توقيع اتفاقيات وتفقد مشروعات وتوسعات جامعية.. الحصاد الأسبوعي لوزارة التعليم العالي    ننشر أسماء 40 مرشحا ضمن القائمة الوطنية لانتخابات النواب بقطاع شرق الدلتا    محمد العرابي: مصر تستضيف حدثا اقتصاديا ضخما 13 ديسمبر المقبل    شبكة نفوذ من واشنطن لتل أبيب.. الكونجرس ينشر وثائق تربط «إبستين» بنخب عالمية    الجيش الروسي يسيطر على بلدة جديدة في مقاطعة زابوروجيه    الزمالك يعلن إقامة عزاء الراحل محمد صبري في الحامدية الشاذلية    تحرك فوري من الداخلية ضد الأب المجرم بالإسماعيلية| فيديو    المتحف المصرى بالتحرير يحتفل بمرور 123 عاما على افتتاحه    تصعيد قاسٍ في أوكرانيا... مسيّرات وصواريخ "كينجال" ومعارك برّية متواصلة    قناة السويس تشهد عبور 38 سفينة بحمولات 1.7 مليون طن    انطلاق الأسبوع التدريبي ال 15 بقطاع التدريب وبمركز سقارة غدًا    ضبط 15 شخصًا لقيامهم باستغلال الأطفال الأحداث في أعمال التسول    موجة برد قوية تضرب مصر الأسبوع الحالي وتحذر الأرصاد المواطنين    إنقاذ 3 مصريين فى منطقة محظورة بين تركيا واليونان    محاضرة بجامعة القاهرة حول "خطورة الرشوة على المجتمع"    أحمد مالك: لم أعد متعطشا للسينما العالمية    عروض فنية وإبداعية للأطفال في ختام مشروع أهل مصر بالإسماعيلية    قافلة تنموية شاملة من جامعة القاهرة لقرية أم خنان بالحوامدية    مؤتمر جماهيري حاشد ل«حماة الوطن» بالدقهلية لدعم مرشحه في النواب 2025 | فيديو    الموسيقار هاني مهنا يتعرض لأزمة صحية    فيريرا يغادر القاهرة بعد فشل مفاوضات الزمالك واتجاه لشكوى النادى فى فيفا    المدير التنفيذي للهيئة: التأمين الصحي الشامل يغطي أكثر من 5 ملايين مواطن    الصحة العالمية: 900 وفاة في غزة بسبب تأخر الإجلاء الطبي    محافظ الجيزة يُطلق المهرجان الرياضي الأول للكيانات الشبابية    فرص عمل جديدة بالأردن برواتب تصل إلى 500 دينار عبر وزارة العمل    وزيرة التنمية المحلية تفتتح أول مجزر متنقل في مصر بطاقة 100 رأس يوميا    بتكوين تمحو معظم مكاسب 2025 وتهبط دون 95 ألف دولار    توقيع إتفاق تعاون بين «مينا فارم» و«باير» لتوطين صناعة الدواء    «الزراعة»: إصدار 429 ترخيص تشغيل لمشروعات الإنتاج الحيواني والداجني    لاعب دورتموند يسعى للانتقال للدوري السعودي    الأعلى للثقافة: اعتماد الحجز الإلكتروني الحصري للمتحف المصري الكبير بدءًا من 1 ديسمبر    الداخلية تضرب تجار العملات.. ضبط 4 ملايين جنيه خلال 24 ساعة    «التخطيط» تطبق التصويت الإلكتروني في انتخابات مجلس إدارة نادي هليوبوليس    لو مريض سكر.. كيف تنظم مواعيد دواءك ووجباتك؟    تجديد الاعتماد للمركز الدولي للتدريب بتمريض أسيوط من الجمعية الأمريكية للقلب (AHA)    في ذكرى وفاته| محمود عبدالعزيز.. ملك الجواسيس    تحاليل اختبار الجلوكوز.. ما هو معدل السكر الطبيعي في الدم؟    