كتب نجيب محفوظ ثلاثيته الرائعة فى خمسينيات القرن الماضي، فكم بلغ عدد قرائها؟! ربما الآلاف أو مئات الآلاف، لكن كم عدد الذين شاهدوا أفلام الثلاثية على شاشة السينما والتلفزيون، خاصة «بين القصرين»، المؤكد أنهم ملايين. سيطر المخرج حسن الإمام على عقول المشاهدين باحترافية جعلت الأغلبية تقرأ تاريخ مصر من أفلام الثلاثية لا من كتب التاريخ، بل وتتعرف عن قرب على أبطالها ولزماتهم فى تلك الأفلام. أقول ذلك بمناسبة عرض فيلم الست والضجة التى أثيرت حوله. لن أتناول الفيلم من جوانبه الفنية أو الدرامية، إنما أركز على ما تمثله أم كلثوم من قوة ناعمة غير متكررة. فهى إحدى أهم ركائز القوة الناعمة المصرية والعربية، ليست مطربة استثنائية فحسب، بل رمز ثقافى وحضارى تشكل عبر عقود طويلة، وارتبط فى الوجدان الجمعى بالقيمة، والرقي، والانضباط الفنى والأخلاقي. زاد من الحديث عن الفيلم سواء بالمدح أو القدح ما تردد عن كونه إنتاجا مشتركا مع جهة غير مصرية ورغم نفى الأمر لاحقاً إلا أن ذلك لم يغلق باب التساؤلات حول الدوافع الكامنة وراء هذا النوع من المعالجات الفنية. فهل نحن أمام قراءة فنية جريئة للتاريخ، أم أمام ضربة معول تستهدف تفكيك الرموز المؤسسة للقوة الناعمة المصرية؟. إن الطرب العربى فى مصر وأم كلثوم، على قمته، إلى جانب السينما والمسرح والأدب، شكلت لعقود طويلة أدوات نفوذ ثقافى ناعم تجاوز الحدود، لذلك أى مساس يضر بهذه الرموز يساهم فى إضعاف هذا التأثير، لا فى إثرائه. هناك فارق بين التفكيك النقدى المسئول والهدم الرمزى الذى يفرغ الرموز من معناها، فهل يخدم هذا النوع من الأعمال الفن، أم يساهم فى التأثير السلبى على القوة الناعمة المصرية ؟. إن القوة الناعمة لا تهدم دفعة واحدة، بل تتآكل تدريجيا حين يعاد تقديم رموزها الكبار خارج سياقها، أو تنزع عنها هالتها التاريخية. وأم كلثوم ليست شخصية عادية قابلة لإعادة التشكيل وفق أهواء السوق أو شراكات الإنتاج، بل أحد أعمدة النفوذ الثقافى المصرى الذى صنع الوجدان العربى لعقود. إن القوة الناعمة تصان بالوعي، وبالقدرة على التمييز بين الإبداع والتشويه .