محمد أبو الغيط "حينما وصل بلاك -اللي هو مدير البنك الدولي- وابتدا يتكلم معايا في تمويل السد العالي قعد يقول: إحنا ماحناش بنك سياسي، وأنا ماليش دعوة بأمريكا مطلقا، أنا مستقل أقول الرأي اللي أؤمن بيه، فأنا قلت له: مجلس الإدارة بيمثل دول، كيف يكون مجلس الإدارة بيمثل دول وما يكونش بنك سياسي؟ طبعا إنت بنك سياسي، لأنك ما تقدرش تعمل أي قرار إلا إذا وافق عليه مجلس الإدارة اللي أغلبه من الدول الغربية اللي ماشية في فلك أمريكا. وابتديت أنظر إلى مستر بلاك وكنت أتخيل إني قاعد قدامي فرديناند ديليسيبس، كل بلاك ما كان يتكلم وأحس بالعقد اللي موجودة في الكلام اللي موجود، يرجع بيّ التفكير إلى فرديناند ديليسيبس، بعدين قلت له: اسمع.. احنا عندنا عقدة من هذه المواضيع، ماحناش عايزين نجيب كرومر في مصر تاني علشان يحكمنا؛ عملوا زمان قروض وفوايد على القروض، والنتيجة إن بلدنا احتلت، فأرجوك في كلامك معايا تحط هذا الاعتبار في نفسك؛ عندنا عقدة من ديليسيبس، عندنا عقدة من كرومر، عندنا عقدة من الاحتلال السياسي عن طريق الاحتلال الاقتصادي". كانت هذه كلمات جمال عبد الناصر في خطابه الشهير الذي أعلن فيه تأميم قناة السويس ردا على رفض البنك الدولي تمويل السد العالي كعقاب أمريكي، ملمحا إلى عهد الخديوِ إسماعيل الذي أغرق البلاد في الديون، حتى اضطر في النهاية إلى بيع أسهم قناة السويس لدائنيه البريطانيين، وكانت هذه أول خطوة في احتلال مصر بعدها بسنوات قليلة. وما زالت كلمات عبد الناصر صالحة لتصف بدقة جوهر علاقة المؤسسات المالية الغربية مع دولنا النامية بشكل عام حتى اليوم. عصر مبارك.. عصر الخضوع العظيم على خطى الخديوِ إسماعيل كانت سياسة الخديوِ مبارك الاقتصادية، ملتزمة تماما بمنظومة الاقتصاد الغربي التي يمثلها صندوق النقد، واتصفت بسمتين رئيسيتين، أولاهما: الالتزام الكامل بشروط الصندوق لمنح القروض، فتم تطبيق سياسة "التكييف الهيكلي" التي جعلت القطاع الخاص، خاصة الأجنبي منه، هو المحرك الرئيسي للاقتصاد، وبناء على ذلك تمت خصخصة شركات ومصانع القطاع العام، وتحرير سعر صرف العملة، وتم إقرار حزمة من القوانين المنحازة اقتصاديا وعلى رأسها قانون ضرائب يوسف بطرس غالي، وباستمرار تكررت نغمة أهمية تقليص الدعم والإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية والشعبية من أجل ضبط ميزان المدفوعات. ثاني سمات اقتصاد مبارك الخضوع السياسي لكل ما تمليه الدول الغربية النافذة في البنك الدولي وعلى رأسها أمريكا، وكان الموقف الأكثر صراحة في ربطه بين السياسة والاقتصاد هو إسقاط نصف ديون مصر تقريبا (19.6 مليار دولار من إجمالي 48 مليار دولار) كمكافأة لمبارك على مشاركة مصر في الحرب ضد العراق عام 1990، وهو ما احتفل به نظام مبارك بجرأة عجيبة في أوبريت "اخترناه": "كنا في زنقة وضيقة وخنقة.. وديوننا تكتيفة وشنقة.. رسم الخطة محطة محطة.. خد نصها والباقي وراه". عصر الإخوان .. البحث عن بوصلة اقتصادية بين مشهد وقوف نواب الإخوان بكل صرامة لرفض قرض صندوق النقد إبان موافقة حكومة الجنزوري عليه، حتى أن بعضهم كالشيخ سيد عسكر اعتبره قرضا ربويا محرما، ومشهد استقبال قنديل بكل ترحاب لرئيسة الصندوق، بل وطلبه زيادة قيمة القرض من 3.2 مليار إلى 4.8 مليار، تظهر مشكلة الإخوان في كونهم حتى الآن لم يتبنوا نهجا اقتصاديا مستقلا واضحا، بل بدا من بعض رجال الأعمال المتصدرين مشهدهم الاقتصادي العديد من الإشارات التي تشير إلى رضاهم