عمرو حسام: الشناوي وإمام عاشور الأفضل حاليا.. و"آزارو" كان مرعبا    حارس لايبزيج: محمد صلاح أبرز لاعبي ليفربول في تاريخه الحديث.. والجماهير تعشقه لهذا السبب    كولومبيا تعلن شراء 17 مقاتلة سويدية لتعزيز قدرتها الدفاعية    نشرة مرور "الفجر".. انتظام مروري بمحاور وميادين القاهرة والجيزة    ترامب يلغي الرسوم الجمركية على اللحم البقري والقهوة والفواكه الاستوائية    درجات الحرارة على المدن والعواصم بمحافظات الجمهورية اليوم السبت    جامعة القناة تقدم ندوة حول التوازن النفسي ومهارات التكيف مع المتغيرات بمدرسة الزهور الثانوية    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 15 نوفمبر 2025    الصين تحذّر رعاياها من السفر إلى اليابان وسط توتر بشأن تايوان    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    في غياب الدوليين.. الأهلي يستأنف تدريباته استعدادا لمواجهة شبيبة القبائل    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمحل عطارة في بولاق الدكرور    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    مقتل 7 أشخاص وإصابة 27 إثر انفجار مركز شرطة جامو وكشمير    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    باحث في شؤون الأسرة يكشف مخاطر الصداقات غير المنضبطة بين الولد والبنت    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    زعيم الثغر يحسم تأهله لنهائي دوري المرتبط لكرة السلة    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرسالة الإعلامية .. معرفة وعلم وإقناع والمتلقي محكوم بالتنشئة والثقافة1-2
نشر في الأهالي يوم 29 - 09 - 2010

موضوعنا هو سيكولوجية المستقبِل(بكسر الباب) لرسائل الاتصال الجماهيري المرئية والمسموعة وإذا كان الفارق بين تعبيري "المستقبَل" (بفتح الباء)، و "المستقبِل" (بكسر الباء) يبدو فارقًا كبيرا ، فإن الأمر ليس كذلك تماما بالنسبة لموضوعنا فثمة ما يجمع بين المصطلحين : إن كلاهما مجهول ، وكلاهما أيضًا يلزم السعي لمعرفته، أو بعبارة أخري لا يمكن قبول الجهل به دون مجازفة بالغة فالإنسان - بل الكائنات الحية بعامة - لا يستطيع حياة دون قدر يزيد أو يقل من معرفة بالمستقبل أو تعرف عليه وكذلك القائم بالاتصال لا بد إن يتوافر لديه قدر من المعرفة بمن يتلقي اتصاله، حتي أنه إذا ما تعذر ذلك عمليا قام بافتراض وجوده بل تخيل ملامحه، و هو ما يطلق عليه "الجمهور المستهدف"
ولعلنا لو كنا بصدد الحديث عن الاتصال الشخصي لاختلف الأمر تماما، ولما كان لمثل هذه المقابلة مكان فسمة الاتصال الشخصي أن يكون متلقي الرسالة الإعلامية معروفًا لمرسلها ، و بالتالي يستطيع المرسل أن يقوم بتصميم رسالته الإعلامية بحيث تتطابق مع خصائص المرسلة إليه بل إنه - أي المرسل - يستطيع أن يغير ويبدل في شكل ومضمون هذه الرسالة أثناء عملية الاتصال ، وفقا لتفسيره لما يراه من استجابات تصدر عن متلقي الرسالة بل إن المرسل يستطيع - إذا ما لاحظ انصراف المتلقي عن استقبال رسالته لسبب أو لآخر-أن يتوقف عن الإرسال مؤقتًا ، إلي أن يتمكن من استعادة انتباه المتلقي من جديد
وبالمقابل فإن سمة الاتصال الجماهيري ، هي غياب متلقي الرسالة عن مرسلها غياباً يكاد أن يكون تاماً فعلي المستوي الفيزيقي لا يكون متلقي الرسالة متواجداً عادة في موقع الإرسال - سواء كان صالة تحرير جريدة أو ستوديو بث إذاعي أو تلفزيوني- بل قد تفصله عنه آلاف الأميال صحيح أن الأمر قد يكون كذلك بالنسبة للاتصال البريدي أو التليفوني ، حيث يقتضي ذلك النوع من الاتصال ابتعاد المرسل عن المتلقي ابتعادا مكانياًً ولكن الغياب يكون مختلفاً في حالة الاتصال الجماهيري
