محافظ الجيزة يتابع أعمال غلق لجان انتخابات مجلس النواب في اليوم الأول لجولة الإعادة    الجزائر تدين بأشد العبارات الاحتلال الإسرائيلي لاعترافه بإقليم أرض الصومال    فرنسا ترحب باتفاق وقف إطلاق النار بين تايلاند وكمبوديا    بسبب خلافات عائليه.... العثور على جثة شاب ثلاثينى مشنوقًا داخل منزله بالمنيا    فتح المطارات للاستثمار |شراكة تشغيلية مع القطاع الخاص دون المساس بالسيادة    ضبط شخص يوزع مبالغ مالية لشراء أصوات الناخبين بسوهاج    ارتفاع مفاجئ في سعر الذهب.. عيار 24 يسجل 6943 جنيها للجرام    موعد مباراة الزمالك وبلدية المحلة في كأس مصر    النصر يحطم أرقام دوري روشن بانطلاقة تاريخية بعد ثلاثية الأخدود    الأهلي يفوز على الكويت الكويتي ويتوج بالبطولة العربية لكرة الماء    حزم بالجمارك والضرائب العقارية قريبًا لتخفيف الأعباء على المستثمرين والمواطنين    يسرا ناعية داوود عبد السيد.. «هفضل فكراك بضحكتك وحكاياتك»    بشير عبدالفتاح: إسرائيل تسعى إلى تموضع عسكرى فى صومالى لاند    رجال السياسة والفن والإعلام يحضرون العرض الخاص لفيلم الملحد    سهر الصايغ وعمرو عبد الجليل يتعاقدان على «إعلام وراثة» | رمضان 2026    آية عبدالرحمن: كلية القرآن الكريم بطنطا محراب علم ونور    نيجيريا ضد تونس .. نسور قرطاج بالقوة الضاربة فى كأس أمم أفريقيا    كواليس الاجتماعات السرية قبل النكسة.. قنديل: عبد الناصر حدد موعد الضربة وعامر رد بهو كان نبي؟    خبيرة تكشف طرق الاختيار السليم للزواج وتوقعات الأبراج 2026    218 فعالية و59 ألف مستفيد.. حصاد مديرية الشباب والرياضة بالمنيا خلال 2025    وزير الصحة يكرم الزميل عاطف السيد تقديرًا لدوره في تغطية ملف الشئون الصحية    النائب أحمد سيد: السياحة قضية أمن قومي وصناعة استراتيجية تقود الاقتصاد الوطني    موجة جوية غير مستقرة بشمال سيناء تتسبب بإغلاق ميناء العريش    الجيش السوداني يعلن استعادة السيطرة على منطقة الداكنوج بكردفان    عظمة على عظمة    تأجيل قضية فتى الدارك ويب المتهم بقتل طفل شبرا الخيمة لجلسة 24 يناير    تعليم العاصمة تعلن انطلاق البث المباشر لمراجعات الشهادة الإعدادية    معهد بحوث البترول وجامعة بورسعيد يوقعان اتفاقية تعاون استراتيجية لدعم التنمية والابتكار    خبير نووى: الأوروبيون فقدوا أوراق الضغط وإيران تتحرك بحرية فى ملف التخصيب    الدفاعات الجوية الروسية تسقط 111 مُسيرة أوكرانية خلال 3 ساعات    جهود لإنقاذ طفل سقط في بئر مياه شمالي غزة    مسؤول سابق بالخارجية الأمريكية: واشنطن لن تسمح لإسرائيل بشن هجوم على إيران    ألمانيا تغلق مطار هانوفر بعد رصد مسيرات في مجاله الجوي    إقبال كثيف للناخبين للإدلاء بأصواتهم في انتخابات البرلمان بقرى مركز سوهاج    صادر له قرار هدم منذ 22 عاما.. النيابة تطلب تحريات تحطم سيارة إثر انهيار عقار بجمرك الإسكندرية    هل يجوز المسح على الخُفِّ خشية برد الشتاء؟ وما كيفية ذلك ومدته؟.. الإفتاء تجيب    وزير الطاقة بجيبوتي: محطة الطاقة الشمسية في عرتا شهادة على عمق الشراكة مع مصر    يصيب بالجلطات ويُعرض القلب للخطر، جمال شعبان يحذر من التعرض للبرد الشديد    السجن 10 أعوام وغرامة 50 ألف جنيه لمتهم بحيازة مخدرات وسلاح ناري بالإسكندرية    جولة في غرفة ملابس الأهلي قبل مواجهة المصرية للاتصالات بكأس مصر    شوربة شوفان باللبن والخضار، بديل خفيف للعشاء المتأخر    بعزيمته قبل خطواته.. العم بهي الدين يتحدى العجز ويشارك في الانتخابات البرلمانية بدشنا في قنا    عمومية الطائرة تعتمد بالإجماع تعديلات لائحة النظام الأساسي وفق قانون الرياضة الجديد    الدكتور أحمد يحيى يشارك باحتفالية ميثاق التطوع ويؤكد: العمل الأهلى منظومة تنموية    الأرصاد: السحب تتشكل على جنوب الوجه البحري وتتجه للقاهرة وتوقعات بسقوط أمطار    الرقابة المالية تصدر نموذج وثيقة تأمين سند الملكية العقارية في مصر    تعذر وصول رئيس اللجنة 40 بمركز إيتاي البارود لتعرضه لحادث    افتتاح مشروعات تعليمية وخدمية في جامعة بورسعيد بتكلفة 436 مليون جنيه    27 ديسمبر 2025.. أسعار الحديد والاسمنت بالمصانع المحلية اليوم    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : المطلوب " انابة " بحكم " المنتهى " !?    موعد مباراة السنغال والكونغو الديمقراطية بأمم أفريقيا.. والقنوات الناقلة    المستشفيات الجامعية تقدم خدمات طبية ل 32 مليون مواطن خلال 2025    الصحة: فحص 9 ملايين و759 ألف طفل ضمن مبادرة الكشف المبكر وعلاج فقدان السمع لدى حديثي الولادة    عشرات الشباب يصطفون أمام لجان دائرة الرمل في أول أيام إعادة انتخابات النواب 2025    فلافيو: الفراعنة مرشحون للقب أفريقيا وشيكوبانزا يحتاج ثقة جمهور الزمالك    زاهي حواس يرد على وسيم السيسي: كان من الممكن أتحرك قضائيا ضده    أخبار × 24 ساعة.. موعد استطلاع هلال شعبان 1447 هجريا وأول أيامه فلكيا    خشوع وسكينه..... ابرز أذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في ظاهرة التصوّف المعاصر
نشر في صوت البلد يوم 02 - 06 - 2018

هل تشهد مجتمعاتنا المعاصرة ارتداداً نحو النزعة الصوفيّة في تجليّاتها المختلفة، فنيّاً وأدبيّاً واجتماعياً؟ هل يمكن لنا أن نقرأها كَدُرجة (موضة) سرعان ما تفسح المجال لأخرى تأخذ مكانها؟ وهل لنا أن نفسّر نجاح كتابات باولو كويللو الباهرة في عالم الرواية وأوشو وإليف شافاق إلا في ضوء ما يسمّى ب «الروحانية العلمانية» spiritualité laïque؟ في ضوء حاجة الإنسان المعاصر إلى الاستنارة بها؟ أي النظر إليها على أنّها رافدٌ من روافد الاستنارة المعاصرة؟
قد يكون التوجّه إلى هذا النوع من الفكر والرواية والفنّ عموماً، ردّة فعل على الماديّة والإغراق في الاستهلاكيّة، وعدم القدرة على مجاراتها، فأتى النزوع إلى التطّرف المقابل، أو قد يكون نوعاً من الإصغاء إلى صوت الداخل، أي الإصغاء إلى الحاجة الأساسيّة عند الإنسان وهي الوعي الباطني لحقيقته الإنسانية عبوراً إلى الحقيقة التي لا يمكن له أن يراها على السطح، خصوصاً، في عصر أُثقل كاهل الدين بالكثير من الأسئلة، أو الأصحّ، المساءلة، بسبب الحروب والفظائع التي تُرتكب باسمه، ما جعل الكثير يجنحون إلى البقاء تحت راية روحانية من دون الشعور الملحّ بالانتماء الديني، ما خلا الذين يحتاجون إليه في سبيل تحقيق انتماء وطني، أي ينتمون إلى الدين بسبب توظيفه الطائفي.
