في الرواية الصوفية: باولو كويللو، والصوفية المادية هل يمكن لنا أن نقرأ نجاح باولو كويللو الباهر وترجمة رواياته إلى أكثر من سبعين لغة عالمية من هذا الباب؟ من باب الارتداد إلى الروحانية؟ يبدو جليّاً أنّ سرّ انبهار القرّاء بباولو كويللو يعود إلى أكثر من أمر. منها، الجنوح إلى النزعة الصوفية، ولكنّها صوفية من نوع خاصّ، صوفية تتماشى مع العصر الجديد ومتطلّباته. صوفية أو روحانيّة تتوسّل المادة سبيلاً للوصول إلى اللامتناهي، روحانية لا تحارب الأديان، لكنّها تنفصل عنها كليّاً في الطريق إلى الهدف، مع قدرة لافتة على استخدام مصطلحاتها بما يقنع القارئ أن يجعلها رافداً لفكره، فيطمئنّ إليها، ومن ثمّ يبشّر من خلالها بأفكاره التي تتناقض معها كليّاً. هي صوفية تلجأ إلى الحكمة التي لا تفصل العالم الحسيّ عن العالم الماورائي، بل تعمد إلى التوفيق بينهما، والإصغاء إلى متطلّبات النفس والروح والجسد. فقارئ باولو كويللو، يجد أنّه يكثّف اهتمامه على فكرة الوعي الباطني، وأكثر ما تجلّى ذلك في روايته الخيميائي، ومقولته الشهيرة التي صارت شعاراً: «عندما تريد شيئاً ما، حقّاً، فإنّ الكون بأسره يطاوعك على تحقيق رغبتك» (الخيميائي). هي الحكمة على لسان الملك التي وجهها إلى الشاب (سنتياغو بطل القصة)، من أجل أن تزرع فيه الأمل وشغف الحياة والمضيّ في طموحاته. هي نزعة الاقتدار والتخطّي التي يحتاج إنسان القرن الواحد والعشرين من دون حواجز الدين والحدود التي يرميها، في التصوف، يتحرّر الإنسان من كلّ هذه الحواجز، وهذا ما يسعى إليه ويريده. لقد استطاع كويللو أن يبشّر بروحانية يحتاجها الناس في عصر السرعة والتطور وتبدّل المفاهيم والجنوح نحو «الإلحاد»، هي الروحانية التي تأخذ من الصوفية المتعارف عليها بعدها الماورائي في احترام التناغم الكوني، هذا التناغم الذي لا يتأتّى إلّا من الوعي الباطني، وفعلياً هو البعد المشترك بين الجمعيات الغنوصية أو السرية، التي تتّخذ في الصوفية منحى العرفانية، وفي الجمعيات التي تعنى بالبارابسيكولوجيا أو الإيزوتريك المنحى التجاوزي في احترام هذا التناغم الكوني والإيمان بقدرة الإنسان على كتابة مصيره، أو التحكّم بقدره كما هو معروف في مصطلحاتهم. لقد جعل كويللو المحبّة كفعل تطهيري من كلّ الأدران هي العماد الأساس لنصّه الروائي، مغلفاً برضى ديني معتمداً إيّاه كجوهر لأفكاره، متجاوزاً في الوقت عينه كلّ ما له صلة بالطقوسيات، وبذلك، يكون كويللو قد لبّى طموح قارئيه، بأن جعل جوهر الوجود الإنساني مرتبطاً بالتناغم الكوني الذي يقوم في الأساس على المحبة، وكلّ ما عداه من أقوال وأفعال تتعّلق بالخطيئة رفضها على أنّها مسّ بالسعادة الإنسانية. لا بدّ من التنويه هنا، بأنّ باولو كويللو غير مرضيّ عنه أكاديمياً، لضعفه في فنية السرد وتقنياته، واجترار أفكاره، لكنّ توليفته التي قام بها من المسيحية والإسلام والهندوسية والبوذيّة والثيوصوفيّة والتصوّف المادي الذي يقوم على مبدأ وحدة الوجود الماديّة، ومن ثمّ الإضاءة على ما يناسب أفكاره، جعل أعماله تظهر