بالضبط كما كنا نقولها في شبابنا، ونحن مفتونون، ماركس الشاب، ماركس الشيخ، ستالين الشاب، ستالين الشيخ، العقاد الشاب، العقاد الشيخ، أصبحنا نقولها الآن، كأننا مجذوبون إلي الماضي، أحمد عبد المعطي حجازي الشاب، أحمد حجازي الشيخ، عادل حسين الشاب، عادل حسين الشيخ، طارق البشري الشاب، طارق البشري الشيخ، فهمي هويدي الشاب، فهمي هويدي الشيخ، صلاح عيسي الشاب، صلاح عيسي الشيخ. ولكننا في حالة صلاح تحديدا، لأنها حالة فريدة واستثنائية، غالباً ما نتلاعب ونقولها هكذا: صلاح عيسي سابقا، صلاح عيسي حالياً، ولذلك عندما جلست أمام التليفزيون، رأيت أحد المذيعين يحاكم صلاح عيسي، قلت لنفسي، هي فرصة للترويح، فالرجل صاحب دعابة، قد تكون غليظة أحيانا، ولكنها دعابة، وصاحب تخريجات، قد تكون خرافية أحيانا، ولكنها تخريجات، وصاحب جريدة، قد تكون ممسوسة أحيانا، ولكنها جريدة، قلت لنفسي لأستمع إلي صلاح عيسي الشيخ، صلاح عيسي حالياً، وصبرت علي ما يقوله، خاصة عندما سأله السائل عن زمننا، وهل فيه أعلام مرموقون مثل الزمن الذي أعلامه كانوا طه حسين والعقاد والمازني، فأجاب، نعم، وإن في ميادين أخري. وذكر أسماء أحمد زويل ومجدي يعقوب وتلاميذ طه حسين الذين تجاوزوه، الاثنان الأولان علمان كبيران في العلم والطب، نفخر بهما، ولكنهما رغم إصرارنا علي الفخر، من جهة يعيشان في الغرب المتقدم منذ زمن طويل، كأنهما ينتسبان إليه، بل هما ينتسبان إليه، ويشربان ثقافاته وفنونه وعاداته وتقاليده وحرياته وعلاقاته بدول مازالت عدوة ، وهما من جهة أخري يعملان في ميادين المكان هو بطلها الأول ، فلولا أن أحمد زويل يعيش في أمريكا، و السير مجدي يعقوب في إنجلترا، لما حقق أحدهما ما حققه، لو أنه ظل يعيش في مكان ميلاده ونشأته الأولي، فالعلم العظيم شرطان أولا ، بيئة متقدمة، وعالم نابه، (بكسر اللام)، والبيئة قبل العالم غالباً، لذا فإن إجابة الشيخ صلاح علي السؤال تشبه المغالطة العفوية غير المقصودة، أما الشق الثاني من الإجابة، والذي يقول فيه الشيخ: وتلاميذ طه حسين الذين تجاوزوه، فهو مغالطة عفوية ومقصودة معاً، عموماً صبرت علي ما يقوله حتي سمعته يكررها بلسان العليم الواثق: إن تلاميذ طه حسين قد تجاوزوه، فانصرفت تماماً، طردت من رأسي فكرة أن الشيخ صلاح يغازل أحدهم ويحرص علي مودته، وطردت فكرة أنه يستهين بالماضي كله، ويكنسه باسم التجاوز ويجعله أحيانا أنشوطته ليصطاد ما يوافق همومه ومصالحه، لأنه في الحقيقة ما زال يحيا علي التهام الماضي، ثم إخراجه في كتب فاخرة، جمالها يشبه جمال البرنسيسة والأفندي، وطردت أيضاً فكرة أن الرجل يستخف بنا، لأن هذا يعني أنه يستخف بنفسه، ونفسه لا تهون عليه، إنها غايته ومراده. وقررت من باب التحوط أن أحترس من أصدقاء صلاح، وبعضهم أصدقائي، فقلت لنفسي ما سوف أقوله لهم: إن طه حسين ليس شخصا مقدساً، ليس طوطماً، وإنني أحب المازني أكثر مما أحب طه، والزمن عندي ليس