إن غياب المتلقي في حالة الاتصال الجماهيري لا يقتصر علي الغياب المكاني فحسب، رغم أهمية هذا النوع من الغياب بالنسبة لعملية التواصل بين المرسل والمستقبل ، فالغياب في حالتنا هذه يكون غياباً معلوماتياً أيضاً. فالمرسل لا يكاد يعرف شيئاً يقينياً عن متلقي رسالته
بل انه لا يستطيع حتي أن يعرف ما إذا كان ذلك المتلقي المجهول قد تلقي رسالته بالفعل أم لا وإذا لم يكن قد تلقي الرسالة فهل كان ذلك امتناعاً منه عن تلقيها ؟ أم جهلاً منه بموعدها ؟ أم لعدم ملاءمة موعدها له ؟ أم كان ذلك بسبب إعاقة تكنولوجية تتعلق بأجهزة الإرسال، أو أجهزة الاستقبال، أو بمدي ملاءمة العوامل الجوية ؟ وغني عن البيان أن كلاً من تلك الأسباب يتطلب لتلافيه اتخاذ خطوات وإجراءات تختلف عن نظيرتها بالنسبة لبقية الأسباب
وإذا ما كانت الرسالة قد تم استقبالها، فمن الذي استقبلها ؟ قد يكون طفلاً أو شاباً أو كهلا، قد تكون امرأة وقد يكون رجلاً ، قد يكون غنياً أو فقيراً، ريفياً أو حضرياً ، نوبياً أو بحراوياً أو صعيدياً، مغربياً أو سعودياً أو فلسطينياً ، مقيماً أو مغترباً ، مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو ملحداً إن لكل من تلك الصفات المجهولة أهميتها البالغة فيما يتعلق بخصائص الرسالة الإعلامية الملائمة سواء من حيث الشكل أو المضمون حتي أن رسالة معينة قد تكون ملائمة تماما لفئة من المستقبلين وتكون نفس الرسالة بالغة الغموض أو مثيرة للملل ، أو حتي للاستفزاز بالنسبة لفئات أخري من المتلقين
كل ذلك وغيره أمور يستحيل علي المرسل معرفتها بشكل يقيني، و مباشر، و مستمر. تري هل يمكن له أن يستغني عن مثل تلك المعرفة ، ثم يستمر في إرساله مؤملا أن يكون ذلك الإرسال إرسالا فعالاً ؟ بل هل يستطيع المرسل ابتداء و مهما كانت قدراته الفنية أن يشرع في بث رسائله إلي هذا المتلقي المجهول ؟
المعرفة والدقة
إن التعرف علي المستقبَل يعد ضرورة حياة بالنسبة للبشر، وكذلك فإن التعرف علي المتلقي يعد ضرورة حياة بالنسبة للرسالة الإعلامية من حيث فاعليتها ، وبالنسبة للمرسل أيضاً من حيث استمرارية كفاءته. فكلما تزايد حجم المعرفة المتاحة عن المرسل إليه، وكلما ازدادت دقتها، ازدادت بالتالي فعالية التأثير الذي تحدثه لدي ذلك المتلقي. ومن ناحية أخري، فإن إحساس المرسل بأن ثمة من يتلقي رسائله يعد شرطا أساسيا لاستمرار قيامه بالإرسال بكفاءة، كما أن تزايد المعلومات المتوافرة لديه عن المتلقي، يرفع من قدرته علي التجويد، ولذلك فإنه لا يوجد البتة من يرسل رسالة إلي " لا أحد " ، أيا كان المرسل ، و أيا كان محتوي الرسالة ، و أيا كانت نوعية الاتصال. وحتي في حالات الاضطراب النفسي الشديدة، حين يبدو لنا المريض متحدثاً إلي ذلك ال"لا أحد" ، فإنه يكون في حقيقة الأمر متحدثاً إلي آخر من صنع خياله. خلاصة الأمر إذن أنه لا يوجد متحدث دون مستمع ، ولا مرسل دون متلقي، وإذا ما تعذر التواجد المباشر المحدد لذلك المتلقي ، فإننا - ولكي نتمكن من الإرسال - نفترض وجوده افتراضاً ، بل و قد نصطنع له من الخصائص والصفات ما يقترب أو يبتعد عن الحقيقة وفقاً للقدر المتاح لنا من المعلومات .