بلباس الصوفية التي تستقلّ عن الديانات المنظّمة، «ويمكن أن توجد من دون هذه الديانات، ولو كان هدفها واحداً، وهو تجاوز الآفاق الأرضية إلى اللامتناهي والأزلي»، لكنه يضيف إليها تقنيات إرضاء حاجات الروح عبر الجسد. والجنوح نحو التطرّف في أعمال كويللو إلى الإباحيّة غير المقبولة، كان من خلال روايته «الزانية»، إذ ربط الإباحيّة بالروحانيّة من خلال توق الوصول إلى النشوة والمطلق، ولو كان ذلك من باب الخيانات ونسف الأخلاقيات والقيم، يجعل قراءة كويللو كالمشي بين الألغام. كويللو وجبران نجاح كويللو قريب من نجاح جبران في رواج هذا الأدب الروحي، مع بعض الملاءمات العصرية. فجبران كانت له خلطته الخاصة الفكرية التي لبّت حاجات الناس في ذلك الحين، الثورة على رجال الدين مع احترام جوهر الدين، الثورة على أفعال محتكري الله والعودة إلى روح الله، استطاع جبران أن ينال رضى الناس بالتناغم الكوني القائم على الروحانية، والوعي بالروح هو الوعي الباطني كطريقة وحيدة للعبور إلى الحقيقة، المشي بموازاة القيم الدينية وأخلاقياتها مع التحرّر الكليّ من سطوة طقوسياتها ووسائطها. وفي مقارنة سريعة بين كتاب كويللو «مخطوطة وجدت في عكرا» و «النبيّ»، نجد أن كويللو لم يبتعد عن أسلوب جبران في النبي وعظا وإرشاداً حول موضوعات تظهر مدى تأثر الاثنين بالفكر الثيوصوفي. إليف شافاق ورواية «قواعد العشق الأربعون» وفي باب الرواية الصوفية، نجحت إليف شافاق في روايتها:» قواعد العشق الأربعون» من استقطاب شريحة كبيرة من المهتمّين بالأدب، وظهر الاهتمام الكبير بالأدب الصوفي من خلال بيعها آلاف النسخ، وهي تحكي قصّتين في زمنين مختلفين، زمن الكاتبة، مطلع القرن الواحد والعشرين، والقرن الثالث عشر، وعرضت سيرة جلال الدين الرومي (المتزوج من كيرا المسيحية ومن ثم البهائية)، وعلاقته بمعلّمه شمس تبريزي، وتمّ الانتقال بين الزمنين عبر قراءة مخطوطة بعنوان»الكفر الحلو»، لبطلة يهودية تغرم بعزيز، الملحد- المسيحي المتحوّل إلى الإسلام الصوفي، لتصبّ في قاعدة شمس تبريزي عن وحدة الأديان بتجاوزها جميعاً، وهي ملخّصة في الرواية ضمن القاعدة الرابعة: «يمكنك أن ترى الله من خلال كل شيء، وكل شخص في هذا الكون، لأنّ وجود الله لا ينحصر في المسجد أو في الكنيسة أو في الكنيس، إذا كنت لا تزال تريد أن تعرف أين يقع عرشه بالتحديد، يوجد مكان واحد فقط تستطيع أن تبحث فيه عنه، وهو قلب عاشق حقيقي، فلم يعش أحد بعد رؤيته ولم يمت أحد بعد رؤيته، فمن يجده يبقى معه إلى الأبد.» والانتقال من الجهاد الخارجي (محاربة الكفار) إلى الجهاد الداخلي (رغبات النفس). الرواية إحياء للقيم الصوفية، ودعوة إلى الروحانية في أبهى قيمها وأخلاقها المثالية بما يتوق إليه الإنسان المعاصر، مع إعلاء الاهتمام بالمادّة والانجرار وراء العاطفة ولو تسبّبت بالخيانة تحت اسم الحبّ المطهّر المحيي، وهو ما وجدناه لدى كويللو أيضاً وسنجده في فكر أوشو لاحقاً. «كما ترين يا إيلا، كل ما يمكنني أن أمنحك إياه هو اللحظة الراهنة، هذا كل ما أملكه، وفي الحقيقة لا