ظاهرة جديرة بالبحث، تلك التي تُدعى بالأدب الساخر.. فقط عليك أن تدخل لأي دار نشر، لتجد ما تحويه من كتب تندرج تحت "الأدب الساخر"، هذه الظاهرة دفعتنا للبحث عن تاريخ نشأتها وآراء لفيف من أشهر كُتّابها المصريين، ولعل من أشهر من كتب في هذا المجال بمصرنا هم: جلال البنداري، يوسف عوف، محمود السعدني، أحمد رجب، محمد عفيفي، أحمد بهجت وآخرون كُثر لا يحويهم مقال واحد. يصف أحد الكُتّاب الساخرين الكتابة الساخرة بأنها "سلاح الفقير على الغني، سلاح الضعيف على القوي، سلاح المظلوم على الظالم، سلاح المطحون على الطاحن، سلاح الثاني على الأول؛ لذا فالسخرية سلاح الأكثرية.. وهي نقد للواقع ورفض له لكن بشكل قادر على التعبير، وهي تمرير المعلومة للمتلقي التي يتمّ بناء المقال عليها في بعض الأحيان". كان لزاماً ليكتمل التقرير أن نرى ما رأي أشهر كُتّابنا المصريين الذين صنّفهم القارئ على أنهم ساخرون.. هل يوافقون على هذه التسمية، وما رأيهم بهذه الظاهرة، ومَن قدوتهم؟ بلال فضل: ربنا يجازي صاحب هذه البدعة! بلال فضل.. أحد ألمع مَن على الساحة، شرّفنا في "بص وطل" برأيه قائلاً: "أنا ضد تصنيف الأدب لساخر وغير ساخر؛ لكن ربنا يجازي صاحب هذه البدعة، ربنا يجازيه لأنه بها أخرج كُتّاباً عظماء مثل: محمود السعدني، وأحمد رجب، ومحمد عفيفي، وجلال عامر، وأحمد بهجت، و"عزيز نيسين"، وغيرهم من قائمة عظماء الأدباء, ووضع لهم تصنيفاً خاصاً؛ برغم أن كتابتهم مثلما هي مضحكة ومبهجة، هي أيضاً مثيرة للشجن والتأمّل وأحياناً الحزن.. هم في رأيي أعمق بكثير من بعض من يطلق عليهم أدباء كبار". وأضاف موضحاً غرضه من الكتابة: "أنا أكتب لكي أعبّر عن رأيي، ولا أعتقد أنني جلست يوماً وأنا أفكر قائلاً: هيا لكي أُضحك الناس؛ فهم يفتقدون البسمة.. على عكس السينما عندما أصنع فيلماً كوميدياً بغرض الإمتاع أو الإبهاج. الهدف هنا محدد؛ لكن أنا لم أتعمّد -ولو مرة واحدة- أن أكتب من أجل إضحاك أحد أو إتعاسه أو حتى تبصيره بالحقيقة.. أنا أكتب كي أعبّر عن رأيي فقط ولا أعرف هدفاً آخر غيره.. أعرف أن الناس تحب أن يقول لهم الكاتب إنه يكتب من أجلهم؛ لكن الحقيقة أنني لست كذلك". وتحدث عن قدوته قائلاً: "كما قلت لك لا يوجد في الكتابة سيد وعبيد.. هناك كتّاب رائعون أو كتّاب سيئون أو كتّاب عاديون.. عزيز نيسين يُضحكني أحياناً ويبكيني أحياناً أخرى.. "السعدني" كذلك.. تشيكوف كذلك.. أحمد بهجت كذلك.. كل الكتاب الموصوفون بالساخرين تظلمهم كثيراً هذه التسمية". وأكد تأييده لانتشار الكتابة: "أنا مع انتشار الكتابة أياً كان نوعها ورأيُنا فيها، من أنا لكي أحكم على الآخرين أو أحاكمهم؟ دعني أقول لك: ومن هو أي إنسان في الدنيا لكي يُنصّب نفسه حَكَماً على شخص يكتب رأيه كما يحلو له؟ المفروض أن نفرح بانتشار الكُتّاب والكتابة، ونترك الحكم للناس.. كل واحد حرّ في ذوقه واختياره ورأيه". عمر طاهر: الكتابة الساخرة "فخّ" عمله القارئ وفي اتصال تليفوني خاص فتح الكاتب عمر طاهر قلبه لهذا الموضوع قائلاً: أنا ضد تصنيف الأدب على أنه ساخر، القارئ هو الذي يصنف، أما أنا فكاتب أكتب أي حاجة، القارئ هو من يرغب بالتصنيف وليس الكاتب.. فالكاتب يكتب؛ يطلع خيال علمي، ساخر، حزين، ومش باكون قاصد حاجة من اللي باكتبها، باكون عاوز بس كتابة مفيدة، أشفي مرض معين، أكتب اللي عايشينه، ومش بيكون قصدي إني أكتب عشان أضحّك الناس؛ لأني مش كاتب نكتة وباقول بعدها "ترلرلرم". ونفى أن يكون قد تأثر بأي كاتب ساخر أو أي كاتب أصلاً؛ بل أثّر فيه: زياد الرحباني، بليغ حمدي، "حجازي"، صلاح الليثي، فؤاد حداد، صلاح جاهين.. ففؤاد حداد ليه حاجات ساخرة وكذلك جاهين؛ باختصار: أثّر فيّ شعراء وملحنون ورسامو كاريكاتير. وأوضح أن انتشار الكتابة الساخرة "فخّ" عمله القارئ، على طريقة "أنا عايزة من ده يا حزمبل أنا عايزة من ده"؛ فكله بيلوي دراع الكتابة عشان يطلّع حاجة ساخرة تعجب القارئ، كله بيقلّد ويسرق أفكار عشان يطلّع كوميديا، والناس لبست الكلام ده زي الفل! تامر أحمد: الأدب الساخر انتشر لأننا شعب "ابن نكتة" خصّنا تامر أحمد -صاحب "حدث في أنتيكا" و"ضربة حب"، و"اخبط راسك"، و"عزبة البليلة"- بكلامه حول هذه الظاهرة قائلاً: "التصنيف عموماً شيء يحدث غصباً عن القارئ والكاتب؛ فهناك كاتب "دمه خفيف" وهناك كاتب جاد.. المهم النجاح في إمتاع القارئ". وأضاف: "هناك دائماً مدرستان.. الضحك للضحك، والضحك لتحقيق هدف، وهو الفارق أن يكون الضحك غاية أو وسيلة.. شخصياً أرى أن إسعاد الآخرين بضحكة أو بسمة أو قضاء وقت ممتع هو غاية في حد ذاته.. ولا أختلف مع من يستخدم الضحك كوسيلة لبلوغ هدف معين، أسعد لحظات حياتي حين يقول لي أحد القراء: لقد أضحكني كتابك كثيراً.. أشعر بالنجاح حينها". وأوضح أن هناك العديد من الكُتّاب الساخرين الذين أُحبهم؛ على رأسهم أ. محمد عفيفي، وأ. يوسف عوف؛ ولكن الأفضل على الإطلاق في رأيي هو الأستاذ أحمد رجب، الذي أعتبره أستاذي وقدوتي. وأكد أن الأدب الساخر انتشر كثيراً؛ لأننا شعب دمه خفيف و"ابن نكتة", وزاد من الأمر انتشاراً، المدونات والمنتديات على الإنترنت؛ هذا فيه متنفس للمواهب الجديدة التي تبحث عن فرصة لعرض إبداعها؛ لكن ليس كل شخص خفيف الظل يصلح للكتابة الساخرة؛ فالكتابة الساخرة في رأيي هي أصعب أنواع الكتابة على الإطلاق؛ فمن السهل جداً أن تجعل القارئ يبكي أو يتعاطف مع شخصيات الرواية؛ لكن من الصعب أن تجعله يضحك والحكم في النهاية للقارئ. مصطفى شهيب: الكتابة الساخرة محصورة في مدرستين أما مصطفى شهيب -صاحب كتاب "بلد متعلم عليها"، الذي نفِد في أقل من شهر ويستعدّ لإطلاق طبعته الثانية- فتحدث لنا قائلاً: "أنا شايف إن الكتابة