إبعاد تهمة الأصولية
في العالم الإسلامي المعاصر، ثمّة حاجة ملحّة للدفاع عن الإسلام وإبعاد تهمة الأصولية عنه، وبخاصّة من المسلمين أنفسهم، بعد الفظائع التي ارتكبت باسمه أخّيراً في ما يسمّى بالربيع العربي. فكان الطرح البديل أن تقدّم الصوفية نفسها على أنّها « النقيض الأكثر قوّة للراديكالية الدينية التي تُدعى الأصولية، بالإضافة إلى كونها المصدر الأهمّ لتحديّات التحديث المطروحة على الإسلام. ففي الغرب هي أكثر السبل ملاءمة لفهم الإسلام في حقيقته الجوهريّة. إذ تشكّل الصوفية أيضاً رابطاً محوريّاً بين التعاليم الروحية الإسلامية والغربية».
من هذا المنطلق، يطرح الكثير من المتنوّرين فهم دور الصوفية من باب حوار الحضارات، ودور الصوفية «في توليد فهم التقاطع بين الأديان، إضافة إلى دورها المحوري في إتاحة الطريق الروحي والأصيل للذين ينشدون الوصول في هذه الحياة إلى جنّة الحقّ».ذلك أنّ الصوفية تتوجّه إلى مَن يتوقون في أعماقهم إلى اكتشاف هويّتهم الحقيقية التي ضاعت في ظلّ الهيمنة المادية على الحياة الاجتماعية كذلك الفكرية. وهذا ما دعا إلى الإقبال عليها من المسلمين.
وفي الغرب، بدأ التوجّه الروحاني نحو التصوّف، بموجات كبيرة خصوصاً إلى تصوّف أديان الشرق الأقصى، البوذيّة تحديداً، كونها ليست ديانة تأليهيّة، ولا تدّعي ذلك، بل هي فلسفة حياة، تسهم في إظهار الدرب المفضي إلى السعادة الإنسانية، مع الاحتفاظ على القيم الأخلاقية التي تحملها كل الأديان.
قد تكون التقنيات التي اعتمدها التصوّف المعاصر بتجليّاته الكثيرة، اليوغا نموذجاً، من أجل الوصول إلى الراحة النفسية والغبطة الروحية، مع التحرّر من سطوة الأنظومات التي لا يستقيم أيّ دين من دونها، هي التي أسهمت في انتشار هذه الظاهرة كونها تجمع بين الروحانية العالية في طرق اليوغا كافّة، بإشراك الجسد وعدم نبذه في تحرير الروح، وبين التحرّر من قيد الطقوسات التي تقبل بجميع الأديان درباً إلى المطلق، في منطق يرفض الإقصاء وادّعاء امتلاك الحقيقة، والتوجّه نحو الالتزامات الخلاقيّة كواجب إنساني.
فبوذا، الشخصية المثالية للتصوف الهندي، لم يطل في عزلته عندما بلغ الاستنارة، «بل عاد إلى البشر ليؤسس ديانته ولينشر بين الناس طريق الخلاص، إذ يمكن وصف بوذا كمثال للرجل الذي صبّ جهوده في خدمة البشرية... تنازل عن الحق بالنيرفانا بعد أن وصل إليها من أجل خدمة الجنس البشري». وتاليا، إنّ معالجة الاستنارة التي هي جوهر التصوّف على أنّها مجرّد وسيلة لغاية هي الفعل، سيؤدي في النهاية إلى معالجة الأشياء المادية على أنّها أعلى من الأمور الروحية... ومن ثم يؤدي إلى مجموعة من القيم الزائفة».
ولأنّ "حياة الروحي لا يمكن أن تنحطّ إلى مستوى الوسيلة المحض للرفاهية المادية أو النجاح الدنيوي..." كان البحث عند الإنسان الذي يتوق إلى اكتشاف أعماقه بحثاً عن فكر يوازن بين الروح والجسد من دون الفصل بينهما وتحقير أحدهما على حساب الآخر. هذا ما قدّمه الأدب الروحي المعاصر، مع باولو كويللو في رواياته كافة، وهرمان هيسّه في روايته «سيدهارتا»، والفكر الروحي الجديد مع أوشو في كلّ كتبه، وبيوتات السلام التي أسّسها.
لقي هذا النوع الروحي من الأدب والفكر رواجاً كبيراً في العالمين الغربي والشرقي، لأنّه لم يبقِ هذا التوجّه نحو الأعماق محصوراً بالقلّة المصطفاة كما كان يسوّق له، بعد أن صار هذا التساؤل عن اكتشاف الهوية الحقيقية للإنسان ملحاً عند الجميع، شرقاً وغرباً، ولم يعد ترفاً فكريّاً، بل سؤال يترتب عنه كتابة مصائر، فردية واجتماعية، خصوصاً في الكيفية التي يتمّ عبرها تنمية الإمكانات الكامنة في دواخلنا عند العيش في هذا العالم. هو سؤال السعادة وتحقيق السلام في العالم المادي مع إشراك الطاقات الروحية. إنّه سؤال التصوّف المعاصر الملحّ، «كيف نعيش الجنة هنا والآن؟».