أحد يملك أكثر من ذلك». التشديد على الاهتمام باللحظة وعيشها بما تقدّمه من فرح وسلام هو محور اهتمام إنسان القرن الواحد والعشرين، الذي ما عادت تروقه أخبار الجنّة الموعودة. كذلك، ثمّة تقنية لافتة عند شافاق، هي قدرتها على استحضار التراث بقوّة، وهو أمر لا يخلو من خطورة العبث به وإعادة قراءته، وما سمّته بمخطوطة» الكفر الحلو» لتربط بين الزمنين، ربّما يكون بالحثّ على التنبّه إلى قراءة الظاهر والباطن، وربّما دعوة إلى الثورة من التحرّر من قيود تقديس الرموز وسلطة المتحكّمين بالدين، عبر الإشارة بقبطة مخفية إلى سرّ العلاقة التي جمعت بين جلال الدين ومعلّمه شمس الذي أخذ لبّه، وعدم استطاعة هذا الأخير من إقامة علاقة جنسية سليمة مع زوجته كيما والكلام في التحليل والتحريم بين العصرين. ثمّة روايات صوفيّة أخرى في هذا الباب، منها: «موت صغير» للكاتب السعودي محمّد حسن علوان وحصولها على جائزة بوكر، تحمل سيرة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، الصوفي والقصر للروائي أحمد رفيق عوض، تدور حول شخصية الصوفي أحمد بن علي بن يحيي المعروف باسم السيّد البدوي الذي له طريقة وأنصاره إلى اليوم في مصر، ورواية الحلاج للروائي المصري «محمد سامي البوهي»، لكنها جميعها لم ترق إلى شهرة «قواعد العشق الأربعون» لشافاق. المدوّنات وصفحات التواصل الاجتماعي كثر الاهتمام بجلال الدين الرومي أيضاً وقصائده في العالمين العربي والغربي، من خلال الاهتمام الكثيف بدراسته نقديّاً، وأهميّته في نشر الحوار بين الحضارات وردّ تهمة الأصولية عن الإسلام خصوصاً في العالم الغربي أخّيراً. وقد كثر الاستشهاد بحكمه ومقاطعه الشعرية كذلك بشعر ابن عربي والحلاج في إطار تبنّ لها في قبول الآخر، والاتحاد بالطبيعة، وكل ما خلقه الله درباً إلى الوصول إليه. وفي نظرة شاملة لعيّنات كثيرة من تعبير الناس على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، نرى النصوص الشعرية الصوفية من أكثرها رواجاً، خصوصاً تلك المقتبسة من الصفحات المخصّصة للشعراء الصوفيين. فكيف لنا أن نقرأ هذا الجنوح إلى الغرف من التراث؟ خصوصاً في ما يتعلّق بالحبّ الصوفي؟ هل هو شوق إلى هذه الحال الروحانية، وقد غدا العصر غير ذلك العصر الذي كُتبت فيه؟ بعيداً من التعميم في قراءة هذه الظاهرة، أعود إلى «ترجمان الأشواق» لابن عربي. المعلوم أن ابن عربي «كان عاشقاً نظام وهي ابنة الشيخ أبي شجاع بن رستم الأصفهاني الذي يعد من كبار شيوخ بلاد فارس في حينها. وكانت تعتبر مثالاً في الكمال الروحي والجمال الظاهري وحسن الخلق، فأسهمت معه في تصفية حياته الروحية وكتب فيها مديحا هو ترجمان الأشواق». وقد صار لاحقاً تأويل قصائد هذا الديوان، بأنّ الضمير المستخدم هو تأنيث للذات الإلهيّة. بما أن الكلام في التصوّف يحتمل الوجهين الظاهر والباطن. وبذلك، تغدو ظاهرة الاستعانة بالتراث الصوفي من باب القناع الذي نختاره في وصف الحال الراهنة التي نعيشها، من دون أن يكون حالة روحية حقيقية في سبيل التجاوز إلى اللامتناهي. ظاهرة التهافت