يوم الثلاثاء 4 ديسمبر 2012 توجّهت جموعنا معشر الثوار بقيادة ال"5،6،7،3،4" الذين تحدث عنهم الرئيس مرسي منذ أيام في خطابه أمام الاتحادية، إلى "الحارة المزنوقة" التي ذكرها في نفس الخطاب -على حد قوله- ل"نعمل الحاجات الغلط" التي أرجو أن يتفضل سيادته بتوضيحها لنا قبل أن نذهب بتفسيراتنا لأفكار مش ولا بد.. للأسف كانت الأعداد أكبر من أن تحتويها الحارة المزنوقة، بالتالي لم نتمكن من عمل الحاجات الغلط، فلم يكن أمامنا سوى أن نعمل الصح، وقد كان، عن نفسي كنت في مظاهرة الإسكندرية والتي أفزعتني أنا شخصيا أعداد حضورها، ففكرة أن يحتشد كل هؤلاء وأضعافهم في القاهرة ضد رئيس لم تمر نصف سنة على رئاسته تدفعني إلى التساؤل: "ماذا فعل هذا الرئيس بالضبط؟". هذا السؤال هو بيت القصيد، فالمفترض بأي رئيس في أي دولة تحترم نفسها حين يرى الحشود تخرج ضده أن يسارع بسؤال نفسه "ماذا فعلت؟ أين الخطأ؟" وعلى فصيله السياسي أن يساعده بتحليل أفعاله ومواقفه، لمعرفة موضع العلة التي جعلت آلاف المواطنين يتركون مصالحهم وأشغالهم ويخرجون للشوارع هاتفين ضده وضد قراراته.. لكن مع الأسف نحن ما زلنا نعيش في الجو الرخيص الذي ساد مصر ستين عاما: جو الرئيس الرمز الذي لا يُمَس.. تلك الحالة المرضية التي يتحول فيها الخطاب السياسي للرئيس تعليقا على المعارضة إلى حديث عن: مؤامرات، دسائس، عنق الزجاجة، تهديد أمن الوطن، ويتلخص فيه النشاط السياسي لقطاع كبير من المؤيدين في رفع صور الرئيس والتهليل "اعملها يا ريّس واحنا معاك" .. لا مشكلة عندي في أن يكون لمرسي مؤيدوه، ولكن مشكلتي مع من يتعاملون، مع منصب رئيس الجمهورية، إنه زعيم.. قائد.. أب.. رمز.. ملهم، فمثل تلك الصفات ليس من الصحي إطلاقها على صاحب هذا المنصب خلال فترة رئاسته.. ثم بحق الله أي فصيل أو تيار سياسي هذا الذي يرى الآلاف يخرجون للمعارضة يوما فيسعى لحشد أضعافهم للتأييد؟! هل هذه رسالة ضمنية للرئيس أن "لا تكترث لمن يعارضك فنحن أكثر منهم عددا"؟ وهل المفروض من أي رئيس يحترم نفسه أن يتجاهل المعارضة لو فرضنا أن ممثليها قليلو العدد؟ هؤلاء يتجاوزون حدود التأييد والدعم إلى حدود استنكار المعارضة.. يمكنني أن أتفهم -بل وأتفق- مع من يستنكر "بعض أساليب وطرق المعارضة" ولكن استنكار مجرد المعارضة خصوصا لقرارت خطيرة، كتحصين قرارات الرئيس من الطعن أو تحصين التأسيسية هو الشطط بعينه. وما يستفز المرء في كلامهم حديثهم عن أنه لو أن كل قطاع من الشعب لم يعجبه قرار للرئيس خرج للتظاهر فلن تسير أحوال البلد، وهو قول فيه من قصور الفكر ما فيه، فالذين خرجوا لمعارضة مرسي بشأن إعلانه الدستوري وتأسيسية الدستور ليسوا مجرد فئة أو تيار واحد، بل هم من تيارات وفئات مختلفة.. والذين حضروا مليونية الثلاثاء 4 ديسمبر اتفقوا في أنهم أحسوا نفس أجواء الأيام الثمانية عشر الأولى للثورة المصرية.. نفس التنوع من النواحي الاجتماعية والفئوية والثقافية والمهنية والدينية والعمرية والفكرية.. بالأمس حضرتُ نفس مشهد الصلاة حين قام إخواننا المسيحيون بعمل كوردون حولنا لحمايتنا من السيارات المارة أو أي اعتداءات محتملة بينما نحن نصلي، بل وكان أخ مسيحي يمسك المايكروفون للإمام خلال الصلاة.. نفس الحماس من سكان البنايات التي مررنا بها ودعواتهم لنا.. نفس مشهد التظاهرة التي تبدأ بثلاثمائة فرد ثم تتحول إلى مسيرة حاشدة بعشرات الآلاف.. لا أعني هنا تشبيه التظاهرات ضد مرسي بالثورة على مبارك، فثمة فوارق تاريخية واضحة أهمها نقطة يعتبرها بعض مؤيدي مرسي ذريعة للقدح فينا معشر معارضيه، هي أن ثار الشعب على مبارك بعد ثلاثين عاما بينما نهب نحن في وجه مرسي بعد بضعة أشهر، ويعتبرون أننا بهذا نظلم محمد مرسي.. بينما