فالعصر عصر إحباط، "والمتصوّف يتجاوز دائماً العالم المؤقت، عالم التدفّق والعبث والإحباط، وهو يجلب معه السلام الذي يجاوز كلّا منهم"، ليكتب مصيره الذي اختاره.
النظر إلى الدين كوعي
كتابة المصائر هنا يدخل في باب التعايش اضطراراً، كعنوان عريض يفرض احترام الدين الآخر كخطوة من خطوات النظر إلى الدين كوعي باطني إلى الحقيقة وتالياً الهُويّة الإنسانيّة كتحقيق للذات تتحقّق عبره السعادة. وفصل الهوية الإنسانية عن الدين غير متحقّق حتى في حيّز الوعود، لبعض الخصوصيات الدينية التي تفرض الدين كهويّة أولى تتقدّم على غيرها، ما جعل السعادة الإنسانية أمراً بعيد المنال. تسلّل الضجر إلى الإنسان في سعادته بالدنيويات، صار يطمح إلى تحقيقها في عالم الروح.
عالم الروح حيث وعود السعادة الحقيقة لا يمكن أن يمرّ إلّا بالدين كما سوّق له. الدين أديان، والأديان لها مريدون يتقاتلون باسم الأحقيّة والشرع والشرعيّة. هذا التقاتل نفّر الكثير من الناس من التديّن، فانقسموا إلى قسمين، قسم غاص في الدفاع عن دينه وطقوسه إلى حدّ التطرف، بعد العبث بكلام الله «الموحى» به لأنبيائه، وقسم ابتعد كليّاً عن الدين نحو الفلسفات المادية، أي التطرف المقابل، وحين اصطدموا بالعدم، حاولوا البحث عن روحانية تستجيب لطموحاتهم الروحية والنفسية، فتوجّهوا نحو أنواع من التصوّف تناسب أو تلائم تطلّعاته إلى العالم الماورائي في تحقيق ذواتهم وسعادتهم، وهو الإحساس بإله كليّ قدير، يمكن له أن يتخّذ أسماء عديدة، منها الله، أو الطاقة الكليّة، أو الذات الكلية، وغيرها. ففي عصر العولمة وإلغاء الحدود، ثار الإنسان المعاصر على القيود الكثيرة التي تفرضها الأديان على المنتمين إليها، يريد التحرّر من سلطتها، يريد علاقة مع إله لا دور للوسيط فيها. يريد استجابة إلى نداء الروح فيه.
تجاوز التصوّف المعاصر سؤال التعددية، لأنّ الاعتراف بهذه التعددية يصبح من المسلّمات التي يتمّ الانطلاق منها، ليصبح التصوّف المعاصر أقرب إلى ما يطلق عليه اليوم ب «الروحانيّة العلمانيّة».
لا نقدّم هذا المقال على أنّه دراسة اجتماعية- نفسية، لكنّه قراءة وصفية تحليليّة في محاولة الكشف عن الظواهر المتفشيّة في دُرجة الإقبال على الأدب الصوفي والفنّ الصوفي.
__________
يتبع: باولو كويللو والصوفية المادية.
هل تشهد مجتمعاتنا المعاصرة ارتداداً نحو النزعة الصوفيّة في تجليّاتها المختلفة، فنيّاً وأدبيّاً واجتماعياً؟ هل يمكن لنا أن نقرأها كَدُرجة (موضة) سرعان ما تفسح المجال لأخرى تأخذ مكانها؟ وهل لنا أن نفسّر نجاح كتابات باولو كويللو الباهرة في عالم الرواية وأوشو وإليف شافاق إلا في ضوء ما يسمّى ب «الروحانية العلمانية» spiritualité laïque؟ في ضوء حاجة الإنسان المعاصر إلى الاستنارة بها؟ أي النظر إليها على أنّها رافدٌ من روافد الاستنارة المعاصرة؟
قد يكون التوجّه إلى هذا النوع من الفكر والرواية والفنّ عموماً، ردّة فعل على الماديّة والإغراق في الاستهلاكيّة، وعدم القدرة على مجاراتها، فأتى النزوع إلى التطّرف المقابل، أو قد يكون نوعاً من الإصغاء إلى صوت الداخل، أي الإصغاء إلى الحاجة الأساسيّة عند الإنسان وهي الوعي الباطني لحقيقته الإنسانية عبوراً إلى الحقيقة التي لا يمكن له أن يراها على السطح، خصوصاً، في عصر أُثقل كاهل الدين بالكثير من الأسئلة، أو الأصحّ، المساءلة، بسبب الحروب والفظائع التي تُرتكب باسمه، ما جعل الكثير يجنحون إلى البقاء تحت راية روحانية من دون الشعور الملحّ بالانتماء الديني، ما خلا الذين يحتاجون إليه في سبيل تحقيق انتماء وطني، أي ينتمون إلى الدين بسبب توظيفه الطائفي.