على فكر أوشو لا يمكن لنا هنا أن نهمل ظاهرة الاقتباسات من «أوشو»، وتالياً تصويره على أنّه منقذ العصر الجديد من خلال حكمه التي تهدف إلى إقصاء الشقاء عن الإنسان ومساعدته لإيجاد طريقه إلى السعادة عبر الروحانية التي يبشّر بها والرياضات المرافقة لها، وتصوير التصوّف الذي يبشر به على أنّه طريق الخلاص لإنسان العصر الجديد. وبما أنّ الصوفي في أيّ ثقافة، «غالباً ما يؤول تجربته من منظور الدين الذي تربّى عليه، لكنّه إذا كان متحضّراً بدرجة كافية فإنّه يمكن أن يطرح هذه العقائد الدينية ويظل محتفظاً بوعيه الصوفي، استطاع أوشو الذي يُعرف بالمتصوّف المعاصر والحكيم الذي انتشر مريدوه في كلّ أنحاء العالم، يحرص على تعليم تلامذته، «أنّ جوهر الإنسان ليس جسمه ولا عقله ولا ذاته الفردية، ولكن جوهره هو وجود صرف، لا تخالطه صورة وا تشوبه صفة... هذا الوجود الصرف الذي يشكل جوهر الكيان الإنساني، تسمّيه أسفار الأوبانيشاد «الأتمان». هو حقيقتنا والثابت فينا وراء حجب الوهم والكثرة التعددية الظاهرة، ومع هذه التعاليم، «دعا أوشو إلى موقف أكثر انفتاحاً تجاه العلاقات الجنسية، ما أكسبه لقب «معلّم الجنس» في الصحافة الهندية ولاحقاً العالم»، وهذه الإباحة الجنسية مغلّفة بغطاء روحاني، يشرّع التفلّت الجنسي تحت راية الحبّ المطّهر والاتصال باللامتناهي والوصول إلى المطلق، أكسب ظاهرة أوشو قبولاً كبيراً من إنسان العصر الجديد التائق إلى تحرّره. في الفنّ الصوفي المعاصر رقصة الدراويش ليست أمراً مستجدّاً في تراثنا العربي الصوفي، لطالما كانت موجودة خصوصاً الطريقة المولوية في الرقص والسماع، وانتشرت لتصبح رقصة متعلّقة بشهر رمضان من غير أن تكون مرتبطة بطقس ديني، إنّما صارت نوعاً من الاستعراض الفنّي الذي يقدّم ترفاً وفنّاً قائماً بذاته، تقدّمه فرقة استعراضية، وصار يُستقدم في حفلات الأعراس والحفلات. ويمكن القول، إنّه فرُّغ من قيمته الأصليّة، أي حال الدافع إليه، ونقصد بالدافع حال السكرة التي يعيشها الصوفي، لتتقطّع أوصاله اتحاداً بالكون. أمّا بالنسبة إلى الأغنية الصوفية، أعاد الجميع إحياء شعر الحلاج وجلال الدين الرومي في أغانٍ، جاهدة وهبة نموذجاً وأحمد حويلي، وإقامة حفلات لأغانٍ صوفية في كل ّالعالم العربي، مع رواج كبير. لا بدّ لنا في ختام هذه المقالة من أن نكرّر القول، إنّها قراءة وصفية عامّة، تحتاج إلى التعمّق في التحليل والتشريح والنقدي والمتابعة الجديّة في ظلّ عصر كُسرت فيه الكثير من الحدود على الصعد كافّة. وأمام هذه المعاينة السريعة للأدب الروحي الأكثر رواجاً وقراءة، لا يمكن لنا إلّا أن نعيد قراءة هذا الأدب في ضوء الروحانية العلمانية، التي ترى إلى أنّه «لا بدَّ للمسعى الروحي الأصيل من أن يكون عَلمانيّاً بحتاً، أي حرّاً من جميع التنظيمات أو المرجعيات الدينية. إنهّ حركة اكتشاف لا توجد إلا في حرية تامة، وهذه الحرية إنّما هي جوهر الدين نفسه. وحدها هذه الحرية تتيح للذهن أن يتحرّر من إشراطاته تحرراً كليّاً وعميقاً. إذ ذاك يستنير الذهن وينعدم الشقاء». في الرواية الصوفية: باولو كويللو، والصوفية المادية هل يمكن لنا أن نقرأ نجاح باولو كويللو الباهر وترجمة رواياته إلى أكثر من سبعين لغة عالمية من هذا الباب؟ من باب الارتداد إلى الروحانية؟ يبدو جليّاً أنّ سرّ انبهار القرّاء بباولو كويللو يعود إلى أكثر من أمر. منها، الجنوح إلى النزعة الصوفية، ولكنّها صوفية من نوع خاصّ، صوفية تتماشى مع العصر الجديد ومتطلّباته. صوفية أو روحانيّة تتوسّل المادة سبيلاً للوصول إلى اللامتناهي، روحانية لا تحارب الأديان، لكنّها تنفصل عنها كليّاً في الطريق إلى الهدف، مع قدرة لافتة على استخدام مصطلحاتها بما يقنع القارئ أن يجعلها رافداً لفكره، فيطمئنّ إليها، ومن ثمّ يبشّر من خلالها بأفكاره التي تتناقض معها كليّاً. هي صوفية تلجأ إلى الحكمة التي لا تفصل العالم الحسيّ عن العالم الماورائي، بل تعمد إلى التوفيق بينهما، والإصغاء إلى متطلّبات النفس والروح والجسد. فقارئ باولو كويللو، يجد أنّه يكثّف اهتمامه على فكرة الوعي الباطني، وأكثر ما تجلّى ذلك في روايته الخيميائي، ومقولته الشهيرة التي صارت شعاراً: «عندما تريد شيئاً ما، حقّاً، فإنّ الكون بأسره يطاوعك على تحقيق رغبتك» (الخيميائي). هي الحكمة على لسان الملك التي وجهها إلى الشاب (سنتياغو بطل القصة)، من أجل أن تزرع فيه الأمل وشغف الحياة والمضيّ في طموحاته. هي نزعة الاقتدار والتخطّي التي يحتاج إنسان القرن الواحد والعشرين من دون حواجز الدين والحدود التي يرميها، في التصوف، يتحرّر الإنسان من كلّ هذه الحواجز، وهذا ما يسعى إليه ويريده. لقد استطاع كويللو أن يبشّر بروحانية يحتاجها الناس في عصر السرعة والتطور وتبدّل المفاهيم والجنوح نحو «الإلحاد»، هي الروحانية التي تأخذ من الصوفية المتعارف عليها بعدها الماورائي في احترام التناغم الكوني، هذا التناغم الذي لا يتأتّى إلّا من الوعي الباطني، وفعلياً هو البعد المشترك بين الجمعيات الغنوصية أو السرية، التي تتّخذ في الصوفية منحى العرفانية، وفي الجمعيات التي تعنى بالبارابسيكولوجيا أو الإيزوتريك المنحى التجاوزي في احترام هذا التناغم الكوني والإيمان بقدرة الإنسان على كتابة مصيره، أو التحكّم بقدره كما هو معروف في مصطلحاتهم. لقد جعل كويللو المحبّة كفعل تطهيري من كلّ الأدران هي العماد الأساس لنصّه الروائي، مغلفاً برضى ديني معتمداً إيّاه كجوهر لأفكاره، متجاوزاً في الوقت عينه كلّ ما له صلة بالطقوسيات، وبذلك، يكون كويللو قد لبّى طموح قارئيه، بأن جعل جوهر الوجود الإنساني مرتبطاً بالتناغم الكوني الذي يقوم في الأساس على المحبة، وكلّ ما عداه من أقوال وأفعال تتعّلق بالخطيئة رفضها على أنّها مسّ بالسعادة الإنسانية. لا بدّ من التنويه هنا، بأنّ باولو كويللو غير مرضيّ عنه أكاديمياً، لضعفه في فنية السرد وتقنياته، واجترار أفكاره، لكنّ توليفته التي قام بها من المسيحية والإسلام والهندوسية والبوذيّة والثيوصوفيّة والتصوّف المادي الذي يقوم على مبدأ وحدة الوجود الماديّة، ومن ثمّ الإضاءة على ما يناسب أفكاره، جعل أعماله تظهر