ارتدى د. العريان زي بابا نويل وفجّر مفاجأة ليهود إسرائيل، وقنبلة في وجوهنا نحن في أواخر عام 2012، وهي أنكم إخوتنا اليهود مرحّب بعودتكم إلى بلدكم الحبيب مصر، بل وستستردون أملاككم أيضا! هل تريدون شيئا آخر؟ طلباتكم أوامر! ظللت فاغرة عينيّ أمام تصريحه الأخير بدهشة بالغة محاوِلة فهم ملابسات إصداره له، هل سهر طويل جعله لا ينتبه جيدا لما يقول؟ هل تعب مفاجئ؟ لا ها هو يظهر في مداخلات هاتفية في برامج التوك شو ليؤكد وجهة نظره! إنه يقصد ما يعنيه بالفعل! والمصيبة الأكبر أن القيادي حسن حمدي يعضد كلامه ويؤكد أحقية اليهود في استرداد أملاكهم! بغض النظر عن كون العريان تارة يمارس مهام رئيس الوزراء ويعلن عن قرب تغييرات في الوزارة الجديدة، وتارة هو وزير داخلية، ومؤخرا هو وزير خارجية يتحدث عن عودة اليهود وحقوقهم، ولا صفة رسمية محددة له تتيح له الثقة في تصريحاته الغريبة كل مرة. الأهم.. من نصّبه متحدثا عن الشعب المصري، من أعطى له الحق في الحديث نيابة عنه في أمور خطيرة كهذه؟ فعند حديثه عن الهولوكوست لمجلة أمريكية لم يعلق أحد على الأمر وتم التغطية عليه، لكن بالطبع عند حديث د. البرادعي عنه قامت الدنيا ولم تقعد.. تخيل معي لو أن صاحب هذه التصريحات كان من المعارضة ولن نقول البرادعي، تخيل كمّ الاتهامات بالعمالة والخيانة وأخوية الصهاينة التي كانت ستلقى عليه، كانت نار جهنم ستفتح عليه ولن يشفع له أي شفيع. لكن من أطلق التصريحات هذه المرة فرد من الإخوان المسلمين، لذا لا هجوم ولا استنكار من جانبهم إلا بقدر يسير يحفظون به بعض ماء الوجه. ظللت منتظرة أي إدانة لما قال، فظهرت العادة المعتادة من التبرير للتبرير، وهذه المرة الأسباب كانت خيالية، فتجد جيش المدافعين يخبرك أن طلبه ليهود إسرائيل -الذين ليسوا يهودا معتدلين، بل صهاينة تطبعوا بطابع دولة الاحتلال ويرسل أطفالهم الإهداءات على الصواريخ قبل قصف أطفال فلسطين بها- إنه بذلك يريد عودة يهود مصر إلى مصر ويهود المغرب إليها وهكذا، فيرحل اليهود عن فلسطين وتعود حرة! هنا لا تملك سوى أن تصيح في افتتان بهذه العقلية، ما أبدعك! فمن يبرر يرى أن يهود إسرائيل يتكونون من يهود العالم العربي فقط، وليس هذا فحسب، بل إن إسرائيل احتلت فلسطين لأن يهودها تركوا بلادهم الأصلية فلم يعد لهم مكان للعودة، ولو سمح لهم بالعودة سيتركوها فورا. فمبادئ التاريخ نفسه غائبة تماما لديهم؛ اليهود في مصر منهم من تركها إيمانا بفكرة أرض الميعاد ومنهم من تركها قسرا بالفعل وظلم مع من آمن بفكرة الصهيونية، لكن النهاية واحدة، أن هذا الجيل بمتعصبيه ومعتدليه انتهى، أحفادهم من تربوا على ثقافة إسرائيل التي لا تحتاج إلى شرح بعد كل هذه السنوات هي التي تسير في دمائهم. ومبرر آخر أكثر خجلا من التصريح، لكن يحاول صبغه بجانب الحق لا يعرف دينا أو لونا. فعلا إعطاء كل ذي حق حقه هو الهدف! فلماذا تذكر د. العريان حق الإخوة اليهود الأعزاء فقط دونا عن سائر الجنس البشري؟ الأرمن الذين رحلوا عن مصر لهم حقوق، والأجانب من جريج وطليان وغيرهم الذين رحلوا بعد العدوان الثلاثي لهم حق كذلك. ولو بحث بين بني وطنه سيجد أن المصريين لهم حق، آه والله! ملف الأسرى المصريين الذي هو ورقة ضغط تحاشى مبارك اللعب بها كي لا يغضب الكيان الصهيوني وأمريكا وتحاشى النظام الحالي الحديث عنه كذلك. بينما المعاملة الوحشية والمقابر الجماعية التي وقعت وقت النكسة هي حق أولى بالعريان أن يكون أول اهتماماته، ليس من ناحية الدبلوماسية والسياسة فحسب، بل من أجل "حق" أهالي هؤلاء الجنود من أهل بلده. هناك ملفات عدة بها الكثير من "الحق" لنتحدث عنه.. ملف الألغام في أرض العلمين ومرسى مطروح، التي جعلت الدولة عاجزة عن استصلاح أي شبر في هذه الأرض، وتودي بحياة الأطفال وأهل هذه المنطاق. فاليهود أقاموا مأتما جماعيا على واقعة الهولوكوست وأعطوه أكبر من حجمه وجعلوا أوروبا كلها تشعر بالذنب، وأخذوا حقهم مقابله "تالت ومتلت"، هذا الملف هو ورقة ضغط على ألمانيا وأوروبا غير مستغل، فإما الخرائط التي توضح أماكن الألغام وإما تعويض عن الأرواح التي تُزهق والأراضي التي ستظل صحراء للأبد. "الحق" موجود بوفرة في قضايانا.. أولى بنا البحث عنه.. والتعامل الهين مع تصريحات د. العريان ليس مقبولا ولا يمكن أن يمر مرور الكرام، خصوصا بعد كشف موقع "والا" الإخباري الإسرائيلي عن بدء وزارة الخارجية الإسرائيلية بحصر جميع ممتلكات اليهود المصريين الذين تركوا البلاد خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لمطالبة السلطات المصرية بتعويضات كبيرة، مضيفا أن تل أبيب تنوي إثارة تلك القضية خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع المقبل في نيويورك. وقد أكد الموقع الإسرائيلي أن وزارة الخارجية في القدسالمحتلة تعمل على رفع مستوى الوعي لدى اليهود من ذوي الأصول المصرية والعربية، من أجل استعادة أملاكهم من مصر وغيرها من الدول العربية، التي تم مصادرتها للمطالبة بتعويضات ضخمة، فيهود أوروبا بعد الشكر والترحاب، وبعد اعتبارهم الرئيس مرسي والعريان إخوة لهم -فإسرائيل لن تفوت هذه الفرصة للصيد في الماء العكر- طالبوا بما يعادل 30 مليار دولار تعويضا عن أملاكهم في مصر.. فليدفعها د. العريان من ماله الخاص إذن في ظل دولة تعاني وتترنح تحت ظروف اقتصادية شديدة الصعوبة. الواقع أن جماعة الإخوان قد بالغت في طمأنة أمريكا وإسرائيل تجاه سياستهم: "لا تقلقوا من حكمنا.. لن نكون مصدر قلق"، لكن أن تصل إلى هذه الدرجة من الانبطاح للكيان الصهيوأمريكي فهو غير مقبول. لم أكن أتخيل أن يأتي اليوم الذي نرى فيه صور متظاهري إسرائيل وهم يحملون علم مصر وإسرائيل وبينهما قلب المحبة.