إبعاد تهمة الأصولية
في العالم الإسلامي المعاصر، ثمّة حاجة ملحّة للدفاع عن الإسلام وإبعاد تهمة الأصولية عنه، وبخاصّة من المسلمين أنفسهم، بعد الفظائع التي ارتكبت باسمه أخّيراً في ما يسمّى بالربيع العربي. فكان الطرح البديل أن تقدّم الصوفية نفسها على أنّها « النقيض الأكثر قوّة للراديكالية الدينية التي تُدعى الأصولية، بالإضافة إلى كونها المصدر الأهمّ لتحديّات التحديث المطروحة على الإسلام. ففي الغرب هي أكثر السبل ملاءمة لفهم الإسلام في حقيقته الجوهريّة. إذ تشكّل الصوفية أيضاً رابطاً محوريّاً بين التعاليم الروحية الإسلامية والغربية».
من هذا المنطلق، يطرح الكثير من المتنوّرين فهم دور الصوفية من باب حوار الحضارات، ودور الصوفية «في توليد فهم التقاطع بين الأديان، إضافة إلى دورها المحوري في إتاحة الطريق الروحي والأصيل للذين ينشدون الوصول في هذه الحياة إلى جنّة الحقّ».ذلك أنّ الصوفية تتوجّه إلى مَن يتوقون في أعماقهم إلى اكتشاف هويّتهم الحقيقية التي ضاعت في ظلّ الهيمنة المادية على الحياة الاجتماعية كذلك الفكرية. وهذا ما دعا إلى الإقبال عليها من المسلمين.
وفي الغرب، بدأ التوجّه الروحاني نحو التصوّف، بموجات كبيرة خصوصاً إلى تصوّف أديان الشرق الأقصى، البوذيّة تحديداً، كونها ليست ديانة تأليهيّة، ولا تدّعي ذلك، بل هي فلسفة حياة، تسهم في إظهار الدرب المفضي إلى السعادة الإنسانية، مع الاحتفاظ على القيم الأخلاقية التي تحملها كل الأديان.
قد تكون التقنيات التي اعتمدها التصوّف المعاصر بتجليّاته الكثيرة، اليوغا نموذجاً، من أجل الوصول إلى الراحة النفسية والغبطة الروحية، مع التحرّر من سطوة الأنظومات التي لا يستقيم أيّ دين من دونها، هي التي أسهمت في انتشار هذه الظاهرة كونها تجمع بين الروحانية العالية في طرق اليوغا كافّة، بإشراك الجسد وعدم نبذه في تحرير الروح، وبين التحرّر من قيد الطقوسات التي تقبل بجميع الأديان درباً إلى المطلق، في منطق يرفض الإقصاء وادّعاء امتلاك الحقيقة، والتوجّه نحو الالتزامات الخلاقيّة كواجب إنساني.
فبوذا، الشخصية المثالية للتصوف الهندي، لم يطل في عزلته عندما بلغ الاستنارة، «بل عاد إلى البشر ليؤسس ديانته ولينشر بين الناس طريق الخلاص، إذ يمكن وصف بوذا كمثال للرجل الذي صبّ جهوده في خدمة البشرية... تنازل عن الحق بالنيرفانا بعد أن وصل إليها من أجل خدمة الجنس البشري». وتاليا، إنّ معالجة الاستنارة التي هي جوهر التصوّف على أنّها مجرّد وسيلة لغاية هي الفعل، سيؤدي في النهاية إلى معالجة الأشياء المادية على أنّها أعلى من الأمور الروحية... ومن ثم يؤدي إلى مجموعة من القيم الزائفة».
