«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف القعيد يكتب «1-2»: الدكتور فؤاد زكريا قال لي
نشر في الدستور الأصلي يوم 26 - 03 - 2010

من واجبي تحقيق نوع من التوازن بين جهدي في الترجمة وجهدي في التأليف أعتبر الترجمة عملاً خلاقاً ينقل النص بلغة عربية سليمة مع الالتزام بأدق المعاني التي عبر عنها المؤلف الأصلي
فؤاد زكريا
ظهر الخميس 11 من مارس الجاري. شعر الدكتور فؤاد زكريا بتعب مفاجئ. جاءه بسرعة البرق ابنه الدكتور مجد فؤاد زكريا، وهو واحد من أهم أطباء أعصاب الأطراف في مصر والوطن العربي والشرق الأوسط. ونقله إلي المستشفي. وبعد وقت قضاه في المستشفي طلب أن يعود لمنزله. وفور عودته توفاه الله. وتم دفنه في نفس اليوم. لكن عزاءه أقيم مساء السبت التالي في مسجد رابعة العدوية. وهذا ما سمعته خلال العزاء الذي كان الحضور فيه أكثر من محزن ومن مؤسف.
هذا ما قاله لي الدكتور فؤاد زكريا قبل سنوات. ينشر لأول مرة كاملاً مكتملاً دون أي حذف. عدت لمتن ما كتبته. واستحضرته وجلست أقرأه. فاكتشفت أن القراء لا بد أن يشاركوني قراءته.
في أوقات الأزمات لا نجد من مفكرينا سوي التراجع، تلك حقيقة، وإن كان الكل لا يتراجع في العادة، هناك من يبقي في مكانه، ولا تزيده الأزمة سوي ثبات علي موقفه، ربما يتحول الأمر إلي نوع من العناد الداخلي ومن هؤلاء الرجال الأستاذ فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بجامعة عين شمس سابقاً، والأستاذ بكلية الآداب بجامعة الكويت حالياً. الرجل يسكن بالقرب مني، وتربطنا صلة عمل تعود إلي سنوات مضت وعندما يبدأ الرفض ورحلة التراجع أذهب إليه، فهو يحضر إلي مصر في الصيف من كل عام، يقضي الأجازة فيها ثم يعود من جديد إلي الكويت.
ثلاث جلسات قضيتها معه أجري هذا الحوار وهو يستعد للسفر. كانت لدينا حالة من الفراغ الفكري القادمة تهددنا جميعاً بحالة من التآكل الداخلي، خاصة أن الفكرة مهنة لا تجد حتي الآن من يعترف بها، والمفكر مواطن مطلوب القبض عليه حتي يثبت العكس، ولأن المحاذير كثيرة في زمننا العجيب هذا فقد اخترت موضوعاً واحداً للحديث عنه؛ أزمة الواقع العربي الراهن، والاختيار ليس هروباً بأي حالة، لكنه محاولة منا حتي لا نتوه في الجزئيات، فهذه المرحلة مليئة بالجزئيات في كل مكان ولكن ألا يحسن بي تقديم الرجل أولاً.
المفكر أولاً:
ولد الدكتور فؤاد زكريا في أول ديسمبر سنة 1927 في مدينة بورسعيد. وتدرج في التعليم حتي حصل علي الدكتوراه من جامعة القاهرة. في سنة 1965 حصل علي جائزة الدولة عن دراسته للفيلسوف إسبينوزا. وقالت عنه اللجنة التي قررت منحه الجائزة إنه يبحث في أصالة ونضج ودرس مستفيض ورأي مستقل وقدرة علي الأخذ والرد وتجديد وابتكار في موضوع دقيق لم يعالج من قبل في اللغة العربية. رسالته للحصول علي الدكتوراه كانت حول مشكلة الحقيقة. وقد تولي رئاسة تحرير مجلة الفكر المعاصر، التي صدرت فترة في مصر في إحدي مراحل الازدهار الفكري النادرة في مصر الحديثة، من كتاباته: له دراسة عن ريتشارد فاجنر. وله دراسة حول نيتشه. ودراسة حول: الفن والمجتمع عبر التاريخ. وترجم كتاب العقل والثورة. وهو الكتاب الذي ألفه هربرت ماركيز عن هيجل. وقد صدرت من هذا الكتاب ثلاث طبعات حتي الآن، طبعة في بيروت واثنتان في القاهرة.
