في شارع كبير – كشارع الهرم مثلا – يستطيع خمسون ميكروباص ومائة توك توك أن يتسببوا في شلل حركة السيارات لساعات، وذلك بأن تصطف التكاتك والميكروباصات في نهر الشارع، في التقاطعات الرئيسية في المنصورية والمريوطية والطالبية والتعاون والمحافظة، فتضطر السيارات إلى السير في الحارة الرابعة على أقصى اليسار، فيتزاحم المارة مع سيارات النقل والملاكي والأجرة والأوتوبيس، ويختنق المرور ويغادر أمين الشرطة الوحيد في كل تقاطع ليجلس في ظل شجرة، أو خلف حائط منزل بعيدا عن الزحام..هذا بالضبط هو الموقف في مصر الآن. في استطلاع رأي أجْرته إذاعة وتلفزيون البي بي سي هذا الأسبوع، كان السؤال المطروح هو: هل تمثل جبهة الإنقاذ في رأيك مطالب الشارع المصري ؟ وكانت نتيجة الاستطلاع كالآتي: 18 ٪ قالوا نعم.. تمثل، و82 ٪ قالوا لا.. لا تمثل ! جبهة الإنقاذ التي ملأت الدنيا صياحا وولولة إعلامية، عن الظلم والقهر والقمع والفشل والخراب في عهد الدكتور مرسي، يرى أقلُ من خُمس المستطلع رأيهم أنها تمثلهم، فأي شارع تحرك جبهةُ الإنقاذ ؟ ومن أجل إنقاذ ماذا قامت هذه الجبهة ؟ ولماذا يهدد زعماؤها بمقاطعة الانتخابات البرلمانية القادمة ؟
أذكّر حضرتك ببعض النقاط المهمة في تاريخ المنطقة، في عام 1991 أجريت الانتخابات البرلمانية في الجزائر، وفازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيادة عباس مدني بأغلبية المقاعد، ووجب على الجبهة أن تشكل الحكومة، فاعترضت فرنسا؛ راعية الحرية والديمقراطية؛ على نتيجة الانتخابات، وقام كبار رجال الجيش بإجبار الرئيس الشاذلي بن جديد على إلغاء النتيجة فرفض، فأجبره الجيش على الاستقالة، وجاءوا برجلهم محمد بوضياف الذي ألغى الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزب سياسي، واعتقل أعضاءها وألقاهم في السجون، ثم اغتيل بوضياف على يد أحد أعوانه بعدها بستة أشهر، وجاء اليمين زروال رئيسا، وتلاه بوتفليقة، المهم أن الجزائر لم تقم لها قائمة منذ إلغاء نتيجة انتخابات 1991..
في عام 2006 أجريت الانتخابات في أراضي السلطة الفلسطينية، وفاز الإسلاميون من حماس بأغلبية المقاعد، ورفضت كل الفصائل المشاركة في الحكومة، وشكلت حماس الحكومة في غزة، وبعدها بعدة أسابيع اندلعت الاشتباكات بين فتح وحماس، وانتهت بسيطرة حماس على قطاع غزة، ليتحول الانقسام السياسي إلى انقسام جغرافي، وفي 2007 قام رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بإقالة الحكومة، وتعيين حكومة سلام فياض، ومن يومها حوصرت غزة، وترسخ الانقسام الفلسطيني بين غزة ورام الله.. ومن يومها لم تقم للقضية الفلسطينية قائمة..
وعَوْدٌ إلى مصر.. جبهة الإنقاذ المصرية تكونت أساسا من ثلاثة مكونات رئيسية: الحزب الوطني المنحلّ ممثلا في السيد عمرو موسى، و(رد انت عليه يا حسين)، ومن يريدون إحياء النظام الناصري بعد موته ممثَلين في السيد حمدين صباحي، والليبراليين العَلمانيين ممثَلين في الدكتور البرادعي، وحول كلٍ من هذه الرموز تجمع المؤيدون والإعلاميون والشباب المؤمن بمبادئهم، ممن شاركوا في ثورة يناير أو لم يشاركوا، وهؤلاء جميعا كانوا يعلمون علم اليقين أن أي انتخابات تُجرى في مصر، ستكون نتيجتها في صالح الإسلاميين، تماما كما حدث في الجزائر 1991، وفي الأراضي الفلسطينية في 2006، ونظرة إلى انتخابات مجلس الشعب المنحل في 2012؛ ستبين لحضرتك النسبة الحقيقية لشعبية بقايا الناصريين، لم يحصلوا على مقعد واحد في المجلس ! وطبعا كان نصيب الحزب الوطني صفر، ونصيب الليبراليين حوالي الخُمس، أي نفس نسبة استطلاع البي بي سي الأخير!
