أضمّ شفتي في امتعاض لا تراه عبر أسلاك الهاتف، فتعاود السؤال من جديد عن السبب الدائم الذي يجعل الطبيب يقوم بتغيير ما وصفه الطبيب السابق.. هذه هي المرة الثالثة التي تصادف نفس الموقف بنفس تفاصيله باختلاف الشخوص، إذا ما قامت بسؤال طبيب عن شكوى ما تجده يصفها كما شخّصها الطبيب السابق تقريبا؛ لكن فور إخبارها له بأنها استشارت قبله طبيبا آخر ينتقد ما وصفه لها، ويصف لها كل الأدوية المغايرة، وعندما تخبرني بها أجد أنها نفس المواد الفعالة، لكنها بأسماء تجارية مختلفة! وهو ما حدث كذلك عندما استعانت بي في شكوى سريعة لحين الذهاب للطبيب، فحدث أن كتب لها نفس الدواء الذي وصفته لها، وما إن أخبرته بذلك حتى قام بتغييره بآخر بديل في نفس اللحظة! لا أجد ما أرد به على السؤال المتكرر، فأجيب بالامتعاضة السابقة نفسها والتي لا تراها كذلك أيضا! أتمتم بعبارات مقنعة عن رغبة البعض في ألا يشعرها بأنه لم يأتِ بجديد، ويكتفي بما وصفه مَن سبقه، لكن لا بد أن يضع بصمته ويمحو ما سبقه رغم صوابه.. استدعيت للذاكرة موقفا مشابها مضحكا؛ فإحدى المعارف روت لي كيف أنها بعد انقضاء مدة طويلة عادت لطبيب أسنانها للشكوى من أحد الضروس، وهو طبيبها الوحيد الذي تُعالج عنده منذ صغرها؛ فوجئت به يتندّر على حشو ضرس قديم ويسخر ممن قام به.. وهي تؤكد له في دهشة أنه من قام بهذا الحشو؛ حيث إنها لم تذهب لطبيب سواه! كما وجدت أن الأمر يتكرر، وتراه بصورة أكثر إضحاكا مع الفئات البسيطة لدرجة يكاد يكون فيها كاريكاتوريا؛ فلم نستعن بأي حرفي سواء في أمور السباكة أو النجارة إلا أعلن استهجانه وسخريته اللاذعة ممن سبقه، ومن عدم مهارته، وأنه لا يساوي شيئا في مقابل ما سيقوم به؛ ودائما حين كنا نسمع تلك المقدمة نتوقّع دوما نتيجة أسوأ بكثير؛ حيث يفرغ طاقته في التهكّم، ويبعثر مجهوده في التندّر على من سبقه، فلا يتبقى له ما يشحذ به مهارته وكفاءته الفذة هذه التي أطربنا بالحديث عنها! وعلى المستوى الأوسع عندما تبتعد عن قاعدة الهرم تجده كثيرا في تصرفات المسئولين؛ حيث إنه حين يتولّى أحد مسئولية كيان أو هيئة ما تجده يردم على من سبقه ويمحوه، حتى وإن كانت هناك فرصة للاستفادة مما قام به، واتخاذه كجسر وانطلاقة له؛ توفيرا للوقت والجهد وتدعيما له للوصول لنقطة أبعد.. فبدلا من أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون؛ للاستفادة من خبرتهم وعمرهم الذي لا بد أن يحمل على الأقل فائدة واحدة كل عام؛ نصرّ على البدء من الصفر لنعود له في دورات متتالية وكأنها دائرة مغلقة. وبعد تأمّل وجدت أنها عادة مصرية صميمة قديمة قدم التاريخ نفسه.. وهو ما كان يقوم به أجدادنا الفراعنة كذلك! تجد في التاريخ القديم "أحمس الثالث" يمحو كل آثار حتشبسوت عن الآثار التي شيّدتها والمسلات ليمحو اسمها تماما من التاريخ، ويضع بصمته وليحل اسمه محلها.. أي أننا نثبت أننا ورثنا السيئ فقط! وهو نفس التصرف حين تقرأ شهادات المعاصرين لأحداث تاريخية ما تجد لوما وانتقادا وهجوما للسابقين، يكاد يصل لدرجة التشويه التام للحقبة الماضية، ووصفها بأفظع الصفات وإلصاق كل المنكرات بها وإبعاد كل المكارم عنها.. وهو ما نراه عند الحديث عن الحقبة الملكية، والتدمير لكل ما كان بها من أشياء طيبة. وهو ما يقوم به كذلك على مستوى الحكام والرؤساء في الدول الديكتاتورية؛ إذ تجد الرئيس الحالي يُهيل الغبار على إنجازات الرئيس السابق؛ خشية أن يسحب تاريخه البساط من تحت أقدامه، وخشية ألا يأتي بجديد، فينفضح عجزه وقلة إبداعه، فيفكر في فكرة عقيمة مستهينا بذاكرة وإدراك شعبه، فيبدأ بعدم الإشارة للإنجازات السابقة، ثم يتطور الأمر للتجاهل التام، فالإنكار، ومع الوقت يصل الأمر إلى تجبّر وجسارة نسب الإنجازات السابقة له! وبالطبع يجد المئات من المؤيدين والمهلّلين، ومن يبصم بالعشرة على هذا التزوير التاريخي الجديد! وأحيانا تجد من يجامله ويقوم بهذا العمل نيابة عنه في رياء ومداهنة ممجوجة؛ إذ تجد مسئولي التعليم -لأنه الجهاز الأكثر تأثيرا وتدميرا في آن واحد- تعديلا فجّا في المناهج الدراسية؛ لطمس الحقائق عن الأجيال الصاعدة، وتشويه كل ما كان في الحقبة الماضية. هذا كما أشرت يحدث في الدول الديكتاتورية كي لا يسيء أحد الظن! التفسير الذي طلبته مني صديقتي التي لم أجبها سوى بالامتعاض يكاد يكون موحدا.. من أول "أحمس الثالث" وحتى الحِرَفي البسيط! مزيج من التسطيح مع السذاجة أحيانا في رؤية الأمور؛ فمنطق طفولي جدا أنك تقتنع بسخريتك وانتقاد من سبقوك؛ لأن ليس معنى ذلك أن يصب في رصيدك أنت؛ كأن يسحب منه ليضيف لك، فما العلاقة بين أن تذمّ مهارة شخص أن يزيد ذلك من تقدير مهارتك الشخصية؟ كذلك هو نوع من عدم الثقة بالنفس؛ فيرى البعض أن قوته تنبع من استخفافه بما لدى الآخرين من مهارات ظناً أن وقع تلك السخرية على الأسماع سيزيد علوّ نظرتهم له وهو ما لا يحدث طبعا. أستغرق قليلا في هذه التفسيرات التي تحتاج لمحلل نفسي مخضرم؛ ثم أنتبه على جملة يكرّرها الحرفي الذي أتينا به لإصلاح عطل بطبق الدش لهواء شديد حرّكه عن مكانه، لكنه مصرّ على جملة واحدة: "اللي ركّب لكم الدش ده ما بيفهمش حاجة!"، يقولها في انتعاش وثقة حتى قبل أن يعرف مكان التلفاز لدينا!