أمريكا هي الآن سيدة العالم أجمع، أو زعيمة العالم الجديد، كما تطلق على نفسها.. وهذا ليس مبالغاً، ولا ينبغي أن يثير غضبنا، وعصبيتنا، وثورتنا، وتشنّجنا، ولا ينبغي أن يدفعنا إلى تعصب "عبيط"، في محاولة إثبات أنها ليست كذلك؛ لأننا مهما فعلنا أو تشنّجنا، أو ثُرنا أو غضبنا، ستظل الحقائق حقائق، إلى أن نعمل، ويرى الله سبحانه وتعالى عملنا ورسوله والمؤمنون، وعندئذ.. عندئذ فقط قد.. وأقول "قد" تتغير الصورة.. المهم الآن ليس أن ننفعل، بل أن نتساءل: لماذا أصبحت أمريكا زعيمة العالم الجديد؟! لماذا؟! ولإيجاد جواب لهذا السؤال، لا بد لنا من أن نعود عدة عقود من الزمن إلى الماضي.. وبالتحديد إلى بدايات القرن العشرين.. ففي تلك الفترة كانت أمريكا قارة متواضعة، نجحت في الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية، وحمت نفسها من الغزو الإسباني في الجنوب، وضمت إليها الشمال والجنوب، بعد حرب طاحنة، وبدأت بالكاد تضع قدميها على بداية سلم التطور.. في تلك الفترة، كان الصراع يدور محتدماً، ومنذ القرن الثامن عشر، بين القوتين العظميين آنذاك – إنجلتراوفرنسا- وكل منهما تسعى لاحتلال أكبر عدد ممكن من الدول، في آسيا وإفريقيا، لبسط ومد نفوذها، وزيادة مواردها، وإحكام سيطرتها.. وفي وقت واحد تقريباً، مع نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، دخلت الدول الثلاث؛ إنجلتراوفرنسا وأمريكا، عصر الكهرباء والصناعة، وبسرعة انضمّت إليها ألمانياوروسيا، وعدة دول أخرى، في نفس الوقت الذي كان فيه العالم العربي محتلاً، موزعاً بين السيطرة الإنجليزية، أو الفرنسية، أو الإيطالية.. وكان لهذه الدول، في تلك الفترة، منافس شديد الخطورة، في قارتي آسيا وأوروبا.. وهو الإمبراطورية العثمانية، بكل جبروتها، وقوتها، وسيطرتها على مساحات واسعة كبيرة.. واندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وسقط معها ملايين الضحايا، واشتعلت النيران في الدول العظمى، فيما عدا أمريكا، التي فصلها المحيط الأطلنطي عن الحرب المباشرة، وإن لم يمنعها هذا من الاشتراك فيها بجنودها وعتادها.. وانتهت الحرب عام 1918، وكما يحدث عقب كل الحروب الهائلة، تغيرت بعدها خريطة العالم.. تركيا خسرت، وسقطت معها الإمبراطورية العثمانية، وانخلعت أنيابها، وفقدت سطوتها وقوتها.. وألمانيا خسرت إمبراطوريتها، ووقعت معاهدة "فرساي" المُهينة، التي فقدت معها النمسا، وحريتها في أن تنشئ جيشاً، أو تدخل حرباً.. روسيا اندلعت فيها ثورة عام 1917، أخرجتها من السباق، ووضعتها في مرحلة جديدة مُرهقة.. وبقيت إنجلتراوفرنسا، على قمة العالم، وأمريكا تعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، كادت تودي باقتصادها كله، ومع الأزمة الاقتصادية، وكما يحدث في المعتاد، انتشرت فيها الجريمة المنظّمة، وساد الفساد وانتشر، وهدّد الكيان الأمريكي كله.. وهنا قررت أمريكا أن السبيل الوحيد أمامها للخروج من هذه الأزمة، هو العلم، والتفكير العلمي المنظّم، دون تحيّز، أو تعصّب، أو تشنّج.. ألمانيا أيضاً قررت أن تخوض معركة العلم، على أمل أن تسترد بها قوتها