لم يتبق سوى ساعات معدودة لإعلان اللجنة العليا للانتخابات نتائج فرز الأصوات بصورة نهائية، أما بإعلان فوز مرشح الاخوان محمد مرسى، أو خسارته وفوز منافسه احمد شفيق، وأى كانت النتيجة علينا جميعا أن نحترمها سواء اختلفنا مع هذا أو ذاك. لأن رفض النتائج والتشكيك فيها قد بدأ بصورة استباقية فى تقسيم مصر إلى قسمين أو فصيليين، حتى إن المشاجرات بين بسطاء الشارع المصرى وداخل وسائل النقل العام صارت بسبب الانقسام بين مؤيد لهذا وذاك، وهو أمر ينذر بأسوأ العواقب التى يمكن أن تمر بها مصر. فلم نر من قبل الشارع المصرى فى مشاجرات سياسية على هذا النحو، مما ينبئ ببوادر حرب أهلية مسلحة بين قسمى الشعب، وهو ما لا يتمناه أى عاقل مصرى يحب هذا البلد أو حتى لا يحبها ولكن يعيش على أرضها، فمهما كان طعم السلطان وحلاوة السلطة والتربع على كرسى الرئاسة، والذى بات بعد الثورة حلم كثير الحالمين رغم أنه صار مدججا بالأشواك. ومع تصعيد كل من مؤيدى مرسى وشفيق للهجة التشكيك والاتهامات، ومحاولة اختطاف الفوز حتى قبل النتيجة النهائية، بتنا نخشى على مصر من الانزلاق فى سيناريو من اثنين، الأول عاشته الجزائر عام 1992، والثانى عاشته دولة ساحل العاج عام 2010 . فما حدث فى الجزائر جاء عقب إعلان فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات التشريعية، وهو الامر الذى لم يقبله جنرالات الجيش، والذين قاموا بإجبار الرئيس الجزائرى "الشاذلى بن جديد" على إلغاء النتائج، وعندما رفض لأنه وعد شعبه بأن تكون النتائج من اختيار الشعب أجبره العسكر على الاستقالة. واستدعى الجيش المحارب القديم في حرب تحرير الجزائر، محمد بوضياف والذي كان يعيش في المغرب بعيدا عن صراعات السلطة ليكون رئيس المجلس الأعلى للبلاد، ونشط الجيش فى تنفيذ حملات اعتقال ضد عناصر الجبهة، ويقال إن عدد المعتقلين بلغ 30 ألف شخص. واعلن أعضاء الجبهة الإسلامية الحرب على الجيش والنظام، وشنوا حرب عصابات دامية بعد ان انضمت لهم فصائل أخرى تنتهج مبدأ الإسلام السياسي، وكان أفراد الجيش وقوات الشرطة الهدف الرئيسي للمسلحين الذين اتخذوا من المناطق الجبلية في شمال الجزائر معاقل رئيسية، ولكن فى المقابل قتل عشرات الآلاف من المواطنين الأبرياء المدنيين فى تلك الحرب الدامية، حيث كان المسلحون يقتحمون قرى وأزقة ويبيدون أهلها عن آخرهم بقطع رقابهم والتنكيل بهم لابراز الجيش والشرطة بمظهر الضعف الذى أفلت زمام الأمن من أيديهم. وبقيت الجزائر على هذا النحو والحرب الاسلامية المسلحة تستهدف عناصر الجيش والشرطة والمدنيين على حد سواء ، فتدهور الاقتصاد، وزاد الوضع تأزما بعد اغتيال محمد بوضياف في 29 يونيو 1992 ، وهنا بدأت الجزائر تدخل منعطفا اخطر، حيث لم تعد الجبهة الإسلامية للإنقاذ صاحبة الكلمة العليا في توجيه الصراع المسلح مع الحكومة ، وظهرت أسماء مثل مجموعة التكفير والهجرة ، الحركة الإسلامية المسلحة ، الجبهة الإسلامية للجهاد المسلح ، وهى جماعات متطرفة في تطبيقها للإسلام السياسي مقارنة بالجبهة الإسلامية للإنقاذ . ولا يفوتنا فى هذا ان نلفت النظر الى ان جماعة التكفير والهجرة كانت مصرية المنشأ، حيث ظهرت أواخر الستينيات ، وانتشرت في العديد من الدول وبرز اسم الجماعة بصورة ملفتة للنظر في عام 1977 ، ولعبت دورا فى الحرب المسلحة بالجزائر . بل انضمت الى العناصر المسلحة التى نشرت الرعب والقتل فى الجزائر ايضا جماعات قادمة من أفغانستان ، والتى حملت معها المتناقضات الموجودة هناك ، وهكذا طال القتل وغياب الامن كل طوائف الشعب ، واستمرت اعمال العنف حتى عام 1998 ، راح ضحيتها اكثر من نصف مليون وفقا للاحصائيات التقريبية ، حتى ان مذبحة واحده بولاية "غليزان" في 30 ديسمبر 1998 قتل فيها 1280 مدنيا ذبحا . ولم تتراجع اعمال العنف الا بعد انشقاق الصف لجبهة الانقاذ ، ورفص فصيل منهم تلك الجرائم ، وفرار