المتأمل في الصورة كاملة يدرك أن شيئا ما تغيّر -أو لنقل تمت استعادته- لدى المصريين، وهو أنهم قد أصبحوا شديدي الحساسية لأي تصرفات أو مواقف رسمية قد تعيدهم إلى أجواء الظلم والطغيان وسيطرة الفرد أو الفصيل الواحد.. حساسية بلغت بهم استباق الخطر بالتصدي له.. وإن كان هذا في الظروف العادية ظلما فإنه فيما يتعلق بدولة خرجت توا من عقود من الظلم والقمع، أمرا شديد الصحيّة.. فنحن قد تحوّلنا إلى شعب يقف بالمرصاد لحكامه ومع أول هفوة أو حتى بوادر غلطة فادحة يهب في وجوههم.. ألم يضعنا لعقود -بل وقرون- أننا لم نكن كذلك؟ صحيح أن الحياة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد بتلك الحساسية، ولكن الأمر يشبه مريضا شُفِيَ مؤخرا، ولكنه يحتاج إلى فترة رقابة طبية صارمة ليضمن ألا تنتكس حالته.. يعود بعدها ليتوازن في تعامله مع محيطه.. والثورة ليست فعلا يستغرق شهورا ثم يمضي، بل هي حالة أو هي أشبه بالأجسام المضادة في جهاز المناعة.. لا تخمل بعد زوال المرض بل تستمر في العمل على تحصين الجسم من أي احتمالات لتكرر هذا المرض.. وتعالوا نتأمل ما كتبه لي اليوم صديق عزيز من شباب الإخوان على صفحتي على Facebook "عارف يا وليد والله العظيم رغم اختلافي الشديد مع المعارضة وإنت عارف ده.. إمبارح وأنا باتفرج على الأعداد افتكرت من سنتين بالظبط زي اليومين دول قبل الثورة.. التظاهرات أعدادها كانت عاملة إزاي وحال الشعب كان عامل إزاي.. شعب مصر خلاص مابقاش بيسكت على حقه.. والله فرحت جدا". نعم، ما كان من شدة صرامتنا في مراقبة تصرفات مرسي وحكومته هو أمر صحي، حتى وإن استغله بعض المنتفعين وأصحاب الأطماع -وهل تخلو ثورة منهم؟!- فدورنا أن ننقي صفوفنا منهم، ولكن كيف السبيل إلى كشفهم لو التزمنا الهدوء أو بحثنا عن الاستقرار؟ والتوقف عن المراقبة والمعارضة ليس الحل لسد ذرائعهم.. وإن فرضنا ذلك فهل من حقنا في المقابل أن نطالب التيار الديني بالتوقف عن نشاطه بذريعة وجود تجار دين بين صفوفه؟ بالطبع لا! ما حدث بالأمس في محيط قصر الاتحادية وميدان التحرير ومنطقة سيدي جابر بالإسكندرية وكل ميادين الثورة المصرية هو -في رأيي وتحليلي كباحث في التاريخ- علامة صحية أن هذا الشعب قرر أن يعيد حكّامه إلى وضعهم الطبيعي في أي دولة محترمة: خادم للشعب مدين بمنصبه له وليس وصيا عليه أو راعيا لقطيعه.. وأتحدى أيا من أهل التيار الديني المؤيدين لمرسي أن يثبت أن في هذا مخالفة للشريعة الإسلامية الغرّاء. قلتها بعد خلع مبارك بأيام "الرئيس الجاي لمصر أيا كان لازم يطلع عينه" لا أعنيها بأن نتربص به ونعارضه لمجرد المعارضة ولكن أن نشتد في تقويمه إذا أخطأ لتكون سُنّة في الأجيال القادمة، ألا يترددوا في القسوة على حكامهم إن حادوا عن الصواب.. والحشود التي خرجت بالأمس أرسلت للجميع رسالة واضحة، أن شعب مصر قرر أن تكون سنّته القادمة في حكامه أن يلزمهم أن -على حد المثل الشعبي- "يمشوا على العجين ما يلخبطوهوش".. وأن القسوة والشدة عليهم هي رحمة ورفق بالوطن والشعب.. أو كما يقول الرائع تميم البرغوثي: يا شعب مصر اكم فرعون و فرعونة ضربتوهم ضرب سجادة في بلكونة ضرب الملوك تربية صالحة و مضمونة ما يبقوا بني آدمين إلا إذا اتضربوا ضرب الملوك مصلحة ضرب الملوك تأديب محلى المماليك وهي بتجري في السراديب ولولا ضرب شجر الدر بالقباقيب ما بين أغا وباش أغا كانوا التتار غلبوا نعم.. هكذا سيكون -بإذن الله- شعب مصر من الآن فصاعدا إلى ما شاء الله.. وعلى من يفكر يوما أن يتولى حكم مصر أن يدرك هذا جيدا.. وأن يتعامل مع المعارضة -ولو كانت بالمئات لا الملايين ولا الآلاف- بجدية واحترام.. لا أن يتحدث عن الحارة المزنوقة والناس اللي بيعملوا حاجات غلط.