بلباس الصوفية التي تستقلّ عن الديانات المنظّمة، «ويمكن أن توجد من دون هذه الديانات، ولو كان هدفها واحداً، وهو تجاوز الآفاق الأرضية إلى اللامتناهي والأزلي»، لكنه يضيف إليها تقنيات إرضاء حاجات الروح عبر الجسد. والجنوح نحو التطرّف في أعمال كويللو إلى الإباحيّة غير المقبولة، كان من خلال روايته «الزانية»، إذ ربط الإباحيّة بالروحانيّة من خلال توق الوصول إلى النشوة والمطلق، ولو كان ذلك من باب الخيانات ونسف الأخلاقيات والقيم، يجعل قراءة كويللو كالمشي بين الألغام. كويللو وجبران نجاح كويللو قريب من نجاح جبران في رواج هذا الأدب الروحي، مع بعض الملاءمات العصرية. فجبران كانت له خلطته الخاصة الفكرية التي لبّت حاجات الناس في ذلك الحين، الثورة على رجال الدين مع احترام جوهر الدين، الثورة على أفعال محتكري الله والعودة إلى روح الله، استطاع جبران أن ينال رضى الناس بالتناغم الكوني القائم على الروحانية، والوعي بالروح هو الوعي الباطني كطريقة وحيدة للعبور إلى الحقيقة، المشي بموازاة القيم الدينية وأخلاقياتها مع التحرّر الكليّ من سطوة طقوسياتها ووسائطها. وفي مقارنة سريعة بين كتاب كويللو «مخطوطة وجدت في عكرا» و «النبيّ»، نجد أن كويللو لم يبتعد عن أسلوب جبران في النبي وعظا وإرشاداً حول موضوعات تظهر مدى تأثر الاثنين بالفكر الثيوصوفي. إليف شافاق ورواية «قواعد العشق الأربعون» وفي باب الرواية الصوفية، نجحت إليف شافاق في روايتها:» قواعد العشق الأربعون» من استقطاب شريحة كبيرة من المهتمّين بالأدب، وظهر الاهتمام الكبير بالأدب الصوفي من خلال بيعها آلاف النسخ، وهي تحكي قصّتين في زمنين مختلفين، زمن الكاتبة، مطلع القرن الواحد والعشرين، والقرن الثالث عشر، وعرضت سيرة جلال الدين الرومي (المتزوج من كيرا المسيحية ومن ثم البهائية)، وعلاقته بمعلّمه شمس تبريزي، وتمّ الانتقال بين الزمنين عبر قراءة مخطوطة بعنوان»الكفر الحلو»، لبطلة يهودية تغرم بعزيز، الملحد- المسيحي المتحوّل إلى الإسلام الصوفي، لتصبّ في قاعدة شمس تبريزي عن وحدة الأديان بتجاوزها جميعاً، وهي ملخّصة في الرواية ضمن القاعدة الرابعة: «يمكنك أن ترى الله من خلال كل شيء، وكل شخص في هذا الكون، لأنّ وجود الله لا ينحصر في المسجد أو في الكنيسة أو في الكنيس، إذا كنت لا تزال تريد أن تعرف أين يقع عرشه بالتحديد، يوجد مكان واحد فقط تستطيع أن تبحث فيه عنه، وهو قلب عاشق حقيقي، فلم يعش أحد بعد رؤيته ولم يمت أحد بعد رؤيته، فمن يجده يبقى معه إلى الأبد.» والانتقال من الجهاد الخارجي (محاربة الكفار) إلى الجهاد الداخلي (رغبات النفس). الرواية إحياء للقيم الصوفية، ودعوة إلى الروحانية في أبهى قيمها وأخلاقها المثالية بما يتوق إليه الإنسان المعاصر، مع إعلاء الاهتمام بالمادّة والانجرار وراء العاطفة ولو تسبّبت بالخيانة تحت اسم الحبّ المطهّر المحيي، وهو ما وجدناه لدى كويللو أيضاً وسنجده في فكر أوشو لاحقاً. «كما ترين يا إيلا، كل ما يمكنني أن أمنحك إياه هو اللحظة الراهنة، هذا كل ما أملكه، وفي الحقيقة