وفي الفترة الأخيرة أصبح مسئولاً عن سلسلة عالم المعرفة التي تصدرها وزارة الإعلام في الكويت.
قصة حزينة أختم بها هذا التقديم للدكتور فؤاد زكريا
إنه في العام الماضي عاد إلي جامعة عين شمس ليجدد أجازته التي حصل عليها دون راتب لارتباطه بمشروع عالم المعرفة في الكويت، ورغم أن الرجل واحد من الأسماء الضخمة والعملاقة، ومن الجباه العالية في الفكر العربي المعاصر، فإن الجامعة رفضت تجديد الأجازة، ودفعته إلي أن يقدم استقالته من العمل، مع أن مجرد وجوده قيمة كان يجب الحرص عليها. لكن من يقرأ ومن يسمع في هذا الزمن العجيب. كان السؤال الأول التقليدي عما يفعله الآن؟
العقل العربي:
أحاول أن أجمع الآن، ثم أقرأ ما كتب عن العقل العربي المعاصر، إذ يبدو لي أن كل مفكر في العالم العربي ينبغي عليه أن يقول كلمته في هذا الموضوع الحيوي، علي ألا يبدأ من الصفر، يبدأ أولاً بأهم ما قاله الآخرون، حتي يستطيع أن يضيف جديداً. أو علي الأقل يعالج إسهامات الآخرين من زاوية جديدة، ويبدو لي أن العقل العربي سيظل في حاجة إلي تأمل ذات بنظرة نقدية، بل إن ازدياد التدهور العربي يؤدي إلي المزيد من مراجعة النفس والسعي إلي كشف عيوبها الباطنة. ولذلك فإني أتوقع استمرار تدفق المؤلفات والأبحاث في هذا الموضوع. وآمل أن أكون قادراً علي الإسهام بنصيب في هذا الجهد المشترك الذي يضطلع به المفكرون العرب في عصر الأزمة الراهنة.
كان من الطبيعي أن أسأله عن جهوده كمترجم. وهل تأثرت بهذا الاهتمام الجديد بالشأن العربي أو التدهور العربي؟
لقد مرت مرحلة قمت فيها بمجهود غير بسيط في ميدان الترجمة، وكان هدفي من ذلك هو أن أستغل قدرتي في هذا الميدان (إذ إنني أعتقد أن الترجمة فن قائم بذاته. وإنني علي دراية بأسرار هذا الفن) لكي أعرف قراء العربية بعدد من النصوص والدراسات المهمة. وقد أسعدني رد فعل القراء علي هذه المترجمات، إذ كانوا يقرأونها كما لو كانت كتباً مؤلفة بالعربية. وهذه شهادة أعتز بها كل الاعتزاز ومع ذلك فقد بدا لي - بعد أن ترجمت ألوف الصفحات - أن من واجبي تحقيق نوع من التوازن بين جهدي في الترجمة وجهدي في التأليف، وهذا ما يبرر توقفي المؤقت عن الترجمة ولكن هذا التوقف لا يعني علي الإطلاق أنني قررت التخلي عن الاشتغال بالترجمة، إذ إنني أعتبر الترجمة عملاً خلاقاً حتي ينقل النص بلغة عربية سليمة مع الالتزام بأرق المعاني التي عبر عنها المؤلف الأصلي، ولذلك فإنني لا بد من أن أواصل العمل في هذا الميدان قريباً بعد أن أنتهي من بعض المشروعات التأليفية.
العرب والعلم:
للدكتور فؤاد زكريا كتاب مهم عن التفكير العلمي وقراءاته تثير سؤالاً حول موقف العرب المزدوج من العلم فرغم الاستخدام اليومي لمنجزات العلم، فإنهم لا يفكرون بصورة علمية.
