منذ فترة ليست بالقليلة، وأنا أستمتع استمتاعا مرضيا بالانسحاب إلي الماضي .. حيث البشر غير البشر.. والدنيا غير الدنيا.. ووصف هذا الاستمتاع بالمرض ليس تشخيصا من عندي .. وإنما يؤكده الأطباء النفسيون وأساتذة علم النفس.. علي اعتبار أنه يمثل نوعا من الحيل الدفاعية التي يلجأ إليها الإنسان المحبط غير القادر علي التكيف النفسي مع الحاضر. وليكن .. أنا محبط ومريض.. وأرفض أيضا العلاج.. بل أبحث عمن يشاركني إحباطي ومرضي واستمتاعي .. فهل من مشارك؟! حسنا.. إني أقلب في صفحات الكتب القديمة.. أقرأ وأتحسر.. فماذا أقرأ .. وعلي من أتحسر؟! في 30 مايو 1926 تقدم أحد طلبة القسم العالي بالأزهر ببلاغ إلي النائب العام يتهم فيه د. «طه حسين» أنه ألف كتابا اسمه « في الشعر الجاهلي » ونشره علي الجمهور، وفيه طعن صريح في الدين.. وبعد أسبوع واحد تقدم فضيلة شيخ الأزهر إلي النائب العام ببلاغ آخر مرفق به تقرير علماء الجامع الأزهر عن الكتاب وطلب تقديم المؤلف للمحاكمة.. ثم تقدم النائب « عبد الحميد البنان» بطلب إلي مجلس النواب بتكليف الحكومة بمصادرة وإعدام الكتاب وتكليف النيابة العمومية برفع الدعوي علي مؤلفه وإلغاء وظيفته في الجامعة. وقد توقع الجميع عند مناقشة طلب النائب في مجلس الأمة أن ينحاز إليه النائب الوفدي الكاتب الكبير «عباس العقاد».. وأن يكون موقفه من الكتاب ومن مؤلفه هو موقف الخصومة التامة لأسباب كثيرة أولها منافسة «طه حسين» له.. وهذه هي فرصته في القضاء عليه.. وثانيها لأنه كان في ذلك الوقت كاتب الوفد الذي أسماه «سعد زغلول» بالكاتب الجبار .. و«الوفد» هو الحزب المناهض للحزب الذي ينضم إلي صفوفه «طه حسين» والمعروف بحزب «الأحرار الدستوريين» .. وثالثها هذا الإجماع الذي اتفق علي أن «طه حسين» استفز المشاعر- كما قيل في ذلك الوقت - بالتطاول علي بعض المقدسات.. ولكن رغم ذلك لم يتنكر «العقاد» لمبادئه.. وانتصر لحرية الفكر والرأي والتعبير، فانبري مؤيدا ل«طه حسين» مؤكدا أن حرية الفكر هي حرية التعبير عن الشخصية الإنسانية بكل ما تشمل من حس وإدراك وخلق ومزاج ومجهود .. وحرية الفكر بهذا المعني هي شيء لا يختلف عن حرية الحياة أو حرية الوجود. والفكرة التي لا تري ضوء الشمس هي فكرة ميتة .. أو هي فكرة حية ... ولكن حياتها هي سبب الألم والفساد.. وبمناسبة «العقاد» .. خذ عندك أيضا.. شاعر شاب مغمور يأتي من «دمياط» إلي القاهرة ليعرض علي «عباس العقاد» ديوانا من الشعر كتبه ويريد رأي الأستاذ الكبير فيه.. وكان وقتها «عباس العقاد» شاعرا كبيرا وأديبا مشهورا.. سر «العقاد» كثيرا بما نظمه الشاب من شعر وهنأه بهذه الخطوة الجديدة التي تبشر بمستقبل طيب في عالم الشعر.. بل لقد فوجئ الشاب بأبيات من الشعر كتبها «عباس العقاد» ووضعها في الصفحة الأولي من ديوان الشاعر الذي كتبه بخط اليد.. والأبيات عبارة عن مديح تمثل فيها الإحساس الشعري الصادق أجمل تمثيل .. قال : لك شعر يحكي سريرة نفسي / ركبت من صراحة ونقاء / جبلت كالفراش في أمة الطير/ خفوقا بين الندي والضياء/ أنت يا «طاهر » الفؤاد جدير/ من محبيك بالرضا والثناء/ لك يوم موف بأجل سعي / وغد مقبل بخير ورحباء/ ثم نشر الشاعر الشاب «طاهر الجبلاوي» الديوان الجديد.. وفي مقدمته هذه الأبيات المتألقة للشاعر الكبير في عام 1925. فسلام عليك أيها الزمن الجميل... في فبراير 1932 أقامت «هدي شعراوي» حفل تكريم باسم «جمعية الاتحاد النسائي المصري» للاحتفال بأولي خريجات الجامعة.. وأول طيارة مصرية.. وتحدث في الحفل الأستاذ «محمد علوية» باشا وقدم روب المحاماة هدية من