«التعليم العالي» تعلن نتيجة التحويلات.. وقريبا إرسال كشوف المقبولين للجامعات والمعاهد    ارتفاع أسعار العملات العربية في ختام تعاملات اليوم 20 أغسطس 2025    اكتمال الحجز فى عمرة المولد النبوى بنقابة الصحفيين.. وفتح باب التسجيل لعمرة رجب    نجوم كرة القدم يشيعون جنازة والد محمد الشناوي    الإعدام شنقا لعامل والمؤبد ل2 آخرين والمشدد 15 سنة لطالب قتلوا شخصا بالقناطر    الداخلية تضبط سائق أتوبيس نقل خاص متعاطى مخدرات    وكيل تعليم الغربية: خطة لنشر الوعي بنظام البكالوريا المصرية ومقارنته بالثانوية العامة    تسيير القطار السادس لتسهيل العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    مهرجان الجونة يكشف عن أول 12 فيلم تتنافس في دورته الثامنة (تفاصيل)    إبراهيم الفرن يشارك فى لجنة تحكيم مهرجان مسرح الرحالة الدولى بالأردن    وزير الصحة يتفقد مركز صحة أسرة «الريحان» بالشروق.. ويستجيب لشكاوى مواطنين بزيارة مركز ال«70»    طب قصر العيني يطلق برنامجًا صيفيًا لتدريب 1200 طالب بالسنوات الإكلينيكية    "أريد تحقيق البطولات".. وسام أبو علي يكشف سبب انتقاله ل كولومبوس الأمريكي    الاحتفال بعروسة وحصان.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 فلكيًا وحكم الاحتفال به    وزيرة التنمية المحلية و4 محافظين يشهدون توقيع بروتوكولات للتنمية الاقتصادية    البورصة المصرية تخسر 28 مليار جنيه بتراجع جماعي للمؤشرات    تصاعد العمليات العسكرية في قطاع غزة وسط تحضيرات لعملية واسعة ( تحليل أخباري )    نائب رئيس حزب المؤتمر: تعنت إسرائيل ضد المبادرة المصرية القطرية يكشف نواياها    تمهيدا لاحتلال غزة.. إسرائيل تستدعي 60 ألف جندي احتياط    البرديسي: السياسة الإسرائيلية تتعمد المماطلة في الرد على مقترح هدنة غزة    محافظ الإسماعيلية يوجه التضامن بإعداد تقرير عن احتياجات دار الرحمة والحضانة الإيوائية (صور)    بعد وفاة طفل بسبب تناول الإندومي.. "البوابة نيوز" ترصد الأضرار الصحية للأطعمة السريعة.. و"طبيبة" تؤكد عدم صلاحيته كوجبة أساسية    خلال اتصال هاتفى تلقاه من ماكرون.. الرئيس السيسى يؤكد موقف مصر الثابت والرافض لأية محاولات لتهجير الشعب الفلسطينى أو المساس بحقوقه المشروعة.. ويرحب مجددًا بقرار فرنسا عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية    كنوز| 101 شمعة لفيلسوف الأدب الأشهر فى شارع صاحبة الجلالة    استراحة السوبر السعودي - القادسية (1)-(4) أهلي جدة.. نهاية الشوط الأول    كرة نسائية – سحب قرعة الدوري.. تعرف على مباريات الجولة الأولى    أغلب الألمان يؤيدون الحظر الجزئي على تصدير الأسلحة لإسرائيل    محافظ الإسماعيلية يتفقد عددًا من القطاعات الخدمية في جولة مفاجئة | صور    حملة موسعة على منشآت الرعاية الأولية في المنوفية    «دوري مو».. محمد صلاح يدفع جماهير ليفربول لطلب عاجل بشأن البريميرليج    تحرير 7 محاضر لمحلات جزارة ودواجن بمدينة مرسى مطروح    الأوقاف:681 ندوة علمية للتأكيد على ضرورة صون الجوارح عما يغضب الله    إزالة 19 حالة تعد على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة في المنيا    ما حكم إخبار بما في الخاطب من عيوب؟    