اعداد اخرى الى روما ، وفي 11 سبتمبر 1999 قدم الرئيس الجزائرى فى حينة " اليمين زروال " استقالته وتم تنظيم انتخابات جديدة ، وتم اختيار عبد العزيز بوتفليقة رئيسا في 15 ابريل 1999 . وقام بوتفليقه باجراء الحوار مع الجبهة الإسلامية، وحصل على موافقة من الجبهة بنزع أسلحتها كما أصدر العفو عن العديد من المعتقلين ، وعرض ميثاق السلم والمصالحة الوطنية لاستفتاء عام ، وذلك للعفو عن المسلحين الذين لم يقترفوا أعمال قتل أو اغتصاب ، إذا ماقرروا العودة ونزع سلاحهم وتمت الموافقة الشعبية على الميثاق في 16 سبتمبر 1999 ونزعت بعدها الجبهة الإسلامية للإنقاذ سلاحها فى يناير 2000 . وهكذا عانى شعب الجزائر صاحب المليون شهيد فى ثورة التحرير والاستقلال ، من رفض جنرالات الجيش الاعتراف باختيار الشعب وفوز الاسلاميين فى الانتخابات التشريعية ، ودفع الشعب غاليا ارواح ابناءه ثمنا لرغبة الهيمنة على السلطة . اما السيناريو الثانى الذى يمكنه الحدوث فى مصر فهو لا يقل دمويه ، وحدث قبل عامين فى الدولة الافريقية " ساحل العاج ، عندما رفض الرئيس المنتهية ولايته لوران جباجبو الاعتراف بخسارته وفوز منافسه عليه " حسن اوترار " فى الانتخابات التى جرت فى نوفمبر 2010 ، وذلك رغم ان جباجبو بقى على كرسى الرئاسة منذ عام 2000 ، وانقسم الشعب قسمين بين مؤيد لهذا وذاك فى الفوز ، والاغرب ان مؤسسات الدولة انقسمت على نفسها بين الفصيلين ايضا . فقد اعلن المجلس الدستوري فوز جباجبو في الانتخابات ، واستعد لان يؤدى اليمين الدستورية كرئيس للبلاد لفترة جديدة كما اعلن قائد الجيش دعمه لجباجبو ايضا، بينما قالت اللجنة الانتخابية المستقلة ان حسن اوتارا هو الفائز بموجب فرز الاصوات . ووقف نصف الشعب او اكثر بجانب اوتارا ، كما وقف بجانبه المجتمع الدولى كالأمم المتحدة ، فرنسا ، امريكا ، ودول غرب إفريقيا ، وشهدت البلاد اشهرا مريرة من إنقلابات دستورية وعسكرية وحروب أهلية وصراعات دموية راح ضحيتها المئات بسبب الصراع بين مؤيدى هذا وذاك ،وتهددت إعادة توحيد البلاد المقسمة فعليا إلى شطرين منذ الحرب الأهلية التي نشبت في عام 2002- 2003. وقام الجيش بما يشبه انقلاب عسكرى لصالح جباجبو الخاسر والذى تمسك زورا بفوز لم يحققه ،فاغلق الجيش الحدود البرية والجوية والبحرية في البلاد ، واصبح القتلى بالعشرات فى الشوارع بسبب الاقتتال على كرسى السلطة وعدم اعتراف الخاسر بهزيمته ، واصراره على انه الفائز حتى لو لم يحظ على الاغلبية من تأييد الشعب وارادته. وبعد أربعة أشهر من الاقتتال وضعت الحرب أوزارها بعد أن اوقعت اكثر من 1500 قتيل ونحو مليون مهجر، فقد نجحت القوات المؤيدة للرئيس الفائز حسن اوتارا فى اعتقال الرئيس المنتهية ولايته لوران جباجبو ، وتم جره إلى احد الفنادق ، ومن ثم تسليمه إلى اوتارا لتقديمه للمحكمه ، وتم تشكيل لجنة للتحقيق والمصالحة في المجازر والانتهاكات التى تم ارتكابها ضد المدنيين . انتهى الصراع " موقتا " على كرسى الرئاسة فى ساحل العاج ، لكن النار لا تزال تحت الرماد بسبب الاحتقان السائد بين انصار جباجبو خاصة من قوات الامن والجيش . وهذا عاش كل من شعبى الجزائر وساحل العاجل فى حقائق متشابهة ، ودفعا ثمن الطمع فى السلطة ، ورفض الاعتراف بارادة الناخب ، اى كانت ارادته ، والان اصبح الخوف يسيطر على فصائل الشعب المصرى . الخوف من ان يحسم العسكر بالقوة مالم تحسمة الديمقراطية " الهزيلة " فى مصر بعد الثورة ، او يحسم الاسلاميون او انصار شفيق الامر بالقوة والاستبداد وفرض النفوذ بالباطل ، لتضيع بقايا الثورة ومصر لها ، وسيكون اعداء مصر هم المستفيد الوحيد ، لذا علينا ان نقبل بنتيجة الانتخابات ايا كانت ، وان نتكاتف جميعا للعبور بمصر من هذا النفق المظلم ، والا بقينا فيه للابد ، ودفعنا ثمن التخبط بداخله الكثير الذى لا تعوضه سلطة ولا نفوذ ولا كنوز الارض .