قال لي:
- الواقع أن استخدام نواتج العلم ومنجزاته كالسيارة والتليفزيون وأجهزة التسجيل، لا يمكن أن يعد في حد ذاته حافزاً للتفكير بالأسلوب العلمي، بل إن إدمان العادات الاستهلاكية التي تؤدي بالمرء إلي أن يكدس أحدث الأجهزة التكنولوجية ويغيرها تباعاً، ربما كان عقبة في طريق التفكير العلمي ذلك أن العرب يتعاملون مع هذه الأجهزة من الخارج، ويدخلون مع التكنولوجيا الحديثة بسطحية فيكتفون باقتناء أحدث نواتجها ويستمتعون بها استمتاعاً لا يخلو من الدهشة والانبهار. لكن المشكلة أنهم لم يشتركوا علي الإطلاق في أي جانب من جوانبها في عملية الكشف العلمية التي استغرقت عشرات ومئات السنين واستنفدت جهد الألوف من العلماء والباحثين في المجتمعات الغربية.
فنحن نأخذ نتائج جهد الآخرين جاهزة وهم يدرسون ويبحثون ويفشلون أكثر من مرة في مقابل كل نجاح واحد. ونحن نتفرج وننتظر حتي ينجحوا، ثم نجني ثمار نجاحهم دون أن نحرك ساكناً. ولا أشك أن المعاناة الطويلة التي مرت بها الشعوب الغربية، أدت بها في النهاية إلي بلوغ مستواها الحالي الرفيع وهي وحدها الكفيلة بخلق عادات فكرية مرتكزة علي المبادئ العامة المستجدة من العلم، وهي المبادئ التي تتغلغل في عقول أفراد هذه الشعوب بفضل الممارسة الطويلة لأسلوب معين في الحياة وتنظيم الطاقة البشرية واستغلال الوقت المتاح حتي لو لم يكن هؤلاء الأفراد قد ورثوا من العلم أي فرع محدد. فالغربيون قد مروا بالتجربة كاملة منذ لحظات الكشف الأول والتجارب الأولي حتي لحظات التحقق الكامل ولذلك لا يعد التقدم العلمي والتكنولوجي بالنسبة إليهم مجرد إضافة من الخارج. وإنما أصبح أسلوبًا في الحياة والفكر متغلغلاً في شخصيتهم ومندمجاً في طبيعتهم. أما في حالتنا نحن فقد اكتفينا باقتناء النواتج النهائية وبالتوقف عند محطة الوصول دون أن نمر بالمرحلة ذاتها، ودون أن نجرب مشقاتها ومسراتها، ومن ثم فإن الاستخدام اليومي لأحدث نواتج العلم لم يغير في عادتنا الفكرية شيئاً، وظلت عقولنا تعاني الازدواجية المألوفة بين حياة خاصة تنتمي إلي صميم العصر وفكر داخلي مازالت تعشش فيه أوهام العصور الوسطي وخرافاتها. ومر علينا قطار العلم والتكنولوجيا دون أن يغير في داخلنا شيئاً كثيراً.
الحاكم والمحكوم:
في محاولة لتحديد سمات هذه المرحلة في حياة الوطن العربي، قال الدكتور فؤاد زكريا: أهم السمات التي تميز المرحلة الراهنة في عمر الوطن العربي هي:
1- بالنسبة إلي أنظمة الحكم، هناك انفصال حاد بين الحكام والشعوب علي مستوي الوطن العربي كله تقريباً. والسمة الأساسية لأنظمة الحكم في المرحلة الراهنة هي أنها حريصة علي البقاء في السلطة أكثر مما هي حريصة علي تأدية الوظيفة الأصلية للحكم، وهي رعاية مصالح مواطنيها والنهوض بهم. وترتب علي هذه السمة الأساسية نتيجة مهمة؛ هي أن البلاد العربية لم تكن في وقت من الأوقات بعيدة عن الديمقراطية بقدر ما هي في المرحلة الحالية، ذلك لأن جزءاً مهماً من أساليب الأنظمة الحاكمة هدفه المحافظة علي الحكم.
أي أن تحقيق غايتها الكبري يكمن في إسكان الأصوات المعارضة وإبقاء الشعوب فيما يشبه الغيبوبة التي لا تسمع فيها إلا وجهة نظر الحاكم من خلال أجهزة الإعلام. وهكذا فعلي الرغم من كل صيحات الدعاية المنظمة والموجهة، وكل ما يتشدق به عن تحقيق مطالب الشعوب والحكم الديمقراطي وثورات التحرير والتصحيح فالجماهير لا تملك حتي حق المشاركة في توجيهه.
