فيها ويكفيك أن تتذكر عدد الحروب الصليبية التي خاضها الغرب للسيطرة على دول العالم الإسلامي وفي مقدمتها مصر. بالعودة إلى صلب الموضوع وحتى نتمكن من تحليل الوضع الحالي، يجب علينا الأخذ في الحسبان أن كل حاكم لديه مصالحه الشخصية التي تتمثل في الاحتفاظ بسلطته لأطول فترة زمنية ممكنة - وذلك لا يعيبه لأنه بطبيعة الحال إنسان لديه مطامعه وأحلامه - وسيحاول تفكيك أي قوة تهدد حكمه أو حتى تفكر في ذلك. وسنأخذ الأمر من أعلى إلى أسفل، فالولاياتالمتحدةالأمريكية - باعتبارها القوة العظمى في العالم - تحاول تفكيك جميع الأمم التي من الممكن أن تتحد وتمثل خطرا على كيانها أو على مكانتها الدولية، وفي مقدمة هذه الأمم "الأمة الإسلامية" ولا أقول "العربية" لأن الخطر الحقيقي على أمريكا - من وجهة نظر قادتها - ليس حلم القومية العربية لأنهم نجحوا في القضاء عليه وتدميره، فأصبح الخطر هو احتمال وحدة شعوب عدة دول يأمرها دينها بذلك ويكفيهم فقط العودة إلى كتابهم المقدس "القرآن" للإيمان بالفكرة وستكون الخطوة الثانية هي ظهور "بطل" يدعوهم للوحدة ويعمل من أجلها، وبطبيعة الحال ينبغي على هذا القائد أن يكون ذا بصيرة نافذة ولديه قدرة فائقة على استمالة القلوب، ومن وجهة نظرهم أن هذا الشخص هو المهدي المنتظر، ولديّ سؤال: هل نحن فاشلون لهذه الدرجة حتى ننتظر رجلا سيأتي في آخر الزمان لتحقيق وحدتنا ونحن أشد المحتاجين إليها بعدما أصبحنا بلا هوية ولا هدف ولا يشغل بالنا سوى توافه الأمور، علما بأننا إذا توحدنا سنحصل على كل مطامعنا التي نتقاتل حاليا من أجل الفوز بأقلها قيمة مستخدمين جميع الوسائل سواء المشروعة أو المحرمة. أمريكا تحاول تفكيكنا وتفرقتنا منذ زمن بعيد ونجحت في ذلك فأصبحنا عدة دويلات بعدما كنا أمة واحدة تشمل عددا صغيرا من الدول الكبرى. وكل حاكم في هذه الدويلات يحاول تفكيك شعبه من أجل السيطرة على مقاليد الأمور فيصبح هو الوحيد الذي يجتمع حوله الناس عند ظهور أي خطر، فهو الوحيد القادر على دفع المخاطر لأنه الوحيد الذي يمتلك القوة، وهو في نفس الوقت من يصنع هذا الخطر "الوهمي" فيخيف به الشعب الذي يتسم بطبيعة الحال باللامبالاة والسلبية فيضع ثقته في حاكم مستبد للدفاع عنه. وكل شعب في هذه الدويلات أصبح مقسما إلى عدة طوائف ومذاهب منها الديني ومنها السياسي، وفي العصر الحديث أصبحت هناك مجالات أخرى للتفرقة بين شعب البلد الواحد مثل زرع الفساد الذي ينمي الأحقاد باستخدام وسائل متعددة كالواسطة مثلا أو وسائل أخرى أقل قيمة بكثير ولكنها قد تنجح في أهدافها إذا ما أصبح هذا الشعب على حافة الهاوية وقريبا من الانهيار والضياع، ومن هذه الوسائل الحديثة كرة القدم، وفي صدارة هذه الشعوب "الشعب المصري" الذي بات مشغولا بالبحث عن "لقمة العيش" و"الكيف" و"اللذة الجنسية"، ولا أعمم فمنا الصالح ومنا الطالح ولكنني أتحدث عن الأغلبية والحالة التي أصبح من الممكن وصفها ب"حالة عامة". في عام 1532م ظهرت أول طبعة لكتاب "الأمير" وذلك بعد وفاة مؤلفه "نيقولا مكيافيللي" بخمسة أعوام، وفي عام 1559م تم إدراج أعمال هذا الكاتب في قائمة الكتب الممنوعة وقررت محاكم التفتيش إحراق جميع مؤلفاته. وللتعريف بمكيافيللي، هو كاتب إيطالي عاش في الفترة من 1496 وحتى 1527م وانتمى إلى أسرة متوسطة الحال، نجح في الترقي