ليس سرا أن المواطن العربي من المحيط إلي الخليج يعيش أزهي عصور الرفاهية الدرامية والمسلسلاتية والفضائية! وكل المحطات الفضائية والأرضية العربية تتسابق فيما بينها لتسلية وترفيه وأيضا تسطيح عقل هذا المواطن بكل ما تملكه من وسائل الإغراء التي تبدأ بالمسلسلات وبرامج المسابقات والمقالب الطريفة أو السخيفة. أكثر من ستمائة فضائية عربية دخلت في سباق شرس ومحموم وبالغ الإثارة للاستيلاء علي عقل وعيون وآذان المشاهد العربي في كل مكان، في المدن والقري، الكبار والصغار، الرجال والنساء والأطفال.. الشباب والشابات سواء كانوا متزوجين أو عوانس أو يبحثون عن بنت الحلال أو ابن الحلال. قبل حوالي عشرين سنة كان الأمر أبسط واسهل كثيرا في حياة المشاهد العربي، فالفضائيات لم تكن قد ظهرت بعد، وكانت كل دولة لا تملك إلا قناة واحدة رئيسية وربما إلي جوارها قناة أخري أو اثنتين، ولم تكن هذه القنوات تذيع علي المشاهدين سوي مسلسل أو مسلسلين فقط لا غير. كان ذلك في زمن الحكومات الشمولية التي تقرر وحدها ما الذي يشاهده المشاهد من مسلسلات وما لا يجب أن يشاهده، وكان المسلسل يذاع بدون أية فواصل إعلانية علي الإطلاق ! وكانت الإعلانات أيامها بسيطة وموحية عن السلع والمنتجات الوطنية، وراقية في أسلوبها وطريقة عرضها. كانت الحياة كلها - علي بعضها - أسهل وأبسط، لكن دوام الحال من المحال، وتغيرت الدنيا وتغير معها العالم العربي بأكمله، ولم يعد المواطن هو نفس المواطن، كبرت أماله وطموحاته، واتسعت ليس في أمور التقدم والتنمية والعلم، ولكن في كل الأمور الحياتية الاستهلاكية. وزهق المواطن العربي من الكلام الكبير والشعارات الأكبر التي كان يسمعها طوال ساعات النهار، كلام مع نوعية أمجاد يا عرب أمجاد، وثوار لآخر المدي ثوار، والقومية العربية والعروبة والوحدة العربية وتحرير فلسطين! ويوما بعد يوم امتلأت سماوات العالم العربي بأكثر من ستمائة فضائية تبث ما يخطر وما لا يخطر علي البال من أفلام ومسلسلات وبرامج وخرافات وجهل وسخافات لا حدود لها!! وإذا كان بعض الفضائيات يستحق الاحترام والتقدير من غالبية المشاهدين العرب، فأغلب الفضائيات لا تستحق ذلك، فأنت لا تعرف لماذا ظهرت هذه الفضائيات ؟! ومن يقف وراءها ويدعمها ويساندها بالمال والجهل والتطرف والخرافات ؟! ومن أين تأتي بكل هذه الملايين من الريالات والدينارات والدولارات لكي تبث 24 ساعة متواصلة ولا أحد يشاهدها ولا أحد يعلن فيها أيضا !! إحدي هذه المحطات الفضائية لا تقدم طوال ساعات إرسالها (24 ساعة) سوي واحدة بنت عاملة نفسها مذيعة تسأل المشاهدين سؤالا عويصا وعميقا من عينة : اذكر اسم واحدة من أغاني هيفاء وهبي ومن يعرف الإجابة يتصل بالست إللي عاملة نفسها مذيعة!! لكن كله كوم وكرة القدم وأحوالها وغرائبها كوم تاني خالص !! زمان قبل عصر الفضائيات عشنا - أتحدث عن المشاهد المصري - زمن أجمل وأحلي وأظرف معلق في تاريخ الكرة المصرية الراحل العظيم الكابتن (محمد لطيف) رحمه الله، ولم تكن هناك تلك المناحة الكروية المسماة باستديوهات التحليل الرياضي والتي تمتد بالساعات، تحليلاً وتعليقاً علي مباراة خايبة انتهت بالتعادل. كل من لمس الكرة أوشاط كورة في المدرجات أصبح محاوراً رياضياً وناقداً كروياً ومحللاً يفهم في الفاول والأوفسايد والزون دفنس، وخطورة الليبرو مع اللعب بدون كرة.. الخ.. كلام ولت وعجن ورغي وأزمات اختلط فيها الحابل بالنابل طوال ساعات اليوم، خذ عندك أزمة ( جدو) مثلا، كل الأطراف وتؤكد إنها صح وأنها تملك المستندات والوثائق.. والمشاهد المسكين تحاصره عشرات البرامج التي لا تتحدث إلا عن أزمة ( جدو )!! وأيضا أزمة ( جدو ) كوم وأزمة مسلسلات رمضان كوم تاني، هناك أكثر من مائتي مسلسل مصري وسوري وخليجي وبرامج ستبدأ القنوات في بثها ابتداءً من بكرة - كل سنة وأنت طبيب - أي مائتي ساعة مشاهدة يومياً، والمشكلة أن اليوم ليس به سوي 24 ساعة فقط! وسرعان ما تبدأ المعارك داخل الأسرة حول تفضيل مشاهد مسلسلاً بعينه، وكأن المطلوب من المشاهد - أي مشاهد - أن يتابع كل هذه المسلسلات. كل سنة وأنت طيب أيها المشاهد الطيب.