هكذا بين يوم وليلة تحوّلت كل مدارس مصر لقاعات مفتوحة يحتفل فيها الشعب المصري بزفاف مصر على الديمقراطية، على مدار يومين متواصلين كانت "الدُخلة" التي انتظرناها طويلاً، بعد أن كنا قد ظننا فينا عقماً يعوق هذا الزواج الذي نتمنى أن يكون كاثوليكياً لا فراق فيه. بمجرد أن شقّ النهار كبد السماء كشف على الفور عن قطارات بشرية لا نهاية لها، في تجمّع بشري ربما لا نجده في طوابير العيش أو طوابير الأنابيب، رجال ومسنون وشباب ومراهقون وسيدات... كلهم تجمعوا من أجل حضور ذلك العرس الذي أتى بعد فترة طويلة من العنوسة الديمقراطية التي أجبرنا عليها ذلك النظام المهترئ. ففي لجنة محمد فريد سرحان بشارع شريف بحلوان كان التفاؤل يعمّ الجميع، والابتسامات تعلو الوجوه رغم طول الصفوف والانتظار، لكن الحدث يستحق "وآهو كله علشان ولادي" كما يؤكد أحمد إبراهيم الذي أتى منذ السادسة صباحاً؛ أملاً في أن يشارك في التصويت ويرحل قبل أن يحين موعد العمل، ثم ينظر لي بعينين تلمع فيهما مقدمات دموع، متذكراً بشيء من الأسى كيف كان مدير المصنع يشحنهم في أتوبيسات؛ لتأييد مرشح الحزب الوطني مقابل حافز تميّز ووجبة غداء، وإلا فالخصم ثم الخصم ثم الخصم. غادرت اللجنة بخليط من السعادة المملوءة بالشجن، وعلى بُعد شارعين كانت لجنة مخصصة للسيدات فقط، طابورها أطول من قرينه بلجنة التصويت الرجالي، وعلى رأس الطابور وجدت زميلة الدراسة والعمل تقف في محاولة لتنظيم الصفوف تطوعاً؛ فهذا صف للمسنّات غير القادرات على الانتظار، لهن أولوية الدخول "ما هو لو ماشلناهمش دلوقتي ماحدش هيشيلنا بعد كده"، هكذا تقول بابتسامة ساحرة استمددتها من سحر الموقف وشجنه. استأذنتها في دخول اللجان؛ لتفقد الأحوال، فقابلني ضابط القوات المسلحة المسئول عن تأمين اللجنة، فأبرزت له شارة الإعلاميين التي أحملها على صدري، فسمح لي بالدخول، وبالداخل كانت الصناديق بعدها تتشوق لبطاقات الناخبين، ولكن القوائم ما زالت في الطريق "مش معقول القضاة ييجوا من صباحية ربنا والقوائم تتأخر لغاية دلوقتي"، هكذا عبّرت شيماء فهمي -مندوبة أحد المرشحين- عن استيائها من أخطاء بهذا الصغر ولكن تأثيرها بهذا الكبر، وعدْتها بنقل الصورة كاملة وانصرفت. وهناك في البساتين لم يختلف الوضع كثيراً، التأمين ربما يبدو أكبر بعض الشيء، جنود القوات المسلحة يقفون في حذر واضح أمام اللجان، أذلاء على الناخبين أشداء على البلطجية، يقفون خلفهم أو بجوارهم ضباط شرطة يفضّلون الابتعاد والتأمين من بعيد لبعيد، متبنّين قاعدة "الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح"، قبل أن يدور بينهم وبين ضباط الجيش حوار قصير عن أحوال التحرير والميدان، فتتباين الآراء وتختلف بين مؤيد ومعارض ومحايد وغير مهتم، فأستأذنهم في الدخول فأدخل. على باب إحدى اللجان الفرعية وقف شخص من مسئولي اللجان يرفض دخولي للتصوير أو رصد ما يحدث.. "اسأل سعادة المستشار ولو رفض هامشي" هكذا قلت له متمالكاً أعصابي، فما كان منه إلا الرفض القاطع: "يا بيه ماينفعش دي لجنة وانتخابات.. تصوير قال؟!!"، أصررت على أن تكون كلمة الفصل للقاضي الذي بمجرد أن علم بغرضي ما كان منه سوى أن قال: "يتفضّل طبعاً"، فدخلت مزفوفاً بروح الانتصار، محاولاً أن أمنع ضحكتي دون فائدة. بالداخل وجدت القاضي يوجّه الناخبين فيمنع هذا من دمج ورقتي القوائم والفردي في صندوق واحد، بينما ينبّه الآخر بما عليه فعله، بينما يحاول ثالث جاهداً أن يحشر ورقته بصندوق الانتخاب، وأنا منهمك في الحصول على الزوايا الأفضل للتصوير، قبل أن يلفت انتباهي بطاقات الترشيح التي تخلو من أختام اللجنة العليا للانتخابات، فتوجّهت بها للقاضي: "عادي ده سعادتك ولا إيه؟" فرفع كتفيه قائلا: "إنت شايف الأعداد عاملة ازاي، لو أصريت أختم البطاقات الأول الناس دي هتبيت، الأفضل إني أختمها في الآخر وقت الفرز، وأعمل بيها محضر وخلاص، دي أصلها مسألة تقديرية للقاضي"، فتفهمت موقفه واستأذنته في الانصراف، فودّعني ممازحاً: "يعني أنت صورت الناس كلها إلا أنا!". بمجرد خروجي من المدرسة وجدت السيارات الانتخابية تطوف أمام أبصار الجميع دون عائق تجيء وتروح مرات ومرات، قبل أن تعترض طريقي فتاة عشرينية العمر على ما يبدو، تقول وأثر الركض باد في صوتها وعروقها نافرة من رقبتها: "حضرتك صحفي"، فأجيب بنعم، فاستطردت: "والدي مرشح، غيّروا رقمه النهارده الصبح، دي انتخابات؟ هو ده النظام؟" هدأت من روعها وأبلغتها بأن انسحاب بعض المرشحين والأحزاب في اللحظات الأخيرة هو ما يتسبب في هذا التغيير الاضطراري، وواصلت مسيري إلى المعادي. في المعادي كمثل باقي الدوائر كان شباب حزب الحرية والعدالة مرابضين بجوار اللجان، منهمكين في شاشاتهم يرشدون المواطنين إلى أماكن لجانهم الانتخابية دون الإعلان عن هويتهم، فتجاوزتهم في طريقي للجنة، قبل أن تستوقفني سيدة يبدو عليها الهرم الشديد وبساطة الحال تقول: "قول لي يا ابني أنا معايا بطاقتي بس مش عارفة لجنتي ولا عارفة أنتخب فين، بالله عليك تساعدني"، فأرشدتها إلى المكان فتجاوزتني بتأثر شديد، ولا تتوقف عن الدعاء: "ربنا يحميكم، ربنا يبارك فيكم، ربنا يخليكم لمصر، ربنا يبعد عنكم الفتنة يا ولاد". نظرت إليها وقد أصابني التنميل في كل جسدي؛ فهذه مصر جديدة طالما حلمت بها ولم أجدها، وهذه رائحة مختلفة طالما اشتهيتها على فيس بوك ولم أصل إليها يوماً، إنها رائحة الحرية التي تعطرت بها مصر بعد أن غسلت أتربة الديكتاتورية من على زيّها الجميل. فتحية للشهداء الذين ماتوا من أجل أن نعيش هذه اللحظة.. لن ننساكم