بالحياة السياسية حتى أصبح المستشار الثاني للجمهورية، وعندما استولت أسرة "ميديشي" على الحكم في 1512م تم نفيه لأنه كان معارضا، وفي المنفى تفرغ لكتابة عدة مؤلفات منها "الأمير" الذي كتبه ليهديه إلى الحاكم "لورنزو" حتى يسترضيه أملا في أن يمنحه الأخير منصبا سياسيا، وأورد في الكتاب نصائح شخصية مبنية على تجاربه السياسية يدعو "لورنزو" إلى العمل بها من أجل توحيد إيطاليا وكتب في مقدمة الكتاب "من نيقولا مكيافيللي إلى لورنزو، الابن العظيم لبيرو دي ميديشي". وجاء في كتاب "الأمير" عدد من النصائح المنافية للأخلاق والتي تدعو "لورنزو" إلى عمل أي شئ لتوحيد البلاد مستخدما القتل والإبادة والوحشية والنفاق والغدر والخيانة إذا تطلب الأمر ذلك، فضلا عن وسائل أخرى مشروعة مثل الحنكة والصبر والتريث والاتزان والتفكير السليم والاجتهاد لمعرفة بواطن الأمور. ولا ريب أن نقول إن مصر امتلأت بأشباه مكيافيللي ممن لهم مطامع خاصة ويسعون للحصول على مناصب سياسية عبر التملق إلى النظام الحاكم واسداء النصائح إليه، وإن كانت هذه النصائح بعيدة كل البعد عن القيم الأخلاقية، والغرض الوحيد منها هو الإبقاء على السلطة دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى. واشتهر الكتاب بفقرة وردت في الفصل الثامن عشر تشير إلى جميع ما سبق وهي "الغاية تبرر الوسيلة"، ويشار هنا إلى أن عددا من أشهر الحكام في العالم قرأوا هذا الكتاب بل وجعلوه مرجعا سياسيا لهم ومنهم هتلر وموسيليني ولينين وستالين، وفي عالمنا العربي حافظ الأسد وصدام حسين وغيرهما. وإذا ما نظرنا إلى واقعنا الحالي في مصر، سنرى أن وصايا مكيافيللي عرفت طريقها في النظام السياسي بل والاجتماعي أيضا، فالجميع يعمل لمصالحه الخاصة سواء النظام الحاكم أو أحزاب وتيارات المعارضة أو حتى طوائف الشعب وممثلوه في البرلمان، ناهيك عن المؤسسات الصحفية والنقابات المهنية مرورا برجال الأعمال ودعاة التغيير على شاشات الفضائيات وحتى التيارات الدينية وقادة ما يسمى بالإصلاح السياسي أو حملة شعار "الإسلام هو الحل". لست في مقام يسمح لي بالهجوم على أحد ولكنني أرى أن الجميع يعمل لمصالحه الشخصية دون الأخذ في الاعتبار بمستقبل هذا الوطن الذي يسير في طريق مظلم ويتغير حاله من سيئ إلى أسوأ. يقول مكيافيللي في كتابه: "من يصبح حاكما لمدينة حرة ولا يقوم بتدميرها وتخريبها، فعليه أن يتوقع نهايته لأن سكان هذه المدينة لديهم الدافع للتمرد باسم الحرية وباسم أحوالهم القديمة". ألا يحدث ذلك في مصر؟ في فقرة أخرى، يقول الكاتب: "في الدول التي تقوم على النظام الجمهوري تكون الحياة أفضل والعداء للحاكم أشد مما هو عليه الحال في الممالك، فالشعب في الجمهورية لا يتخلى بسهولة عن ذكريات حريته القديمة، لذلك فإن الطريقة الأكيدة للبقاء في السلطة هي تخريب الدولة وإضعاف قواها". ألا يحدث ذلك في مصر؟ ويضيف: "إن من يظن من الحكام أنه إذا قدم خيرا للناس فسيمحو به آثار استبداده القديم، سيكون مخطئا خطأ جسيما لأن الإساءة لا يمكن أن تمحى من نفوس العظماء، وهم سكان الجمهورية باعتبار أنهم عاشوا نظاما ديمقراطيا حراً". وهذا ما أخشاه!! إذا ما قرأت كتاب "الأمير" بعناية فيمكنك أن تخرج منه بعدد من الأهداف التي يمكن الربط بينها وبين ما يحدث في مصر حاليا، ولقد استخرجت منها الآتي: في عالم السياسية، يجب أن يكون لديك أصدقاء لديهم القدرة على مساعدتك حال وقوعك في خطر معين قد يضر بمصالحك الشخصية أو يهدد موقعك في السلطة، كما أنه يجب أيضا أن يكون لك عدو أو مجموعة من الأعداء. وقد يتسم هذا العدو بالقوة أو الضعف، فإن كان قويا فعليك التخلص منه وإلا هددك غدا - إن لم يفعل ذلك اليوم، وإن كان عدوك ضعيفا فعليك الاحتفاظ بعداوته لأنه سيكون مبرر وجودك في السلطة أمام شعبك، تستطيع أن توهم العامة بأن هذا العدو خطير جدا وأنك تعمل للقضاء عليه، في حين أنه عدو ليست لديه القوة الكافية للقضاء عليك أو تهديد موقعك السياسي. وتجدر الإشارة هنا إلى"المحافظين الجدد" في الولاياتالمتحدة الذين استخدموا نظام "القاعدة" وضخموا من قوته وقوة زعيمه "أسامة بن لادن" من أجل الضغط على الشعب الأمريكي "الساذج" حتى يجعلوه يؤمن بأن هناك خطرا كبيرا يهدده ولذلك وجب الوقوف في صف النظام الحاكم والتحالف معه من أجل القضاء على هذا التهديد. وفي حال إذا لم يكن لديك أعداء - وذلك مستحيل أو نادر الحدوث - فيجب عليك صناعة عدو حتى تحتفظ بهيبتك أمام الشعب وإلا ستكون مجرد إداري يدير شئون العامة ولا يرهبهم، وفي تلك الحالة سيسهل الطمع في سلطتك والغدر بك وربما من أقرب أعوانك لأنه لا يهابك، فيجب عليك أن ترهبه بصناعة عدو "ضعيف" تستطيع القضاء عليه ولكنك لن تفعل ذلك ليظل من حولك في حاجة إليك، فإن تهاوى عدوك بسبب ضعفه فعليك بصناعة عدو جديد. كل ذلك يحدث في مصر متجسدا في النظام الحاكم وجماعة "الإخوان المسلمين" فضلا عن المعارضة الشكلية ونواب الشعب الذين يعملون لمصالحهم الشخصية، وحتى على الساحة الاقتصادية فإن هناك عددا من رجال الأعمال يتبعون هذا الأسلوب لضمان استمرار احتكارهم لبعض السلع. قد تتجه مصر إلى نفق مظلم في الفترة المقبلة بسبب ضعاف النفوس الراغبين في الاستمرار في السلطة بأي ثمن، في مواجهة ضعاف نفوس آخرين يقتصر هدفهم على الوصول إلى الحكم دون أي اعتبارات أخرى وبالرغم من قدرة النظام على إبادتهم وبحماية "دولية" لكنه يستخدمهم لضمان استمراره في السلطة عن طريق إقناع الشعب بأنهم متطرفون وإذا ما وصولوا إلى الحكم فسيستخدمون العنف "الديني" لإرهاب الناس حتى نصبح ذات يوم مثل أفغانستان أو إيران، ونحن ضعفاء لا يمكننا الصمود أمام أمريكا إذا ما قررت حينها غزو مصر للقضاء على الإرهاب. وبالنظر إلى جميع ما سبق فإن الحل، من وجهة نظري، هو أن نبدأ جميعنا في الابتعاد عن الأهواء وأن ننظر بعناية إلى الخطر الذي يحوم حولنا وأن نبدأ بتغيير أنفسنا فإذا ما نجحنا في ذلك سيكون منطقيا ومقبولا أن نطلب التغيير من الآخرين ويوما ما سيستجيبوا لنا. وأتمنى أن نبتعد كل البعد عن فكرة العنف سواء من قبل النظام أو المعارضة بجميع طوائفها لأن الخاسر الأكبر في المعركة سيكون "نحن" والمستفيد الوحيد هو "الغرب" الذي قسمنا قديما ويسعى الآن إلى تفرقتنا ونزع الأفكار الوسطية من عقولنا لننتهج العنف، فينجح قادة الغرب فيما يسعون إليه من هدفين: الأول هو بقاؤهم في السلطة عبر زرع حالة من الخوف بين شعوبهم بأن هناك عدوا من العالم الإسلامي لديه فكر متطرف ويسعى لتدميرهم، والثاني هو ابادتنا وإضعافنا وتسليمنا "لقمة سائغة" إلى أنياب العدو الحقيقي لنا وهو الكيان الصهيوني المتطرف المدعو "إسرائيل". وللحديث بقية........