لقد ألفنا استخدام مصطلحي " المرسل " و " المتلقي " وقد يبدو للوهلة الأولي أن المرسل هو الطرف الفعال ، أي الذي يقوم بالعمل كله ، وما علي المتلقي إلا أن يتلقي، أي أنه الطرف السلبي. و لكن الأمر ليس كذلك علي الإطلاق. فالمتلقي مشارك إيجابي أصيل في العملية الاتصالية، إنه لا يتخذ فحسب قرارٍا إيجابيا بالاستقبال، بل تتوالي قراراته الإيجابية، فيفاضل بين الاستمرار والتوقف منتهيا إلي قرارٍ بهذا الشأن. بل إنه فضلا عن ذلك، غالبًا ما يمارس خلال استقباله لرسائل الاتصال الجماهيري كل عمليات النقد والحكم والتقييم. صحيح أنه يقوم بذلك بعيدًا عن مواجهة المرسل ، ولكنها نفس مشكلة المرسل الذي يبعث برسالته دون مواجهة المتلقي و في النهاية فتلك هي طبيعة عملية الاتصال الجماهيري بل لعلها أهم أوجه قصوره ، ذلك الحاجز المادي الذي يفصل بين المرسل والمستقبِل .
إن هدف أي اتصال جماهيري أيا كان مضمونه و أيا كانت وسيلته هو إحداث تأثير معين في اتجاهات الجمهور المتلقي، أو ما يطلق عليه " تشكيل وعي الجمهور" وغني عن البيان أن إحداث مثل هذا التأثير يقتضي ابتداء أن تكون الرسالة الإعلامية في متناول ذلك الجمهور المقصود كما يقتضي أيضاً أن يصدق الجمهور المتلقي تلك الرسالة الموجهة إليه، وإلا فإنها لن تحدث تأثيرها المرجو، بل قد تحدث تأثيراً سلبياً معاكساً. ويحرص صنّاع رسائل الاتصال الجماهيري المتطورة علي بذل قصاري الجهد، وتسخير كل إمكانات العلوم التكنولوجية، وكذلك العلوم الاجتماعية لكي تكون رسائلهم أكثر إقناعاً وأشد تصديقاً بل إننا لا نجاوز الحقيقة كثيراً إذا ما قلنا إن أخطر التحديات التي يواجهها الاتصال الجماهيري في العالم المعاصر تتمثل في أمرين:
الأمر الأول
التطوير التكنولوجي لوسائل الإرسال بحيث يتسع مداها، وتزيد سرعة تدفقها ، وتقل تكلفتها ، ويسهل استقبالها .
الأمر الثاني
تطوير أساليب الإقناع ورفع درجة المصداقية، ومن ثم تحقيق التأثير المطلوب لدي المتلقين.
وفيما يتعلق بالأمر الثاني،و هو الأقرب إلينا من حيث التخصص؛ فإن القائمين علي أمور الاتصال الجماهيري، قد ابتكروا ومازالوا يبتكرون العديد من الأساليب في محاولات دءوب لسد تلك الفجوة بين المرسل وجمهور المتلقين ويدخل في هذا النطاق، الإعلام ببحوث استطلاع آراء الجمهور في الرسائل الإعلامية الموجهة إليهم وكذلك الحرص علي زيادة معدل الاشتراك الجماهيري في البرامج التليفزيونية والإذاعية إلي آخره .
الاقناع كعلم
لقد أصبحت عملية الإقناع تكاد تكون مبحثا علميا قائما بذاته و لعل من أبرز الكتاب في هذا المجال روبرت ب سيالديني أستاذ علم النفس في جامعة اريزونا الأمريكية Robert B Cialdini صاحب المؤلف الشهير المعنون " التأثير : سيكلوچية الاقناع Influence : The psychology of perasuasion الذي صدرت طبعته الأولي عام 1984، وبعدها بعشر سنوات أي في عام 1993صدرت طبعته الثانية ومازال الحوار حوله دائرًا حتي اليوم، وهو الحوار الذي شاركت فيه بعض من مجلات علم النفس المتخصصة.
