قراءة الأخبار والمقالات وسماع الخطابات الإعلامية صار يحتاج إلى عينين مدققتين وأذنين حساستين وذهن يقظ لا تفوته الشاردة ولا الواردة. فثمة تناول خبيث من "البعض" للمفردات المرتبطة بالثورة المصرية، بحيث تتغير الصياغات وبالتالي تتغير الرسائل التي تصل لذهن المتلقي من وراء تلك الصياغات.. فعلى سبيل المثال قد يستخدم "البعض" سالف الذكر صيغة "أحداث 25 يناير" بدلاً من "أحداث ثورة 25 يناير".. والفارق بينهما ليس بالبسيط.. أو قد ينسب لحدث وطني مهم أحداثًا استثنائية دخيلة عليه، فيتحدث عن الاعتداءات الواقعة يوم الجمعة 9 سبتمبر على السفارة الإسرائيلية ومديرية أمن الجيزة ووزارة الداخلية قائلاً: "أحداث جمعة تصحيح المسار".. وهي صياغة شديدة الخبث توحي بأن الأحداث المؤسفة التي جرت ليل الجمعة 9 سبتمبر مرتبطة تلقائيًا بمظاهرات اليوم التي انتهت رسميًا في السابعة مساءً على الأكثر، مما يصم اليوم كله بوصمة الفوضوية والعدوانية، ويسحب هاتين الصفتين على القوى الداعية والمشاركة في تلك المظاهرات.
ومن أشكال العبث بمفردات الثورة المصرية محاولة النيل من الرموز المرتبطة بتلك الثورة، من أول المحاولات الدنيئة لتشويه سمعة الشهيد خالد سعيد -رحمه الله- والذي تعتبر حادثة قتله هي الشرارة الأولى التي ظلّت تكبر حتى أصبحت شعلة كاملة لثورة 25 يناير، مرورًا بالنيل من وطنية وإخلاص دكتور محمد البرادعي الذي كانت عودته لمصر وبدء نشاطه المعارض علامة فارقة فيما يمكن اعتباره "أعمالاً تحضيرية" لثورة الشعب المصري، ثم مرورًا كذلك بالتشكيك في ظروف وملابسات استشهاد شهداء الثورة بترديد أحاديث سخيفة عن التفرقة بين من لقي مصرعه في ميدان التحرير ومن سقطوا عند أقسام الشرطة، وانتهاءً بالسعي لخلق اختلاط والتباس لدى المواطن العادي المحايد بين "الأعمال الطبيعية للثورة" من اشتباكات دفاعية من المتظاهرين العزل مع الأمن المركزي قوي التسليح، و"أعمال القلة المخربة المستغلة للفوضى الأمنية المرتبطة بأية ثورة في العالم" من سلب ونهب وتخريب للمنشآت، بحيث ينظر لهما المواطن باعتبارهما "كتلة واحدة لا تتجزأ" فتختلّ رؤيته للثورة، وتصبح عنده مرتبطة شرطيًا بالتخريب والترويع!
كذلك نرى من صور وضروب هذا العبث "الدسّ" بين التيارات السياسية المختلفة بحيث تقوم بينها "خناقة" على "شرف بدء الثورة والمشاركة فيها".. فنقرأ في أحد المواقع السلفية الشهيرة عبارة "وهل كان لتلك الثورة أن تنجح لولا أن شارك فيها الإسلاميون مثل الإخوان والسلفيين؟"، ونسمع تصريحًا لمتحدث باسم حزب بارز ذي مرجعية دينية، متحدثًا عن التيار الديني قائلاً: "لقد قدمنا 850 شهيدًا ومستعدون لتقديم 8 ملايين آخرين لتطبيق الشريعة" (كأن ال850 شهيدا للثورة كانوا كلهم سلفيين أو إخوان بما فيهم المسيحيون منهم!).. ونرى الاتهامات من الليبراليين واليساريين للتيار الديني بأنه كان يعارض الثورة ولم يشارك فيها إلا عندما أيقن بسقوط النظام (ومسألة معارضة الثورة حقيقية بالنسبة فقط ل"بعض" أفراد التيار الديني و"بعض" فصائله السياسية، ولكنها تهمة لا يجوز تعميمها على كل التيار الذي شارك كثير من أبنائه في الثورة جنبًا إلى جنب مع باقي المصريين)، ونسمع بعض الأصوات اليسارية تحاصر شرارة بدء الثورة في دور الناشطين الاشتراكيين في تحريك الإضرابات العمالية، ونقرأ لبعض الليبراليين ادّعاءهم بأنه لولا بروز شخصية د.البرادعي ذي التوجهات الليبرالية ما كان للثورة أن تقوم!
