من أين أبدأ؟ من زمااااااااااان عندما كان خالي يصف القناة التانية بأنها قناة كافرة؛ لأنها ببساطة من وجهة نظره لا تقوم بإذاعة الأذان، وبتكتفي بفاصل قصير مصحوب بموسيقى مميزة: "حان الآن موعد أذان ال.... حسب التوقيت المحلي لمدينة القاهرة"، وتعود للفيلم الأجنبي أو حتى لعروض الباليه، والغريب أني -ولفترة طويلة- ظللت معتقدة أن هذه القناة بالذات ينقصها شيء، وتبنيت صحة اعتقاد خالي؛ لأني كلما سألت نفسي عن السبب الذي يمنعها من إذاعة الأذان وصلاة الجمعة، في الوقت الذي تذيع القناة الثامنة الأذان وصلاة الجمعة.. وكنت أصل في النهاية إلى أنه "أكيد فيه حاجة غلط". كان تفكيراً ساذجاً طبعاً، اكتشفته بعد ذلك كما اكتشفت أن القناة الثانية لم تكن سيئة كما كنا نتصوّر، وأن منهجها أفضل لأسباب كثيرة أهمها أنه ليس مقبولا أبداً أن يكون الأذان مجرد فاصل بين أحداث فيلم رومانسي، ويقطع مشهداً ساخناً ليعود الناس بعد ترديد الأذان للفيلم مرة أخرى وكأن شيئاً لم يكن، وقِسْ على ذلك مباريات الكرة ونشرة الأخبار، وعروض الباليه. ومنعاً للبس واختلاط الأمر على البعض، فقصدي ببساطة أن الأذان لا يجب أن نعتبره مجرد فاصل بين الأفلام ومباريات كرة القدم، ونفس الشيء ينطبق على التليفزيون الأرضي الذي كان -ولفترة قريبة- يبدأ إرساله ويختتمه بالقرآن الكريم.. وما بين بدء الإرسال والختام مئات من الأغاني والأفلام عليها خمسين ألف اعتراض. بالتأكيد هذا ليس هو الموضوع الأصلي، ولكنه كان لا بد من هذه المقدمة الطويلة تمهيداً لأناقشك في الموضوع الأهم.. أكيد هناك الكثير من المتابعين لقناتيْ بانوراما دراما التي تذيع المسلسلات ليل نهار، وما بين المسلسل والمسلسل أو حتى بين مشاهد المسلسل الواحد سيل من الإعلانات التي من فرط طولها كفيلة بأن تنسيك المسلسل نفسه الذي كنت تتابعه، ومن بين هذه الإعلانات نسبة لا بأس بها من الإعلانات الدينية!! وببساطة تستطيع أن تميز تلك الإعلانات حتى وأنت بعيد عن شاشة التليفزيون، فتجد صوتاً في منتهى الوقار والاتزان مصحوب بموسيقى مميزة جداً يردد بعض الآيات القرآنية، يليها الكثير من المعلومات تمهيداً لسؤال المسابقة الذي دائما ما يكون سؤالاً من فرط بساطته لا يدفعك للتفكير، ويكفي لأن تسأل ابنك أو أخاك الصغير لكي يجيب وهو مغمض العينين.. والحكمة من وراء السؤال ليس اختبار معلوماتك أو حتى تذكيرك بسير الصحابة والتابعين بقدر ما يتحسس جيبك وقدرتك على دفع ثمن المكالمة ل0900 أو على رقم موبايل مع إعلامك أن سعر الدقيقة جنيه ونصف.. مع تمنياتنا لك بأن تكون صاحب الحظ السعيد، وتفوز بالألف جنيه جائزة الأسبوع!! قبل أن أتابع أريد أن أذكر نقطة.. إنه ليس شرطاً أن تعاني مثلي من نفس المشكلة أو لديك نفس الاعتراض أن تختلط إعلانات مطبخ بدرية والمفتش كرومبو مع "خالتي بايرة الخاطبة"، وإعلانات السمنة والزيت وكريمات فرد الشعر والتخسيس، مع إعلانات زيادة القدرة الجنسية لدى الرجل، ووسائل لعلاج العقم لدى المرأة، وكل هذا "محشور" فيه بدون مناسبة إعلانات تحوي الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة وسير الصحابة والتابعين في مسابقات الكل يعرف أنها من أجل الاستغلال والابتزاز واستثماراً للجهل في بلدنا، بل من الممكن أن تكون من محبي إعلانات 0900 وترغب في الألف جنيه جائزة؛ لتقنع نفسك أنك سعيد الحظ.. ولكن هذا لا يمنع أن أطلب منك أن تستكمل مقالي لربما تغيّر رأيك. أولا وبكل تأكيد لن نختلف على أن الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة وسيرة النبي وصحابته هي ديننا وعقيدتنا، ومكانها ليس في قناة للمسلسلات كفواصل أو كوسيلة للربح والاستغلال؛ فصاحب القناة لن يضره أن يستغني عن إذاعة الإعلانات الدينية ولن ينقص من رصيده في البنك، ولن يقلل من شعبية قناته أو عدد متابعيها.. فلمَ إقحام الدين والتعامل معه على أنه سلعة أبيع وأشتري فيها وأخرج منها "كسبان" مع أني في الأصل كسبان بدونها على الأقل احترامي للدين والعقيدة والبعد عن محاولة ابتذالها. ولو نظرنا للموضوع من زاوية أخرى.. إذا كان هذا تفكير صاحب القناة؛ لأنه يفكر بعقلية التاجر المهتم بالمكسب، ويقول لنفسه ما المانع أن أكسب أكثر، فماذا عن المتلقي الذي يستجيب لأي نوع من المسابقات والإعلانات بنفس الحماسة والاستعداد للمشاركة دون أن يسأل نفسه: كيف أشارك وأحاول أن أكون فائزاً في ابتذال للعقيدة حتى لو بمسابقة عابرة؟ بانوراما دراما مجرد نموذج، لكنه نموذج صارخ.. وأنت بنفسك تستطيع أن تصنع قائمة طويلة من القنوات المصرية التي تنتهج نفس المنهج الربحي دون النظر إلى الوسيلة.. وهنا أؤكد على أن من ينتهج هذا السلوك قنوات في أغلبها مصرية، ونادراً ما تجد قناة عربية لديها نفس السلوك، وتستغل الدين في مسابقات حتى لو كانت الجائزة مليون ريال، وليس ألف جنيه مصري. أخيرا.. هناك لافتة لا بد منها لأستكمل الصورة التي حاولت أن أرسمها لك عن المشكلة من البداية، اللافتة خاصة بالقنوات الدينية أيضا التي تنال نسبة مشاهدة لكنها تعاني من نفس المشكلة ألا وهي أنها انساقت وراء التجارة والمكسب، وتترك الهواء بالساعات للإعلان عن مميزات سمنة "عوافي عليكم"، وحلل "الست الناصحة"، وأطقم بيركس "عانس 2010" لدرجة أن يخيّل لك أن الإعلان يكسب، ويجعل من قناة مثل "أزهري" وليدة في عالم الإعلام تتباهى بأنها لم ولن تكون قناة للسمنة وإعلانات الحلل، وهذا حقها، وحق صاحبها أن يتباهى أن قناته للإعلام الهادف ولا مجال للإعلان المستغل. أدرك أنك الآن لديك الكثير الذي تقوله خاصة عندما أتت سيرة القنوات الدينية.. اقبلْ أو ارفضْ.. اعترضْ أو أضِف اسمك لجروب ضد استغلال الدين للكسب وزيادة أرصدة البنوك، والضحك على عقول البسطاء الذين يتقاضون 200 جنيه في الشهر، ويحلمون بألف جنيه، ليقضوا ليلة واحدة سعيدة.. لكن لا تنسَ أنه لا أنا ولا أنت ضد استغلال ديننا وعقيدتنا وأساس ثقافتنا في الابتزاز والكسب. أخيرا.. خطر على بالي أن أسألك سؤالاً: من المسئول؟ نحن لأننا اتصلنا وعندنا أمل في المكسب مهما كانت الوسيلة، ولم نسأل أنفسنا عن الوسيلة؟ أم أصحاب مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" الذين بنوا عمارات وتضخّم نفوذهم ب0900 ودقيقة المحمول بجنيه ونص؟