خطياً، إنه يكاد يكون دائريا، أو هو دائري فعلا، وتذكرت الإله كرونوس الذي يخلق كل شيء، ويميت ما يخلقه، إنه إله الزمن عند اليونان، وتذكرت زمننا، تذكرت أنه زمن ديني في الغالب، ثابت من الأزل إلي الأبد، فالدين عند أهلنا أعلي من الزمان، الدين أعلي من التاريخ، وأعلي من أحلامنا وظلالنا وقاماتنا ورؤوسنا، وأعلي من داروين وفرويد وماركس، ومن المادية التاريخية والمادية الجدلية والمادية الخام، والتطور حسب أعراف الزمن الديني هذا ما هو إلا عربة طائشة، عربة أسمها الغريزة، لا قيمة لها في ذاتها، وإن كنا كلما مرت العربة، عربة الغريزة، رفعنا أيدينا، وهتفنا مهللين: يعيش يعيش يعيش، في كل زمان صادفته، أوهمني الشاب والكهل والشيخ صلاح، أن زمنه ليس زمن كرونوس، ليس دائريا، إنه زمن خطّي، سواء كان صلاح مناضلا ماركسياً أو كان رئيساً لتحرير القاهرة. والزمن الديني خطي كله، فهو من ناحية يمحو ما قبله من ديانات بأن يزعم أنه يشملها، ويمحو ما بعده من ديانات بأن يزعم أنه يبطلها، ومن ناحية يجعل الماضي كلما اقترب من زمن الوحي هو الزمن الأفضل، ليصبح زمن الوحي ذاته هو زمن الأساس، عند صلاح الأساس في زمنه الخطي هو الحاضر، أي أن حاضر صلاح هو وحيه،فإذا كانت فقط حركة الزمن عند صلاح عكسها عند الزمن الديني، فإن النقيضين هذين شبيهان في قوانين وجودهما، عموماً لما نطق الشيخ صلاح بمقولته أن تلاميذ طه حسين تجاوزوه، ذكرت مراهقتي ومراهقة أبناء جيلي، كنا معجبين الإعجاب كله بكلمة التجاوز، هي كلمة السر، وأول الأبجدية،أول الفهرست، نشدها ونرخيها، نحشرها في مقالاتنا، نتأملها في عناوين مقالات الآخرين، وعناوين كتبهم، مازلت أذكر كتاباً ضخما في نقد الشعر للعراقي محمد الجزائري، كان عنوانه (ويكون التجاوز)، بسبب التجاوز كنا نحرق الماضي ونفجره وندمره ونفرح، ونحرق اللغة ونفجرها وندمرها ونفرح، ونظن أن عنفنا هو الشجرة التي تعشش فيها قيمتنا التاريخية، دافعنا عن جهلنا بالشعر القديم وبأنفسنا وبالعالم باسم التجاوز، كان المتنبي حسب فتوتنا وطيشنا، رجلاً من غمار الناس، يلبس جلبابا وغطاء رأس ويخفي تحت طيات جلبابه سيفاً لا يستعمله وإمارة يرجوها، كان رجلاً بدوياً ساذجاً لا يعرف ما يعرفه أصغرنا ، و ما نعرفه جميعا عن الأرض التي تدور حول الشمس، والقمر الذي يدور حول الأرض. لا يعرف أن القمر محض صخور وحجارة وأتربة ورمال، وأن السحاب الذي يلوي عنقه، أعني عنق المتنبي، إلي الوراء ليراه، أصبحنا من نوافذ الطائرات، نطل عليه من أعلي، ونكاد نلمسه، وكان الشاعر الأقدم من المتنبي، أول شاعر يمكن أن يصادفنا في أية لغة، لا يعرف أن الرجل مع المرأة يصنعان الأطفال، كان يظن أن المرأة فقط هي من يقوم بذلك دون حاجة إلي رجل، فيقدسها ويعبدها، وكان إبراهيم ناجي وإبراهيم المازني وإبراهيم طوقان وإبراهيم العريض وكل إبراهيم لا يعرفون عالم التليفزيون والعوالم التي أتت بعده، كنا أيام التجاوز