المتلقي وطوفان الرسائل الحسية
يتلقي الجهاز العصبي الإنساني في كل لحظة آلاف الآلاف من الإشارات الحسّية المتنوعة بين البصرية ، والشمّية ، والتذوقية ، والسمعية ، و اللمسية وتتنوع كذلك مصادر تلك الإشارات الحسّية ، فمنها الحشوي الداخلي، ومنها الوارد من البيئة الخارجية وإذا ما أضفنا إلي ذلك كله تلك الإشارات ذات الطابع الحسي والصادرة عن أحلام النوم وأحلام اليقظة والتي قد لا تكون وثيقة الصلة بالعالم " الموضوعي " ، وإذا ما أضفنا إلي ذلك أيضا حقيقة أن تدفق تلك الإشارات الحسية يبدأ بالفعل قبل أن يولد الطفل ويستمر دون توقف ولو للحظة حتي نهاية حياته ،لاتضح لنا أي طوفان حسّي ذلك الذي يتعرض له الجهاز العصبي الإنساني, و لاتضح لنا كذلك أن رسائل الاتصال الجماهيري تمثل جانباً فحسب من تلك الرسائل المنهمرة علي المستقبِل وأنها تتعرض بالفعل لمنافسة ضارية .
وفي داخل الجهاز العصبي، وعلي قمته المخ، يتم تصنيف و تجميع هذه الإشارات الحسية لتكتسب معنًي أي لتصبح معلومات يتم التصرف السلوكي علي أساس ما تعنيه بعبارة أخري فإن الإنسان لا يتصرف استجابة لمجرد تلقيه إشارة حسّية معينة ، بل إنه يتصرف وفقًا لتفسيره لتلك الإشارة ، أي وفقًا لمعناها ولكن تري كيف تتحول الإشارات الحسّية إلي معانٍ أي إلي معلومات؟
إن تحويل الإشارات الحسية إلي معلومات ذات معني، أمر لا يتم آليا، بل انه يتوقف علي عددٍ من العوامل، لعل أهمها:
(1) المعلومات السابقة
إن كل المواقف ، والخبرات التي يتعرض لها الفرد يتم تخزينها وفقاً لنظام محكم بحيث يمكن استدعاؤها عند الحاجة و تلعب الخبرات السابقة المتعلقة بنفس الإشارة أو بنفس تلك المجموعة المعينة من الإشارات دورًا مهماً في تفسيرها فالإشارة التي سبق أن تلقاها الإنسان وأثارت لديه خبرة معينة ، سوف تستثير لديه في حالة تكرارها ، نفس الشعور بالخبرة السابقة ومن ثم فسوف تدفع في اتجاه التصرف بما يتناسب مع الخبرة القديمة بعبارة أخري فإن المعني يتوقف بدرجة كبيرة علي طبيعة " السمعة " التي سبق أن اكتسبتها الإشارة الحسّية المعينة .
إن مدفع الإفطار ، وأجراس الكنائس ، وأذان الصلاة ، والموسيقي المميزة لنشرات الأخبار ، وتراتيل الإنجيل ، وتلاوة القرآن ، وصفارات الإنذار ، لا تتم الاستجابة لها باعتبارها مجرد إشارات صوتية ، رغم أنها جميعاً من الناحية الفيزيقية ليست إلاّ كذلك بل تتم الاستجابة لها وفقاً لمدلولها ، أي وفقاً لمعناها، أي وفقًا لسمعتها السابقة لدي المتلقي, ولذلك قد تتباين استجابات الأفراد حيال نفس الإشارة ، تبعا لمعناها الخاص بكل فردٍ منهم .
وغني عن البيان أن تلك السمعة السابقة للإشارة الحسية، تكاد تستعصي علي التعديل، ولذلك يطلق عليها أهل الاختصاص في العلوم النفسية ، مصطلح "الصورة الذهنية الجامدة ".
(2) الدافعية
للإنسان دوافع شتّي تدفعه صوب تصرفات بعينها ، مثل الجوع ، والعطش ، والخوف ، والجنس ، والمكانة الاجتماعية ، و تحقيق الذات إلي آخره وكلما ازداد إلحاح دافعٍ معين طلبًا للإشباع ، كلما ازدادت شدة دفعه للفرد صوب التصرفات التي تؤدي إلي إشباعه وعادة ما يتجسد ذلك في أمرين :
أن يبحث الفرد عن الإشارات التي ارتبطت من خلال خبراته السابقة بإشباع ذلك الدافع بالذات ، وبالتالي فإنه يرهف حواسه لتلقي تلك الإشارات بشكل خاص
أن تُلقي شدة إلحاح الدافع بظلالها علي عملية تفسيره للإشارات الحسية بشكل عام ، بحيث أن تفسيراته لشتي الإشارات المتباينة تتخذ معانٍي ترتبط سلباً أو إيجابًا بذلك الدافع .
