من المدهش تصفّح تاريخ الآلة العسكرية الأمريكية؛ خاصة في مرحلة ما قبل صعود الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى قمة العالم؛ إذ يدرك القارئ أن تلك الدولة غارقة في دماء أبنائها، وأنه لا يوجد بقعة في الأرض إلا وسفكت فيها الدماء بواسطة الأمريكان. الباحث المصري نزار بشير وثق حضارة الدم في 440 صفحة هي محتويات كتاب "حضارة الدم وحصادها.. فصول من تاريخ الإرهاب الأمريكي" الصادر عام 2003 عن دار الزهراء للإعلام العربي. يرصد الباحث محاور الحروب الأمريكية؛ فقد بدأ الأمر بوصول المستوطنين الأوربيين إلى القارة الأمريكية؛ فكانت الحروب الأولى بين هؤلاء المستوطنين وسكان القارة الأصليين الذين أطلق عليهم "الهنود الحمر"؛ حيث جرَت عمليات إبادة جماعية لسكان القارة الأمريكية، رغم أن هؤلاء السكان لم يكن لديهم القدرة أو القوة على اعتراض التمدد السكاني للمستوطنين (أجداد الشعب الأمريكي اليوم)؛ ولكنه رفض الآخر وعدم القدرة على العيش معه، إضافة إلى أن تواجد الشعب الأمريكي الأصلي يعني أن يظل المستوطنون مجرد ضيوف؛ لذا -وكما يجري في فلسطين حتى يومنا هذا- كان يجب على الشعب أن يرحل، ويُقتل ويتم التنكيل به حتى يصبح المستوطنون هم السكان الأصليون. وعلى عكس ما روّجت له آلة السينما الأمريكية وصدّقناه، لم يكن الهنود الحمر قوما متوحشين، أو مجموعة عصابات تقتل البشر لمجرد القتل، والغريب أن الدول الأوروبية لم تكن بحاجة إلى استيطان القارة الأمريكية من الأساس، ولكنه الرغبة في السيطرة على القارة الجديدة، وانتقال الحرب بين الأمم الأوروبية في العالم القديم إلى حرب استيطان في العالم الجديد أيا كان السبب، وبالفعل ما هي إلا بضعة أعوام، وأعلنت روسيا قيام ولاية روسية في أمريكا هي اليوم ولاية ألاسكا، وسارعت إسبانيا بإعلان قيام دولة إسبانياالجديدة، وهي الدولة التي قسمت اليوم على أكثر من دولة بالقارة الأمريكية وأهمها الولاياتالمتحدةوالمكسيك، ثم فعلت بريطانيا وهولنداوالسويد وغيرها من الدول الأوروبية فعلها، وأصبحت القارة الأمريكية دويلات تنتمي إلى أوروبا، تماما كما فعلت أوروبا في الشرق الأوسط إبان الحملات الصليبية حينما أسست أكثر من دولة، وكل دولة من تلك تأخذ أوامرها من عاصمة أوروبية. ويبرز خطأ الكاتب الأول حينما قفز فوق هذه المرحلة، رغم أنها هامة، ويجب أن يفرد لها مساحة أطول لتفهُّم دور الدم في بناء الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكان لديه العديد من المراجع؛ فعلى سبيل المثال صدر في فرنسا قبل بضعة أشهر من صدور الكتاب دراسة للباحث الفرنسي جيلاس هافرد؛ بالاشتراك مع سيسيل فيدال بعنوان "تاريخ أمريكا الفرنسية" Histoire de l'Amérique française أوضحا فيه المرحلة الأعنف، حينما راحت تلك الجمهوريات الأوروبية تتصارع في قلب القارة الأمريكية؛ فجمهورية هولنداالجديدة قامت بغزو جمهورية السويدالجديدة، وعلى أنقاض جمهورية هولنداالجديدة نشأت فيما بعد ولاية نيوجيرسي؛ بل إن مدينة نيويورك عاصمة ولاية نيويورك كانت تسمى نيو أمستردام أي أمستردامالجديدة نسبة إلى العاصمة الهولندية. ولكن يُحسب للكاتب أنه لم يغفل المذابح التي أجريت بحق السكان الأصليين حتى حينما أعلن قيام الولاياتالمتحدةالأمريكية في 4 يوليو 1776؛ فقد حضر الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون عملية قتل وتشويه 800 أسير من الهنود الحمر , وأمر يجدع أنوف جميع الضحايا من أجل إحصاء العدد الصحيح للقتلى، ووافق على دباغة جلود القتلى لاستخدامها في جمة الخيل، أما الرئيس بنيامين هاريسون؛ فقد أمر في 29 ديسمبر 1890 بقصف وإبادة معسكر ديني لإحدى الديانات الخاصة بالهنود الحمر في تناقض واضح لمن يدعون اليوم بحرية