هذه المعركة مَن المستفيد منها سوى من يرغبون في أن تصبح تلك الثورة كالطفل المتنازع على حضانته بين التيارات؛ حتى تسأم الأغلبية المتفرجة وتشعر بأن تلك الثورة لم تجلب لها سوى "وجع الدماغ"؟ يمكننا أن نتذكر ما جرى بعد سقوط صدام من انتشار مقولة: "على الأقل كان صدام يجمع كل تلك التيارات ولا يدع لها فرصة للتصادم"! ألا نخشى أن يقال المثل يومًا على عهد المخلوع مبارك؟
وبمناسبة تعبير "المخلوع"، فإن الجدل بين استخدام لفظي "السابق" أو "المخلوع" ليس بالجدل العبثي، فتعبير "السابق" ينفي ما جرى فعليًا من أن الشعب الثائر "أجبر" مبارك على ترك السلطة، فضلاً عن أنه يوحي كذلك بأن استمرار مبارك في السلطة بانتخابات مزورة طيلة تلك العقود كان شرعيًا، الرئيس الذي يستحق وصف "السابق" هو من يتولى منصبه ويستمر فيه بشكل شرعي ثم يتركه "احترامًا لرغبة الشعب"، وليس بعد أن يفشل في قمع ذلك الشعب بالشرطة والبلطجية والقناصة، فيضطر للرحيل!
أما "المخلوع" فهو ذلك الذي تولى منصبه واستمر فيه غصبًا، ثم اضطر لتركه بعد أن أعيته الحيل في التشبث بمقعده.. ثم رحل مشيعًا باللعنات..
وهذه صورة تضاف لصور التلاعب بتاريخ ثورتنا!
أما الطامة الكبرى والأمر الأخطر فيتمثل في التشكيك في ولاء بعض الحركات والتيارات الداعية للثورة والمنفذة والمشاركة فيها.. كاتهام حركة 6 إبريل بالانتماء في الأساس لحركة صربية، واتهام بعض القوى السلفية بتلقي دعم مالي منتظم من الدول الخليجية، واتهام الإخوان بتلقي الدعم من إيران، واتهام بعض الفصائل الليبرالية بالعمالة لأمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، لم يبقَ إذن سوى اتهام اليساريين بالعمالة للصين أو روسيا لتكتمل الصورة ويسأل المواطن نفسه: "إذا كان كل هؤلاء عملاء، من إذن قام بالثورة؟" يمكنني أن أتخيل فرحة أحمد سبايدر وعمرو مصطفى بانتشار هذه الشائعات وتصديق الشارع -لا قدر الله- لها!!
وبمناسبة هذين الشخصين.. بحق الله دعونا لا نستهين بهما وبأمثالهما.. فإن كنا معشر المثقفين والمتعلمين وأصحاب العقول الواعية نسخر منهما، فعلينا القلق من احتمال ولو 1% أن يكون هناك من يسمع لهما، صدّقوني لقد رأيت بعينيّ وسمعت بأذنيّ من تعتمد "ثقافتهم" على هذا الهراء وأشباهه!
وبالمناسبة.. لماذا لا يقلقنا التلكؤ في رفع اسمي حسني وسوزان مبارك عن المنشآت الرسمية؟ هل يحتاج الأمر لحكم محكمة ليدرك أصحاب القرار أنه ليس من حق مواطن مهما كان منصبه أن يطلق اسمه أو اسم زوجته على مبنى رسمي؟ ولماذا لم تُرفَع "إنجازات" مبارك من كتب التاريخ المدرسية؟ الأمر لا يحتاج سوى لقرار من الوزير، والوزير الذي يتردد في قرار كهذا أو يحجم عنه هو بالتأكيد أبعد ما يكون عن ملاءمة مرحلة ثورية من التاريخ المصري!
كل تلك الأمور تفيد أن ثمة مؤامرة -لا أحسبنا نجهل من وراءها- على "تاريخ الثورة المصرية"، وهي لا تهدف لتشويه الثورة على المستوى المعنوي فحسب؛ فالمتآمرون أهدافهم في النهاية عادة ما تكون مادية بحتة، وإنما هي تسعى لإفقاد الثورة مصدرًا مهمًا من قوتها هو "إيمان أغلبية الشعب بها"، وتسعى كذلك -وهو ما يقلق بشكل أكبر- لأن تدمر أية فرص لاكتساب الأجيال القادمة صورة إيجابية للثورة، وحيث إن التآمر على التاريخ مشروع بعيد المدى، فهذا يعني أن تلك القوى المتآمرة تسعى من الآن للتأسيس لعودة دولة فساد جديدة طويلة العمر..
إذن فتلك الأمور "الصغيرة" كصياغة عبارة أو خبر شارد أو عبارة في تصريح هي ليست بالبساطة والسطحية التي قد نحسبها عليها، وأعتقد أن الوقت قد حان لبدء الحديث عن صيغ اتفاقية يلتزم بها الجميع عند الحديث عن الثورة المصرية، وقد حان الوقت كذلك لحركة تأريخية توثيقية قوية لأحداث الثورة، تقوم بها وتشرف عليها جهات وشخصيات مستقلة موثوق من أمانتها ووطنيتها وموضوعيتها..
فإن لم نفعل فسنكون مهددين أن تؤتى ثورتنا من حيث لا نحتسب!