لا أحد يملك أكثر من ذلك». التشديد على الاهتمام باللحظة وعيشها بما تقدّمه من فرح وسلام هو محور اهتمام إنسان القرن الواحد والعشرين، الذي ما عادت تروقه أخبار الجنّة الموعودة. كذلك، ثمّة تقنية لافتة عند شافاق، هي قدرتها على استحضار التراث بقوّة، وهو أمر لا يخلو من خطورة العبث به وإعادة قراءته، وما سمّته بمخطوطة» الكفر الحلو» لتربط بين الزمنين، ربّما يكون بالحثّ على التنبّه إلى قراءة الظاهر والباطن، وربّما دعوة إلى الثورة من التحرّر من قيود تقديس الرموز وسلطة المتحكّمين بالدين، عبر الإشارة بقبطة مخفية إلى سرّ العلاقة التي جمعت بين جلال الدين ومعلّمه شمس الذي أخذ لبّه، وعدم استطاعة هذا الأخير من إقامة علاقة جنسية سليمة مع زوجته كيما والكلام في التحليل والتحريم بين العصرين. ثمّة روايات صوفيّة أخرى في هذا الباب، منها: «موت صغير» للكاتب السعودي محمّد حسن علوان وحصولها على جائزة بوكر، تحمل سيرة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، الصوفي والقصر للروائي أحمد رفيق عوض، تدور حول شخصية الصوفي أحمد بن علي بن يحيي المعروف باسم السيّد البدوي الذي له طريقة وأنصاره إلى اليوم في مصر، ورواية الحلاج للروائي المصري «محمد سامي البوهي»، لكنها جميعها لم ترق إلى شهرة «قواعد العشق الأربعون» لشافاق. المدوّنات وصفحات التواصل الاجتماعي كثر الاهتمام بجلال الدين الرومي أيضاً وقصائده في العالمين العربي والغربي، من خلال الاهتمام الكثيف بدراسته نقديّاً، وأهميّته في نشر الحوار بين الحضارات وردّ تهمة الأصولية عن الإسلام خصوصاً في العالم الغربي أخّيراً. وقد كثر الاستشهاد بحكمه ومقاطعه الشعرية كذلك بشعر ابن عربي والحلاج في إطار تبنّ لها في قبول الآخر، والاتحاد بالطبيعة، وكل ما خلقه الله درباً إلى الوصول إليه. وفي نظرة شاملة لعيّنات كثيرة من تعبير الناس على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، نرى النصوص الشعرية الصوفية من أكثرها رواجاً، خصوصاً تلك المقتبسة من الصفحات المخصّصة للشعراء الصوفيين. فكيف لنا أن نقرأ هذا الجنوح إلى الغرف من التراث؟ خصوصاً في ما يتعلّق بالحبّ الصوفي؟ هل هو شوق إلى هذه الحال الروحانية، وقد غدا العصر غير ذلك العصر الذي كُتبت فيه؟ بعيداً من التعميم في قراءة هذه الظاهرة، أعود إلى «ترجمان الأشواق» لابن عربي. المعلوم أن ابن عربي «كان عاشقاً نظام وهي ابنة الشيخ أبي شجاع بن رستم الأصفهاني الذي يعد من كبار شيوخ بلاد فارس في حينها. وكانت تعتبر مثالاً في الكمال الروحي والجمال الظاهري وحسن الخلق، فأسهمت معه في تصفية حياته الروحية وكتب فيها مديحا هو ترجمان الأشواق». وقد صار لاحقاً تأويل قصائد هذا الديوان، بأنّ الضمير المستخدم هو تأنيث للذات الإلهيّة. بما أن الكلام في التصوّف يحتمل الوجهين الظاهر والباطن. وبذلك، تغدو ظاهرة الاستعانة بالتراث الصوفي من باب القناع الذي نختاره في وصف الحال الراهنة التي نعيشها، من دون أن يكون حالة روحية حقيقية في سبيل التجاوز إلى اللامتناهي. ظاهرة