وكرامتها وأرضها.. أما إنجلتراوفرنسا فقد انتشيتا بالنصر، واسترخيتا به، وامتلأتا بالزهو والغطرسة، و... وكفى.. وفي غمرة هذا، اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939.. اندلعت لتكشف ما فعله العلم والمنهج العلمي.. ألمانيا، التي نزعوا أنيابها، أو تصوروا هذا، نهضت كديناصور يخرج من عظامه القديمة، وانطلقت، مدعومة بعلم قوي، صنع أسلحة جبارة، تجتاح أوروبا كلها، وتحتل النمسا وهولندا وبولندا وحتى فرنسا نفسها، ثم تتجه نحو إنجلترا، ثم روسيا.. فرنسا، إحدى القوتين العظميين القديمتين سقطت، واندحرت، وذاقت مذلة الاحتلال، الذي طالما أذاقته لغيرها.. وإنجلترا تحطّمت، وفقدت العديد من مستعمراتها، وكادت تفقد كيانها نفسه، ودول المحور؛ ألمانيا واليابان وإيطاليا، تواصل اجتياحها للعالم بلا هوادة.. ثم تعاظمت غطرسة القوة لدى اليابانيين، وانقضوا يقصفون ويدمرون الأسطول الأمريكي، في ميناء "بيرل هاربور" في السابع من ديسمبر، عام 1941.. وكانت هذه نقطة تحوُّل، في تاريخ العالم كله.. فعقب الهجوم الياباني أعلنت أمريكا الحرب على دول المحور.. وخاضت الحرب، مدعومة بأقوى أسلحة الدنيا.. بالعلم.. بالعلم طوَّرت أمريكا أسلحتها.. وبالعلم صنعت أقوى سلاح آنذاك.. القنبلة الذرية.. وفي السادس من أغسطس عام 1945، ألقت أمريكا قنبلتها الذرية على مدينة هيروشيما اليابانية، معلنة بدء عصر جديد.. عصر أثبت أن العلم مقياس التفوق والقوة.. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت أمريكا زعيمة العالم؛ لأنها تملك العلم، والسلاح الرهيب، الذي صنعه العلم.. حتى عندما امتلك الاتحاد السوفيتي قنبلته الذرية، ظلت أمريكا هي الأقوى.. بالعلم.. ولأنهما تخلفتا عن سباق العلم، تراجعت مكانة إنجلتراوفرنسا، وصار صراع القوى بين أمريكا والاتحاد السوفيتي.. ولكن كل قوة من القوتين العظميين، اتخذت مساراً مختلفاً.. الاتحاد السوفيتي اتخذ سبيل القوة والسيطرة.. وأمريكا اتخذت سبيل قوة العلم.. كل هذا ونحن نتجاهل سبيل العلم تماماً، على الرغم من أننا قد تحررنا من الاستعمار، في منتصف القرن العشرين، وظهرت عندنا نهضة تعليمية، ولم يعد لدينا ما يبرّر ابتعادنا عن العلم.. ولكننا ابتعدنا.. وتجاهلنا.. بل وللأسف، عادينا العلم والعلماء.. وبكل التعصب والتشنّج والتوتر، اتخذنا مساراً معادياً للعلم، واتخذت أمريكا مع أوروبا مساراً باحثاً عنه في نهم.. ومع مطلع التسعينيات، أثبت التاريخ مرة أخرى فشل السياسة الأمنية "المتعفنة".. وسقط الاتحاد السوفيتي.. ومع سقوطه، بقيت قوة واحدة على الساحة.. قوة تملك العلم.. والسلاح.. والقوة.. هذا ملخص سريع يجيب السؤال: لماذا أصبحت أمريكا زعيمة العالم الجديد بلا منازع؟! ربما نكره أمريكا، ونبغضها، ونلعن أيامها وكل شبر فيها، ولكن هذا ليس السبيل لمقاومتها.. السبيل الحقيقي والوحيد هو العلم.. العلم الذي يصنع ويعدّ لنا القوة ورباط الخيل.. العلم أيها السادة.. هل علمتم الآن لماذا العلم؟! هل؟! اقرأ أيضا: خلينا نحسبها: لماذا العلم؟! (1) خلينا نحسبها: لماذا تفوّق الغرب؟! (2) خلينا نحسبها: العلم وقود القوة (3)