الكامل عن نظام مبارك الاقتصادي من حيث المبدأ مع تأكيدهم تميزهم باختلاف إجرائي لا جذري وهو منع الفساد والمحسوبية. ولم تفت هذه الإشارات العديد من الدوائر الغربية منذ وقت مبكر، على سبيل المثال في 24\1\2012 أشادت صحيفة نيويورك تايمز بما أبدته جماعة الإخوان من انفتاح بقبولها إلقاء صندوق النقد الدولي ب "حبل النجاة اقتصاديا للقاهرة" وذلك خلال لقاء جمع ممثلين عنها مع ممثلي الصندوق، مشيرة إلى مفارقة أن يحدث هذا التحول في توجهات الجماعة "بعد ثمانية عقود من شجب الاستعمار الغربي والتبعية العربية"، وفي 8\6\2012 قبل جولة الإعادة قال أحد باحثي مركز مايو إرنست التابع لجامعة هارفرد في مقال بنيوزويك إن إدارة مرسي "قد تكون الخيار الأفضل من وجهة نظر أسواق المال" ممتدحا جماعة الإخوان بأنها "حساسة لاحتياجات رجال الأعمال"، وأشار إلى أن رفض نواب الإخوان لقرض صندوق النقد كان مجرد رد فعل لرفض المجلس العسكري السماح لهم بتشكيل الحكومة، لكن في النهاية ستتم الموافقة على القرض. وبالفعل لم يجد الإخوان صعوبة كبيرة في تغيير وجهتهم، وهكذا تغيرت المواضيع المتصدرة لموقعهم الرسمي من "القروض الأجنبية.. العودة إلى خطايا مبارك" و"الحرية والعدالة: لدينا موارد تغنينا عن البنك الدولي" و"د. مرسي لوفد النقد الدولي: لا نريد أعباء اقتصادية جديدة" إلى "هل يجيز فقه الضرورة القروض الربوية؟". هل حقا أمامنا خيار؟ يردد المدافعون عن القرض حجة أنه لا يوجد أمامنا خيار أو بديل آخر في ظل نقص الموارد، لكن بحثا بسيطا لمن يرغب في ذلك سيفتح مجالات واسعة للبدائل الجديدة أو حتى القديمة المطروحة منذ عهد مبارك. على رأس الموارد البديلة تغيير القوانين المنحازة إلى الأثرياء، بداية بجعل الضرائب تصاعدية تشمل شرائح أكبر بدلا من القانون الحالي الذي يجعل أعلى شريحة هي 20% يتساوى فيها كل من زاد دخله عن 40 ألف جنيه حتى لو بلغ مليارات، بخلاف الوضع حتى في معاقل الرأسمالية، فالشريحة الأعلى في أمريكا 36% وفي فرنسا 42% وفي السويد 48%، كما يمكن فرض ضرائب إضافية، كالضريبة العقارية على الإسكان الفاخر كقصور الساحل الشمالي (تقدر حصيلتها ب 4 مليار جنيه سنويا)، وضريبة الأرباح الرأسمالية على أي نشاط لا يشمل إضافة إلى الاقتصاد، كالمضاربات السريعة في البورصة أو ممارسة "تسقيع" الأراضي والعقارات. كما يمكن تقليل أو منع الدعم عن الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، والتي يملك أغلبها أجانب يكسبون أعلى بكثير من المعدلات العالمية لربح هذه الصناعات، وينتظر أن يوفر هذا الإجراء وحده 10 مليارات جنيه، وفي نفس السياق يمكن إعادة التفاوض لرفع الأسعار البخسة لتصدير الغاز إلى إسبانيا والأردن في إطار عقود مريبة قام بها نظام مبارك. ويمكن أيضا الحصول على مبالغ طائلة بضم أموال الصناديق الخاصة إلى الموازنة العامة، وذلك بعد حصرها بشكل دقيق، فتقديرات حجمها الهائل تتراوح بين عشرات المليارات وحتى تريليون و272 مليون جنيه. وعلى صعيد آخر بإمكان المواطنين تمويل بناء المشروعات التي تهمهم والمساهمة في ملكيتها، كالمصانع كثيفة العمالة أو مشاريع المياه والكهرباء عبر الاكتتاب، بشرط توفر الشفافية الكاملة والثقة، وقد بدأت د. هبة رءوف هذه الدعوة بإعلانها استعدادها للمساهمة بثلاثين ألف جنيه قيمة ذهبها، اقتداء بتبرع أمهاتنا وجداتنا بذهبهن في الماضي. فهل سيقوم الرئيس مرسي بالبحث جديا عن بديل للقرض أم أن الإخوان حقا لا يعانون من عقدة ديليسبس؟