إن رؤية السراب باعتباره ماء، ليست خداع بصر فحسب، بل أنها تعبير عن شدة الظمأ، أي إلحاح دافع العطش, وكذلك فإن تفسير صوت حفيف الأشجار ليلاً بأن لصاً يختبئ في الحديقة، ليس مجرد خداع سمعي فحسب ، بل انه تعبير عن إلحاح دافع الخوف .
(3) مجمل الموقف الراهن
يستحيل أن يتلقي المرء في ظروف الحياة المعتادة إشارةً واحدةً منفردة بل انه يتلقي في كل لحظة ما يمكن أن نطلق عليه "موقفاً مزدحماً من الإشارات " ، تتداخل فيه الإشارات البصرية ، والسمعية ، واللمسية ، و الشمية ، والتذوقية كما تتداخل فيه الإشارات الواردة من مختلف المصادر ، أي الحشوية والخارجية _ ويتوقف معني الإشارة الحسية ، ومن ثم طبيعة الاستجابة السلوكية لها ، علي نوعية الإشارات المحيطة بها ، أي علي معني الموقف الإجمالي ومن ناحية أخري فإن معني الموقف الإجمالي قد يتغير كلية بتغير يطرأ علي إشارة واحدة من الإشارات المكونة له .
إن رؤية حيوانٍ مفترسٍ ، وسماع زئيره ، لأمرٌ كفيلٌ بإثارة الرعب ولكن إضافة القضبان الحديدية إلي مقدمة المنظر المرئي ، يحوّل الوقف بأكمله من موقف مثير للرعب إلي موقف قد يتسلي به حتي الأطفال الصغار فإذا ما غاب عن هذا الموقف الإدراكي الجديد منظر القفل الحديدي الذي يغلق باب ذلك الحيوان المفترس، عاد الموقف إلي إثارة الرعب من جديد فإذا ما وسّع الرائي من مجال إبصاره لتدخل فيه رؤية إطار خشبي يحيط بمكونات الموقف جميعًا تحول الأمر إلي مجرد مشاهدة فيلم تليفزيوني مثلاً
(4) القيم والمعايير
يقوم المجتمع من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية لأبنائه بتزويدهم بمجموعة من القيم والمعايير التي توجّه سلوكهم وتصرفاتهم ولمّا كانت الأسرة هي أهم المؤسسات الاجتماعية التي تتولي عمليات التنشئة الاجتماعية وخاصة بالنسبة للصغار ، فإنه لمن الطبيعي أن تختلف وتتباين تلك القيم والمعايير من جماعة إلي أخري داخل نفس المجتمع ، فضلاً عن تباينها بطبيعة الحال من مجتمعٍ لآخر وما يعنينا في هذا المقام هو تأثير تلك القيم والمعايير علي تفسير الفرد للمؤشرات الحسية التي يتعرض لها .
إن الاستجابة الطبيعية للمتألّم هي الابتعاد عن مصدر الألم، والاستجابة الطبيعية للجائع هي الاقتراب من الطعام، كما أن الاستجابة الطبيعية للشبعان هي عدم الاقتراب من الطعام، أي اللامبالاة
إن الطفل يتصرف تلقائيا عندما يقوم الطبيب بحقنه بمصل التطعيم مثلاً إنه يصرخ ، ويسحب ذراعه بعيداً ، بل وقد يحاول الفرار تلك هي الاستجابة الطبيعية ولننظر إلي طفلنا وقد كبر وأصبح راشداً ، حين يضطر لخلع أحد أضراسه مثلا متعرضاً لألم يفوق كثيراً ألم التطعيم القديم أتراه يصرخ ويحاول الفرار؟ تري ما الذي قد تغير؟ لقد تعلم صاحبنا أنه لا يجوز للكبير أن يترك لتلقائيته العنان في التعبير عن ألمه لقد اكتسب معايير الكبار.
تلك هي بعض- وليس كل العوامل - التي تحكم تحويل الإشارات الحسية إلي معلومات يمكن أن يتصرف الفرد وفقا لمعناها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.