2- أما بالنسبة للمحكومين، فإن الفوارق بين النفقات المختلفة في الشعب الواحد تتزايد علي الدوام، ولم تستطع كل تجارب الاشتراكية وتحقيق العدالة الاجتماعية أن تحدث تأثيراً حقيقياً في مستوي الشعوب العربية.
مما يدل علي أن التجارب كانت سطحية، لم يكن يقصد منها أصلاً أن تمتد إلي جذور الحياة وتعيد تشكيلها. ومن جهة أخري يبدو أن الفترة الطويلة التي انقضت منذ انتهاء عهد الممارسة الديمقراطية النسبية (وهو عهد الأربعينيات وأوائل الخمسينيات) وتعويد الإنسان العربي علي قبول القهر والضغط والتفرقة والحكم الاستثنائي حتي أصبح ينظر إلي هذه الأمور كما لو كانت جزءاً من طبيعة الأشياء وسنة من سنن الكون. وهذا في رأيي أخطر تغيير يمكن أن يطرأ علي الأمة العربية حتي يهزم الإنسان فيها من الداخل. ذلك الوضع الاجتماعي المحير كان قائماً منذ عهد بعيد وسيظل قائماً - علي الأرجح - مدة طويلة. لكن هناك فارقاً أساسياً بين وعي الإنسان بهذا الظلم وإدراكه أنه لا يمكن أن يدوم ومقاومته له بالأساليب الإيجابية أو السلبية وبين قبوله واستسلامه له كما لو كان قدراً محكوماً ومصيراً لا يمكن رده ومقاومته. وأخشي أن أقول إن حالة الاستسلام هذه هي التي تميز وضع الشعوب العربية في المرحلة الراهنة، وهي التي تميز هذه المرحلة عن جميع المراحل السابقة التي كانت فيها هذه الشعوب تعبئ نفسها لمقاومة القهر أو تخزن في وعيها، علي الأقل، شعوراً بأن هناك وضعاً ظالماً ينبغي أن تعمل علي إصلاحه يوما ما.
خرافات وأوهام سياسية:
الإجابة السابقة تضعنا أمام السؤال التالي مباشرة عن العقل العربي وعودته إلي الخرافة والوهم والغيبيات.
أعتقد أن السبب الأساسي لعودة العقل العربي، في الآونة الحالية إلي حالة الخرافة والتمسك بالغيبيات هو سبب سياسي.
رد عليَّ الدكتور فؤاد زكريا:
- أعتقد أن السبب الأساسي لعودة العقل العربي، في الآونة الحالية إلي حالة الخرافة والتمسك بالغيبيات هو سبب سياسي اجتماعي في المحل الأول.
أما السبب السياسي فيكمن في أن أنظمة الحكم العربية تؤمن بأن بقاء الشعوب في حالة الجهالة يساعد علي الإمساك بزمامها والسيطرة عليها بسهولة علي حين أن تخلصها من هذه الحالة، وخروج العقل إلي النور، يؤدي إلي انتشار روح التمرد علي الأوضاع الظالمة فيها. وهكذا نلمس جميعاً أن أجهزة الإعلام التي تخضع لأنظمة الحكم في بلادنا خضوعاً يكاد يكون تاماً؛ تقوم في هذا بدور مزدوج. فهي من جهة تفسح المجال وتفتح الأبواب علي مصراعيها لأصحاب الدعوات الغيبية وأنصار الخرافة ومروجي الأساطير وتفرضهم علي الناس وتضخم صورتهم حتي يتصور الناس في نهاية الأمر أن هؤلاء عمالقة بحق وأن اتجاهاتهم التي هي في واقع الأمر شديدة التخلف هي وحدها الاتجاهات الصحيحة. وهي من جهة أخري ترفض تماماً أن تسمح لأي رأي راديكالي مستنير أن يعبر عن نفسه. أو أن يرد علي دعاوي الفئة السابقة ويقارعها الحجة بالحجة. وهكذا تكون المعركة بين الطرفين غير متكافئة بل لا تكون هناك معركة علي الإطلاق في واقع الأمر، لأن أحد الفريقين حر طليق يصول ويجول كما