ولأنّ "حياة الروحي لا يمكن أن تنحطّ إلى مستوى الوسيلة المحض للرفاهية المادية أو النجاح الدنيوي..." كان البحث عند الإنسان الذي يتوق إلى اكتشاف أعماقه بحثاً عن فكر يوازن بين الروح والجسد من دون الفصل بينهما وتحقير أحدهما على حساب الآخر. هذا ما قدّمه الأدب الروحي المعاصر، مع باولو كويللو في رواياته كافة، وهرمان هيسّه في روايته «سيدهارتا»، والفكر الروحي الجديد مع أوشو في كلّ كتبه، وبيوتات السلام التي أسّسها.
لقي هذا النوع الروحي من الأدب والفكر رواجاً كبيراً في العالمين الغربي والشرقي، لأنّه لم يبقِ هذا التوجّه نحو الأعماق محصوراً بالقلّة المصطفاة كما كان يسوّق له، بعد أن صار هذا التساؤل عن اكتشاف الهوية الحقيقية للإنسان ملحاً عند الجميع، شرقاً وغرباً، ولم يعد ترفاً فكريّاً، بل سؤال يترتب عنه كتابة مصائر، فردية واجتماعية، خصوصاً في الكيفية التي يتمّ عبرها تنمية الإمكانات الكامنة في دواخلنا عند العيش في هذا العالم. هو سؤال السعادة وتحقيق السلام في العالم المادي مع إشراك الطاقات الروحية. إنّه سؤال التصوّف المعاصر الملحّ، «كيف نعيش الجنة هنا والآن؟».
فالعصر عصر إحباط، "والمتصوّف يتجاوز دائماً العالم المؤقت، عالم التدفّق والعبث والإحباط، وهو يجلب معه السلام الذي يجاوز كلّا منهم"، ليكتب مصيره الذي اختاره.
النظر إلى الدين كوعي
كتابة المصائر هنا يدخل في باب التعايش اضطراراً، كعنوان عريض يفرض احترام الدين الآخر كخطوة من خطوات النظر إلى الدين كوعي باطني إلى الحقيقة وتالياً الهُويّة الإنسانيّة كتحقيق للذات تتحقّق عبره السعادة. وفصل الهوية الإنسانية عن الدين غير متحقّق حتى في حيّز الوعود، لبعض الخصوصيات الدينية التي تفرض الدين كهويّة أولى تتقدّم على غيرها، ما جعل السعادة الإنسانية أمراً بعيد المنال. تسلّل الضجر إلى الإنسان في سعادته بالدنيويات، صار يطمح إلى تحقيقها في عالم الروح.
عالم الروح حيث وعود السعادة الحقيقة لا يمكن أن يمرّ إلّا بالدين كما سوّق له. الدين أديان، والأديان لها مريدون يتقاتلون باسم الأحقيّة والشرع والشرعيّة. هذا التقاتل نفّر الكثير من الناس من التديّن، فانقسموا إلى قسمين، قسم غاص في الدفاع عن دينه وطقوسه إلى حدّ التطرف، بعد العبث بكلام الله «الموحى» به لأنبيائه، وقسم ابتعد كليّاً عن الدين نحو الفلسفات المادية، أي التطرف المقابل، وحين اصطدموا بالعدم، حاولوا البحث عن روحانية تستجيب لطموحاتهم الروحية والنفسية، فتوجّهوا نحو أنواع من التصوّف تناسب أو تلائم تطلّعاته إلى العالم الماورائي في تحقيق ذواتهم وسعادتهم، وهو الإحساس بإله كليّ قدير، يمكن له أن يتخّذ أسماء عديدة، منها الله، أو الطاقة الكليّة، أو الذات الكلية، وغيرها. ففي عصر العولمة وإلغاء الحدود، ثار الإنسان المعاصر على القيود الكثيرة التي تفرضها الأديان على المنتمين إليها، يريد التحرّر من سلطتها، يريد علاقة مع إله لا دور للوسيط فيها. يريد استجابة إلى نداء الروح فيه.
تجاوز التصوّف المعاصر سؤال التعددية، لأنّ الاعتراف بهذه التعددية يصبح من المسلّمات التي يتمّ الانطلاق منها، ليصبح التصوّف المعاصر أقرب إلى ما يطلق عليه اليوم ب «الروحانيّة العلمانيّة».
لا نقدّم هذا المقال على أنّه دراسة اجتماعية- نفسية، لكنّه قراءة وصفية تحليليّة في محاولة الكشف عن الظواهر المتفشيّة في دُرجة الإقبال على الأدب الصوفي والفنّ الصوفي.
__________
يتبع: باولو كويللو والصوفية المادية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.