وعندما وجد أعضاء جبهة الإنقاذ أن السلطة التنفيذية أصبحت في يد الإخوان بانتخاب مرشحهم رئيسا؛ بدأت الولولة وعلا الصراخ، ولم يتوانوا عن استغلال كل فرصة للإيقاع بالرئيس الإخواني، فإن رد عليهم العقلاء بأن الحلّ في اللجوء إلى صندوق الانتخابات، كان تهديدهم بمقاطعتها، واتهام الإخوان بتزويرها، لأن الإسلاميين – في زعمهم – يعتمدون على جهل الشعب وأمّيته، ويضحكون عليه بالزيت والسكر، والحقيقة أنهم يعرفون وزنهم ووزن الإسلاميين الحقيقي في الشارع المصري إن أجريت الانتخابات، ولأنهم منفصلون عن الواقع المصري في القرى والكفور والنجوع في الريف والعشوائيات والتكتلات السكانية، بينما الإسلاميون متواصلون مع هذا الواقع، فإن دُعيت الجبهة إلى الحوار؛ قالوا: نتحاور بشروط كذا وكذا، ولا يتحاورون، ويدعون أنصارهم إلى التظاهر والاعتصام لإسقاط النظام.
وبينما يموِّل (مجهولون) (مجهولين) آخرين ليتظاهروا أمام قصر الاتحادية، ويلقوا زجاجات المولوتوف على القصر الرئاسي، ويضربون الخرطوش على رجال الأمن؛ يتبرأ أعضاء الجبهة من هذه الأعمال، هم فقط يريدون إسقاط الرئيس الإخواني ! وليذهب اقتصاد البلاد إلى الجحيم، ولتحترق مصر بأيدي البلطجية، ولتسد الفوضى ويعم الاضطراب، ولتقطع أرجل السياح وتغلق المصانع، ويتعطل الناس ويعاني الشعب، ويختفي الدولار ويغرق الجنيه، ولتشتعل محافظات القناة وتُعزل سيناء عن مصر، ويشيع مفهوم مغلوط للحرية؛ (كل واحد يعمل إللي هو عايزه)..ووو، مش مهم أي حاجة، المهم أن يسقط الرئيس الإخواني، وألا تستقر أوضاع الحكم والأمن والقضاء، لأن هذا الاستقرار يعني المحاسبة على ما ارتُكب عبر ثلاثين عاما من جرائم، لا تسقط بالتقادم.
إن الموقف في مصر الآن كازدحام السيارات في شارع الهرم ! عدة عشرات من سائقي التكاتك والميكروباص تستطيع أن تعطل سيولة المرور في الشارع كله من أجل مصلحتهم، ولا يستطيع المارّة أن يصححوا الوضع، لأن كل ميكروباص أو توك توك به سنجة أو فرد خرطوش، يستخدمها السائق البلطجي وقتما يريد، ورجال الشرطة تواروا في الظل خلف الجدران، لا يأبهون لما يحدث، ينتظرون أن تعود أوضاعهم إلي ما كانت عليه.
إن في مصر الآن من يريدها أن تصبح في 2013 كالجزائر في 1992، أو كغزة في 2007، ولن ينقذها من هذا المصير الأسود، إلا أن يتذكر الرئيس مرسي أن يوم 15 مايو 1971 خُلِّدت ذكراه أيام السادات رحمه الله، ليس كمدينةٍ أو كوبري أو جريدةٍ فحسب.. إسلمي يا مصر..