الساخرة محصورة في مدرستين.. مدرسة بتعالج قضايا في المجتمع وبتستخدم السخرية كأداة لمناقشة ظواهر ومشكلات، ومدرسة بتستخدم السخرية لمجرد السخرية؛ باشوف إنها معتمدة على الإفّيه أكتر من الموضوع، وغرضها الرئيسي التسلية". وأضاف: "أنا عن نفسي شايف إن للتسلية هدف عظيم وكل حاجة؛ بس لو معاها رسالة ولو بسيطة هتبقى أعظم بكتير، وده اللي حاولت أعمله في كتابي.. إيماناً مني بدور الأدب الساخر في تغيير المجمتع؛ لأني باشوف السخرية زي ما عرفها "ليو روستن" الفيلسوف العملاق ده "بأنها المرارة المركّزة"، مش مجرد تهييس!". وأكد أن "اللي بيحصل دلوقتي وسبب "البزرميط" ده إن أي واحد معاه قرشين بيطبع كتاب على حسابه ويعتبر نفسه كاتب وكله فاكر الأدب الساخر سبّوبة, وأنا مش ممانع إن ده يحصل؛ بالعكس نفسي كل الناس تكتب عشان هتحصل عملية تصفية للناس دي كلها.. ومش هيفضل غير اللي الناس بتحبه إلا واحد "رزل" معاه فلوس". "محمد سامي": الإحباط وراء انتشار الأدب الساخر كان لزاماً على "بص وطل" أن تسأل الطرف الآخر من الظاهرة (دور النشر)؛ سألنا أ. "محمد سامي"، صاحب دار "ليلى" للنشر والتوزيع، وكان هذا رأيه: "الأدب الساخر أصبح محطّ اهتمام الكثيرين منذ فترة، وأعتقد أن هذا راجع لعوامل عديدة؛ أهمها الإحباط والشعور العام بالضيق، ووجود معوّقات ومشكلات حياتية يومية. الناس أصبحوا بحاجة لما يُخرجهم من هذا؛ الاتجاه بدأ في السينما منذ فترة طويلة، ثم توجّه للأدب، بعد ذلك أعتقد أن موجة الاهتمام بالأدب الساخر ستبدأ في الانحسار هذا العام؛ لكني شخصياً أُفضّل أن تستمرّ؛ لأن الأدب الساخر -بكافة أشكاله- أدب مهم جداً". وعن اتجاه كاتب كالدكتور أحمد خالد توفيق للأدب الساخر بكتابيْ "زغازيغ" و"فقاقيع" قال: "د. أحمد خالد توفيق كاتب من الطبيعي أن يتناول مجالات مختلفة من الكتابة. الرجل يكتب الرواية والقصة والمقالات، مجالات أدبية وسياسية واجتماعية؛ فَلِمَ لا يكون له في المجال الساخر بعض البصمات؛ خاصة وأنه كاتب ثقيل له وزنه الثقافي، ولا أعتقد أنه توجّه بالمعنى المفهوم، وعلى كل حال فالدكتور هو الوحيد الذي يملك الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال؟". وأضاف: "كاتبي المفضّل في الأدب الساخر هو "السعدني" ومحمد عفيفي رحمهما الله تعالى، واقتناعي بالكتابة الساخرة كبير جداً، وأختلف تماماً مع من يصنّف الأدب الساخر في مكانة أقل من باقي مجالات الأدب، أنا أراه مهماً جداً ومؤثراً جداً". هكذا حاولنا في "بص وطل" أن نقتحم هذا الموضوع الشائك، والذي طُرح على الساحة الأدبية بقوة في الآونة الأخيرة، والذي طالما تواجد عندما يحدث ضغط بالمجتمع.. ضغط سياسي، اجتماعي.. وكبت عند أفراد المجتمع، والذي يُعدّ الكاتب أهم أفراده، والحكم في النهاية لشخص واحد فقط، هو القارئ؛ فهل يوافق على هذا التصنيف؟!