نظن أن هذه المعارف الناقصة، تتسبب في نقصان منسوب المياه الجارية في أشعارهم، تسبب في نقصان منسوب الحكمة والفطنة والدراية والابتداع، أيامها لم نكن نميز بين الآداب والفنون والعلوم، فالشعلة التي حملناها في رؤوسنا، أحرقت رؤوسنا، وأحرقت الفوارق بينها. الآداب والعلوم، رضينا بظنوننا عن أن زمننا هو أفضل الأزمنة، وأن ما سبقه تمهيدُ له، وما سيليه استمرار ونتائج وتوقعات، قلنا لأنفسنا: نحن الأوائل، لم نفكر أن التجاوز في حقيقته احتواء ثم إلغاء ومحو، أنه تحويل لما سبق إلي ماض تام، ماض غير قابل للعودة، كان العلم سندنا ودعامتنا في ذلك، فطب جالينوس وطب ابن سينا وطب موسي بن ميمون حتي طب نجيب محفوظ الطبيب لا يلزم أن يعرفه أي طبيب شاب، بل إن كل طبيب شاب يعرف ما لا يعرفه جالينوس وابن سينا وابن ميمون، فليعكف المؤرخون والدارسون علي مراجعة هؤلاء القدماء، إلا أنهم أي القدماء، سوف يظلون سجناء مادتهم التاريخية التي لا تقبل التطبيق والممارسة، والطب ممارسة، الطب نظر وتفكير من أجل الممارسة، الأكيد أن العلم تجاوز، وأن الأدب ليس كذلك ، و أن ماضي الأدب ليس أجمل من حاضره بالضرورة، كما أن حاضره لا ينبغي له أن يخلي المكان من هذا الماضي،كان الدين أيضا سندنا ودعامتنا في تبرير التجاوز، فالمسيحية عند أهلها تتجاوز اليهودية، والإسلام عند اهله يتجاوز المسيحية واليهودية. وكانت دروسنا في الآداب والفنون سنداً آخر ودعامة أخري، فلقد قالوا لنا عن المنفلوطي ومحمد عبد الحليم عبد الله ومحمود تيمور ما قالوه عن جالينوس وابن سينا وابن ميمون، قالوا لنا إن نثر المازني وطه والعقاد يتجاوز نثر المنفلوطي، وأن روايات يحيي الطاهر وعبد الحكيم قاسم تتجاوز روايات عبد الحليم عبد الله، فاستغنينا بهؤلاء عن هؤلاء، وليتنا لم نفعل، فنحن لم نفطن إلا فيما بعد أن المتنبي لم يتجاوز بالضرورة من سبقوه، وأن أحمد عبد المعطي حجازي لم يتجاوز ناجي، وأنهم كلهم في قرارات نفوسهم الشاعرة لم يحلموا بفكرة التجاوز، ربما كانوا فقط يحلمون بإضافة قصائد جديدة، رؤية جديدة، ربما لم يفكروا قط في قتل القصائد السابقة علهم بدعوي تجاوزها. إنهم يفكرون في كتابة قصائد جديدة تجاور القصائد السابقة، الشعراء والرسامون والفنانون والموسيقيون والمتصوفون والحمقي هم هم من يفكرون دائماً في أن يزيدوا موجودات العالم، في أن يضيفوا إليها موجودات أخري، إنهم لا يسعون إلي إفقار العالم بإنقاص موجوداته، لا يسعون إلي قتل الموجودات القديمة، ولا يحملون تحت آباطهم ذلك السيف الملفوف في نار وهمية، سيف التجاوز، لكن صلاح عيسي الشيخ، صلاح عيسي حالياً، يسحب من جرابه مسدساً فهو لا يحب السيوف، يسحب المسدس ذاته، مسدس التجاوز، ويرفعه في وجوهنا، ويقول: تلاميذ طه حسين تجاوزوه. ----------- كان عنوان المقالة، صلاح عيسي سابقا، صلاح عيسي لاحقا، وعندما اضطررت وقسمت المقالة لطولها إلي قسمين، قسمت العنوان أيضا إلي قسمين.