الاتحاد النسائي إلي «نعيمة الأيوبي» خريجة كلية الحقوق.. و قدم الدكتور «طه حسين» تلميذاته خريجات الآداب : «سهير القلماوي» و«فاطمة فهمي» و«زهيرة عبد العزيز» و«فاطمة سالم» وقال في كلمته التاريخية إنه يسمح لنفسه الآن في أن يكشف عن مؤامرة خطيرة جدا حدثت منذ أعوام وكان قوامها جماعة من الجامعيين قرروا فيما بينهم أن يخدعوا الحكومة وأن يختلسوا منها حقا لا يشاورونها فيه، وهو الإذن للفتيات بالتعليم العالي في الجامعة المصرية.. مؤكدا أنه لولا هذه المؤامرة التي اشترك فيها «أحمد لطفي السيد» باشا و«علي إبراهيم باشا » و«طه حسين» والتي دبرت سرا في غرفة محكمة الإغلاق.. لما أتيح له أو للاتحاد النسائي أن يقدم محامية مصرية.. وأديبات مصريات.. لقد اتفق الثلاثة أن يضعوا «وزارة المعارف» أمام الأمر الواقع.. وكان القانون الأساسي في الجامعة يبيح دخول المصريين.. وهو وإن كان لفظا مذكرا فإنه ينطبق علي المصريين والمصريات... وعلي ذلك تمت المؤامرة علي أن تقبل الفتيات إذا تقدمن إلي الجامعة.. وقد كان .. وقبلت الفتيات المكرمات. حتي إذا تم الأمر وأصبح لهن حق مكتسب في الجامعة .. علمت الوزارة أن الفتيات دخلن الجامعة.. حدث ذلك في عام (1932).. وعبرت «هدي شعراوي» عن سعادتها مؤكدة: إن فضليات بناتنا حققن بنبوغهن آملنا وبرزن زرافات في ميادين العلم والعمل.. فرفعن رؤوسنا بين نساء العالم، وأضفن بذلك قوة إلي قوتنا في جهادنا من أجل الحق والحرية .. أما في عصرنا السعيد هذا.. فترتفع الصيحات من فقهاء التحريم والتجريم والمنع والمصادرة مطالبة بعودة المرأة إلي البيت لا تخرج منه إلا إلي القبر.. منضمة إلي قعيدات الشلت.. وهوانم المطبخ في أحد أعداد مجلة «الزهور» الصادرة في عام «1914» والتي كان يرأس تحريرها «أنطون الجميل» اقترح علي القراء أن يختاروا عشر شخصيات في مصر يرون أنهم أشهر النوابغ وأن يرسلوا إلي المجلة بأسمائهم مجردة من الأسباب التي بنوا عليها اختيارهم.. وجاءت نتيجة الاستفتاء كالآتي بالترتيب: «أحمد بك شوقي» - علي يوسف - حافظ بك إبراهيم- جورجي أفندي زيدان- الدكتور يعقوب صروف- سعد باشا زغلول- خليل مطران «شاعر القطرين» - إسماعيل باشا صبري «الشاعر»- ومصطفي لطفي المنفلوطي «الأديب المعروف»- وأحمد بك لطفي السيد «أستاذ الجيل وصاحب صيحة «مصر للمصريين» هؤلاء هم العشرة الذين أحرزوا أصواتا أكثر من سواهم ويليهم «فتحي باشا زغلول» وعبد الخالق ثروت باشا كما ذكر من بين النوابغ «جورج أفندي أبيض» في فن التمثيل - وسمعان بك صيدناوي في التجارة - والشيخ سلامة حجازي في الغناء والتلحين.. ولم ينس القراء السيدات الأديبات مثل السيدة «ملك حفني ناصف» (باحثة البادية) والآنسة (مي زيادة). وقد ذكر بعض الظرفاء علي سبيل الفكاهة من يعدون نوابغ في نوعهم مثل «حافظ نجيب » المحتال الشهير.. والحاتي في شي اللحم .. إلي آخره.... والملاحظ في هذا الاستفتاء أن رجال القلم والفكر والأدب والشعر هم أرفع من سواهم في النفوس، وأجود مكانة، وأهم قيمة، وأعظم شأنا، وأجل منزلة.. فمن هم يا تري نوابغ هذا العصر السعيد ؟!.. إنهم بلاشك الأذكياء في رموز الشريحة الاجتماعية المعاصرة من حيتان المرحلة «رجال الأعمال اللصوص» من نازحي البنوك بالمشروعات الوهمية.. والقروض الائتمانية.. الرابضين منهم والهاربين .. المتعثرين والسالكين.. وصديقاتهم الحسناوات المحظوظات «الهابرات» للملايين والقصور.. والطائرات واليخوت.. القتيلات منهن والناجيات. ولو كانت الأماني خيلا لركب الشحاذون.. ولو كانت الأحلام بنكنوتا لاغترفها النوابغ من القراصنة واللصوص.