التهافت على فكر أوشو لا يمكن لنا هنا أن نهمل ظاهرة الاقتباسات من «أوشو»، وتالياً تصويره على أنّه منقذ العصر الجديد من خلال حكمه التي تهدف إلى إقصاء الشقاء عن الإنسان ومساعدته لإيجاد طريقه إلى السعادة عبر الروحانية التي يبشّر بها والرياضات المرافقة لها، وتصوير التصوّف الذي يبشر به على أنّه طريق الخلاص لإنسان العصر الجديد. وبما أنّ الصوفي في أيّ ثقافة، «غالباً ما يؤول تجربته من منظور الدين الذي تربّى عليه، لكنّه إذا كان متحضّراً بدرجة كافية فإنّه يمكن أن يطرح هذه العقائد الدينية ويظل محتفظاً بوعيه الصوفي، استطاع أوشو الذي يُعرف بالمتصوّف المعاصر والحكيم الذي انتشر مريدوه في كلّ أنحاء العالم، يحرص على تعليم تلامذته، «أنّ جوهر الإنسان ليس جسمه ولا عقله ولا ذاته الفردية، ولكن جوهره هو وجود صرف، لا تخالطه صورة وا تشوبه صفة... هذا الوجود الصرف الذي يشكل جوهر الكيان الإنساني، تسمّيه أسفار الأوبانيشاد «الأتمان». هو حقيقتنا والثابت فينا وراء حجب الوهم والكثرة التعددية الظاهرة، ومع هذه التعاليم، «دعا أوشو إلى موقف أكثر انفتاحاً تجاه العلاقات الجنسية، ما أكسبه لقب «معلّم الجنس» في الصحافة الهندية ولاحقاً العالم»، وهذه الإباحة الجنسية مغلّفة بغطاء روحاني، يشرّع التفلّت الجنسي تحت راية الحبّ المطّهر والاتصال باللامتناهي والوصول إلى المطلق، أكسب ظاهرة أوشو قبولاً كبيراً من إنسان العصر الجديد التائق إلى تحرّره. في الفنّ الصوفي المعاصر رقصة الدراويش ليست أمراً مستجدّاً في تراثنا العربي الصوفي، لطالما كانت موجودة خصوصاً الطريقة المولوية في الرقص والسماع، وانتشرت لتصبح رقصة متعلّقة بشهر رمضان من غير أن تكون مرتبطة بطقس ديني، إنّما صارت نوعاً من الاستعراض الفنّي الذي يقدّم ترفاً وفنّاً قائماً بذاته، تقدّمه فرقة استعراضية، وصار يُستقدم في حفلات الأعراس والحفلات. ويمكن القول، إنّه فرُّغ من قيمته الأصليّة، أي حال الدافع إليه، ونقصد بالدافع حال السكرة التي يعيشها الصوفي، لتتقطّع أوصاله اتحاداً بالكون. أمّا بالنسبة إلى الأغنية الصوفية، أعاد الجميع إحياء شعر الحلاج وجلال الدين الرومي في أغانٍ، جاهدة وهبة نموذجاً وأحمد حويلي، وإقامة حفلات لأغانٍ صوفية في كل ّالعالم العربي، مع رواج كبير. لا بدّ لنا في ختام هذه المقالة من أن نكرّر القول، إنّها قراءة وصفية عامّة، تحتاج إلى التعمّق في التحليل والتشريح والنقدي والمتابعة الجديّة في ظلّ عصر كُسرت فيه الكثير من الحدود على الصعد كافّة. وأمام هذه المعاينة السريعة للأدب الروحي الأكثر رواجاً وقراءة، لا يمكن لنا إلّا أن نعيد قراءة هذا الأدب في ضوء الروحانية العلمانية، التي ترى إلى أنّه «لا بدَّ للمسعى الروحي الأصيل من أن يكون عَلمانيّاً بحتاً، أي حرّاً من جميع التنظيمات أو المرجعيات الدينية. إنهّ حركة اكتشاف لا توجد إلا في حرية تامة، وهذه الحرية إنّما هي جوهر الدين نفسه. وحدها هذه الحرية تتيح للذهن أن يتحرّر من إشراطاته تحرراً كليّاً وعميقاً. إذ ذاك يستنير الذهن وينعدم الشقاء».