يشاء، والثاني مكمم الفم مغلول اليد ومع ذلك يقال إن الفريق الأول هو الذي انتصر علي الثاني. وأما السبب الاجتماعي فيرجع إلي أن حالة الكبت والقهر التي تعانيها الشعوب العربية لا تدع أمامها أي مهرب من التفكير الخرافي والاحتماء بالغيبيات. فالخرافة تصبح عندئذ ملجأً وملاذاً للشعوب المقهورة المغلوبة علي أمرها، لا تدري مما يحدث حولها شيئاً، ولا تملك أي تحكم في مصيرها، ومن المعروف أن الخرافة تزدهر في أوقات الشعور بالعجز واليأس واستحالة الاهتداء إلي مخرج. علي أنها تخسر عندما يسود الإحساس بالتفاؤل والقدرة علي الإمساك بزمام الأمور. والواقع أن التفكير الخرافي يؤدي لوظيفة مهمة في حالة الشعوب التي تمر بأوضاع مماثلة لتلك التي تمر بها الشعوب العربية: إذ يقدم إليها عزاء من نوع خاص، ويحميها من التفكير المباشر في أوضاعها السيئة ويمنحها أملاً في الخلاص؛ صحيح أن هذا الأمل كاذب، لكن هل نملك شيئاً سواه.
إن التشخيص السليم للمشكلة، بطبيعة الحال هو أن استمرار التفكير الغيبي والخرافي يؤدي إلي الإبقاء علي الأوضاع التي يشكو منها الشعب العربي. كما أن هذه الأوضاع تساعد علي استمرار هذا النوع من التفكير. إنها حلقة مفرغة، ولكن من الواضح أن الخروج منها لن يتم إلا بتغيير تلك الأوضاع التي تؤدي حتماً إلي إفراز تفكير لا عقلي. أما الدعوة إلي تغيير تفكير الناس أولاً، وبعد ذلك تغيير الظروف والأوضاع، فهي دعوة معكوسة أو مقلوبة، لأن العقول لن تتغير من فراغ، ولا يعاد تشكيلها بقرار أو خطة ترسمها مقدماً، بل إنها لا تبدأ في التغيير إلا بعد أن تتبدل الأوضاع التي أضفت عليها قالبها الخاص وتشكلها تشكيلاً يتلاءم مع طبيعتها السلبية.
إليها يا أنا:
اعذريني لن أتذوق الكلام عنك وإليك هذا الأسبوع.
سأحدثك عن فؤاد زكريا.
لم يسعدك زمانك بزيارته والجلوس في بهو وقته والتردد عليه والاستماع إليه.
ولو تم هذا كنت ستقولين لي بصوتك العميق الذي يصلك بظلال روحي ونبراتك التي تحيي الخيال:
- إنك بعد الزيارة غيرك قبلها.
حتي لو تمت الزيارة في أيام مرضه الأخيرة.
كنت ستجدين ما يدهشك، ويثير اهتمامك.
ربما فكرت في تكرار الزيارة رغم أنك كائن بديع لأنه استغنائي. لا يلهث وراء سراب ولا يجري خلف مغانم.
ورغم صعوبة أن يقول الإنسان لا. عندما يكون عند عتبة البداية، فالفارق بالنسبة لك بين نعم و لا. مثل الفارق بين نور النهار. يا نور الدنيا كلها. بعد أن بدلت ضباب حياتي بضياء لا حد لجماله وبهاه. وقلق وجودي أمناً وأماناً. وهدوء أيامي توتراً خلاقاً.
أضفت لحياتي الكثير. الأسئلة أصبحت تلد الأسئلة. والأفق البعيد لم يعد مكاناً للمخاوف. بقدر ما أصبح مزرعة للأحلام. أحلام العمر المؤجلة.
وظلام الليل الريفي الدسم. يا من بددت كل الظلام الذي كان.
وجعلت منه ماضياً تاماً.
ربما قلت لي عند العودة من زيارته:
- لقد رفعنا كؤوسنا لنشرب منها العطش. هكذا أنت تدركين أن الرضا السهل والقناعة السريعة يقتلان فضول الأسئلة. ويغتالان القدرة علي مشاكسة الواقع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.