الأديان، ويطالبون بالحرية للملحدين واللادينيين إلى آخر هذه القائمة. أما في عصر الرئيس الأمريكي يوليوس جرانت؛ فكانت له مذبحة شهيرة؛ إذ ما بين 28 و30 أبريل 1871 ودون أن يتوقف القتل ليل نهار تم بعثرة 110 جثة في وادي أريزونا لأطفال ونساء وشيوخ ورجال هم كل ما تبقى آنذاك من قبيلة الأباتشي، ونلاحظ أن العسكرية الأمريكية على سبيل التباهي بهذه المذبحة أسمت واحدة من أشرس طائراتها بنفس اسم القبيلة.. أباتشي. وحتى الرئيس أبراهام لينكولن الذي يصنع منه الأعلام الأمريكي بطلاً وثائراً ومحرراً، كانت له مذبحة شهيرة في نوفمبر 1864 حينما تمت إبادة قبيلة "شياني" (حوالي 200 فرداً) على الرغم من أن هنالك ما يشبه اتفاقية سلام بين القبيلة والحكومة الأمريكية، وتم تشويه الجثث واقتلاع فروات رؤوسهم من أجل دبغها. وإذا كان محور الدم الأول في التاريخ الأمريكي هو إبادة سكان القارة الأصليين، والمحور الثاني هو حروب الاستيطان بين الإمبراطوريات الأوروبية ثم بين المستوطنين أنفسهم، فإن المحور الثالث فكان حروبا تكون الولاياتالمتحدةالأمريكية طرفاً فيها؛ فالولاياتالمتحدةالأمريكية لم تعلن استقلالها عن بريطانيا، ثم باقي الدول الأوربية من أجل الحرية أو حقوق الإنسان، ولكن لأن الشركات التي أقامها المستوطنون هنالك كانت تعاني من الضرائب التي فرضت عليها، وكانت تدخل خزائن ملوك وأباطرة أوروبا؛ لذا أتى الاستقلال، ولا يوجد جنرال من جيش الاستقلال الأمريكي إلا وكان يتلقى مساعدات مالية من تلك الشركات التي أنشأت الولاياتالمتحدةالأمريكية، هذه الشركات لا تزال حتى يومنا هذا تدير الدولة التي صنعتها. هذه الشركات الكبرى، التي يمكن أن نطلق عليها الرأسمالية الأمريكية متخصصة في صناعة الحروب وإدخال الولاياتالمتحدةالأمريكية طرفاً فيها؛ فالحرب مهنة مربحة جداً في أمريكا، تماماً مثل الجنس والمخدرات، وتجارة السلاح هي الممول الرئيسي لنهضة أمريكا واقتصادها؛ لذا يجب على الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تكون في حالة حرب دائمة وأن تشتري الدولة من تلك الشركات السلاح دائماً، وأن تسعى الدولة إلى جعل دول العالم تشتري السلاح الأمريكي من تلك الشركات. وهكذا انطلقت حضارة الدم، تحارب جيرانها الأمريكان، عبر محاربة المكسيك وكندا وغيرها، وضم تكساس وكاليفورنيا بالقوة من المكسيك، ثم التدخل العسكري في أمريكا الجنوبية في كوبا والأرجنتين وغيرها، قبل أن تأتي اللحظة الإمبراطورية الكبرى عقب الحرب العالمية الثانية ويتدفق الجندي الأمريكي بالسلام الأمريكي إلى فيتنام، والكويت والعراق ويوغوسلافيا وأفغانستان وباكستان والصومال وحتى في معارك حرب أكتوبر 1973 بين مصر وإسرائيل. لقد وقف رئيس الوزراء الفرنسي جورج كلمنصو يتأمل الدمار الذي صنعته الولاياتالمتحدةالأمريكية خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، رغم أن الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت آخر دولة تدخل تلك الحرب؛ مما جعله يصرخ: "إن أمريكا هي الأمة الوحيدة عبر التاريخ التي انتقلت من مرحلة التخلف إلى مرحلة الانحطاط دون المرور بمرحلة التحضر"، والغريب أن الأديب الإنجليزي أوسكار وايلد (1854-1900) قال العبارة ذاتها حينما وصلت أنباء المذابح الأمريكية إلى لندن؛ بل والمذهل أن الرئيس الفرنسي شارل ديجول كرر العبارة ذاتها عقب الحرب العالمية الثانية (1939-1945). وأخيراً، وفي مشهد لم ينسه أيّ من رفاقه، وقف المجند الأمريكي توماس شيتوم وسط أشلاء الفيتناميين صارخاً: "أمريكا ولدت في الدماء، رضعت من الدماء، أتخمت دماء، تعملقت على الدماء، ولسوف تغرق يوماً في الدماء"، وتحولت تلك الصرخة إلى حركة معارضة للحرب في فيتنام وتزعمها شيتوم نفسه حينما عاد من الحرب.