في صباح أيام الشهر الفضيل تقابلهم في طريقك.. أثناء ركوبك للأتوبيس.. أثناء سيرك في الشارع.. يتناقشون في عربات المترو والمكاتب الحكومية بحماس شديد وعيون حمراء من أثر السهر أمام شاشة التليفزيون. هم المتابعون للدراما الرمضانية التي أصبحت في السنوات الأخيرة مظهراً من مظاهر شهر رمضان في مصر، كل عام تتزايد أعدادها وتتزايد تكلفتها ويزداد اللغط حولها، واللي بيتابعوا بحماس واهتمام وشغف في الغالب هم نفسهم اللي كل يوم بتسمعهم بيشتكوا.. ليه كل المسلسلات دي وبكام؟ كل الفلوس اللي بتتصرف دي مش البلد أولى بيها؟ وبينما تلك الأسئلة أسئلة مشروعة ولها ما يبررها لأن المشاهد العادي ما بيفرقش معاه كتير إن دي صناعة يعمل فيها آلاف من البشر من أول عامل البوفيه وعامل الإضاءة وحتى النجم اللي بيقف أمام الشاشة ليتابعه الملايين ولا بيحط في اعتباره إن المسلسلات دي لما بتتباع لقنوات عربية؛ وخاصة بتجيب دخل وتنشّط اقتصاد البلد ولو بنسبة طفيفة، وإن دول زي أمريكا وزي الهند بيحترم الرأي العام فيها العمل في مجال الميديا والسينما والدراما وبتعتبر الدولة كل المجالات دي صناعة ومصدر دخل ووسيلة من وسائل الغزو أو التبادل الثقافي بين الدولة دي ودول العالم المختلفة؛ لكن بعيداً عن كل تلك النقط اللي بتحيرني دايماً نقطة تانية خالص بيثيرها الكثير من الناس وهي نقطة. كل دي مسلسلات؟ إنتم كده بتشتّتونا وبتلهونا عن الأهم في حياتنا بالكم ده اللي أكبر من حاجتنا بكتير.. واللي باستغرب له دايماً إن اللي بيقولوا كده هم نفسهم المشاهدين المخلصين. إحدى صديقاتي مثلاً كل يوم الصبح تقابلني وهي فاقدة الوعي تماماً، الصبح ده بالنسبة لها وقت ضايع ما لهوش علاقة ببقية اليوم.. اليوم عندها بيبدأ بعد الفطار بتناول كميات ضخمة من الحلويات والأنتخة أمام شاشة التليفزيون حتى الساعات الأولى من الصباح، وتاني يوم الصبح تبتدي تدّينا التقرير: شُفتي يحيى الفخراني عسل.. آدي الرجالة ولا بلاش، ولا غادة عبد الرازق لبست حتة طقم إمبارح أموت وأعرف بتجيب لبسها ده منين. الحلقة بتاعة يسرا إمبارح شدت أعصابي أوي ده أنا ما عرفتش أنام.. ولا هند صبري وجعت قلبي إمبارح يا عيني، ودي عايزة تتجوز ليه بلا خيبة؟! تيجي تشوف اللي اتجوزوا خدوا إيه.. هي ليلى علوي خسّت كده إزاي؟ هي أصلاً قمر وبقت قمرين، والبنيّة الغلبانة اللي دبحوها ليلة فرحها دي نفسي يقبضوا على اللي دبحها بقى إلهي ينشكّ في دراعه البعيد. تتابع صديقتي 8 مسلسلات بإعاداتهم بالإضافة لمتابعتها مع أطفالها لمسلسلين كارتون، وبعد كل ده تيجي تاني يوم الصبح وهاتك يا دعاء على الخوتة الكدابة وكثرة المسلسلات اللي بتبعدها عن روحانيات الشهر الفضيل، ولما باقولها طب ما إنتي في إيدك ريموت كنترول ما تختاري مسلسل أو اتنين تتابعيهم، أو بلاش خالص إذا كنتِ شايفة إن متابعتهم بتضرّك وما بتفيدكيش، تبص لي باستغراب جداً، وتقول لي: ما هم اللي بيعرضوهم وأنا يعني هاعمل إيه؟.. وهكذا تعاني صديقتي ومعها الكثيرات والكثيرون من مشكلة عدم القدرة على الاختيار. إحنا اتعودنا لسنين وسنين نجبر في رمضان على مشاهدة مسلسل واحد على القناة الثانية ومسلسل واحد على القناة الأولى، ونتفرج وإحنا مبسوطين، ولما عدّينا المرحلة دي، وتعددت قدامنا الاختيارات وقف معظمنا أمامها وهو محتار؛ لأننا ما اتعودناش على حرية الاختيار مش من ناحية المسلسلات وبس. إنت اتعودت اللي يقولوا لك اتفرج عليه تتفرج عليه، وفي المدارس إنت متعود يحطوا لك المناهج ويقولوا لك احفظ وإنت تقعد تصمّ وخلاص، في الجامعات كتاب الدكتور وورق الكورسات ولا بحث في مراجع ولا متابعة لأبحاث، في الانتخابات بيختار الناخب بطريقة اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفهوش، ولو تعددت قدامه الاختيارات في الغالب برضه هيختار نفس الاختيار اللي ما يعرفش غيره من سنين. وعشان كده الحل مش إننا نلغي الاختيارات الكتيرة اللي قدامنا، الحل إننا نتعلم نختار منها اللي يناسبنا.. الحل مش في إننا نشجع سياسة الوصاية، الأفضل إننا نشجع ثقافة الاختيار، اختار اللي يعجبك وابعد عن اللي يضرك، وفي النهاية لو أنت وغيرك مسكتم الريموت وغيرتم القناة أو المنهج أو الطريق أو النظام؛ الكل هيبطّل يعاملك كأنك تقدر تستقبل أي شيء بدون ما يبقى لك فيه رأي ووجهة نظر، وأكيد هيقدموا لك اختيارات أفضل وأنسب، وكل ما عليك ساعتها هو إنك تفضل متمسك بحقك في الاختيار. نُشر بالشروق بتاريخ 30/ 8/ 2010