رئيس جامعة القاهرة: تطوير وصيانة المدن الجامعية أولوية قصوى للطلاب    علي جمعة يكشف عن 3 محاور لمسؤولية الفرد الشرعية في المجتمع    "كلنا بندعيلك من قلوبنا".. ريهام عبدالحكيم توجه رسالة دعم لأنغام    بعد نجاح «قرار شخصي».. حمزة نمرة يستعد لطرح ألبوم ثاني في 2025    «سي إن إن» تبرز جهود مصر الإغاثية التى تبذلها لدعم الأشقاء في غزة    حالة الطقس في الإمارات.. تقلبات جوية وسحب ركامية وأمطار رعدية    القبض على طرفي مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بالسلام    كيف يكون بر الوالدين بعد وفاتهما؟.. الإفتاء تجيب    "خطر على الصحة".. العثور على كم كبير من الحشرات داخل مطعم بدمنهور    وزير الإسكان يستعرض جهود التنمية السياحية في ترشيد الإنفاق    تفاصيل جراحة مروان حمدي مهاجم الإسماعيلي وموعد عودته للمشاركة    الليلة.. إيهاب توفيق يلتقي جمهوره في حفل غنائي بمهرجان القلعة    عمر طاهر على شاشة التليفزيون المصري قريبا    الزمالك: منفحتون على التفاوض وحل أزمة أرض النادي في 6 أكتوبر    محافظ القاهرة يقرر النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بالثانوي العام    توقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين اقتصادية قناة السويس وحكومة طوكيو في مجال الهيدروجين الأخضر    وزير الدفاع يلتقي مقاتلي المنطقة الشمالية.. ويطالب بالاستعداد القتالي الدائم والتدريب الجاد    صباحك أوروبي.. صلاح يتوج بجائزة لاعب العام.. استبعاد فينيسيوس.. ورغبة إيزاك    الاحتلال الإسرائيلي يقتل نجم كرة السلة الفلسطينى محمد شعلان أثناء محاولته الحصول على المساعدات    رئيس الوزراء: أدعو الطلاب اليابانيين للدراسة في مصر    رعاية القلوب    ترامب: رئيس البنك المركزي يضر بقطاع الإسكان وعليه خفض أسعار الفائدة    مصدر أمني ينفي تداول مكالمة إباحية لشخص يدعي أنه مساعد وزير الداخلية    مصطفى قمر يهنئ عمرو دياب بألبومه الجديد: هعملك أغنية مخصوص    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مي منسى روائية في حقول الوجع الإنساني
نشر في صوت البلد يوم 18 - 11 - 2017

«قتلت أمي لأحيا» هي الرواية التاسعة للروائية اللبنانية مي منسّى (دار رياض الريّس 2017)، وهي لا تشذّ فيها عن رواياتها الثماني الأخرى من حيث الحفر في حكايات الوجع الإنساني الناجم عن الحرب والسجن والمرض والجريمة والهجرة القسرية. وإذا ما علمنا أن روايتها الأولى «أوراق من دفاتر شجرة رمان» صدرت عام 1998، تكون حصيلتها الروائية تسع روايات خلال عشرين عاماً، أي بوتيرة رواية واحدة كل سنتين تقريبًا، ما يشي بنشاط روائي ملحوظ يمنحها موقعًا بارزاً على الخريطة الروائية اللبنانية والعربية.
في العنوان، تقوم الرواية على معادلة الموت / الحياة، وتلازم طرفي المعادلة، فالموت قد يكون شرطاً للحياة، والحياة، بدورها، تؤول إلى الموت، في جدلية أزلية – أبدية بين الطرفين. والعنوان أيضاً يحيل على مقولة قتل الأب العلم- نفسية التي يقول بها فرويد، مع فارق أن القتل في هذه المقولة مجازي كشرط للإبداع والتجاوز، وهو في الرواية فعلي لكنه ليس شرطاً حتميّاً للحياة.
في المتن، تبدأ منسى روايتها بسؤال، على لسان رشا، راوية الرواية المحورية، هو: «أتكون الأحلام سبيلاً إلى إعادة الاتصال بين الأحياء والأموات؟ أتكون جسر عبور من وهم الحياة إلى حقيقة الموت؟» (ص9)، وتجيب، على لسان الراوية نفسها، في نهاية الرواية، بالقول: «أتلقى رسائلهم في مناماتي، تحذّرني من قطع الروابط بيني وبينهم [....] ينتظرونني. ولن أخلف وعدي لهم». (ص397)، ما يشي بالتواصل بين الأحياء والأموات، بين الحياة والموت، سواءٌ بالأحلام أو الذكريات أو الكتابة... وبذلك، يشكّل العنوان، على استفزازيّته، مدخلاً مناسباً للمتن.
بين السؤال والجواب يتموضع النص الروائي، في حوالى أربعمائة صفحة، تملأها منسى بالحوادث والذكريات والوقائع الروائية، وتتّخذ من السماعي (حكايات الجدة)، والكتابي (كتاب الأب)، والعياني المعيش (تجربة الرواة)، مصادر متنوّعة للروي. تمتد الحوادث زمنياً على مسافة حوالى القرن من الزمان، بين «سفر برلك»، بداية القرن العشرين، ومرحلة إعادة إعمار بيروت، في التسعينيات منه. وتتوزّع مكانيّاً على لبنان والبرازيل وفرنسا. وتتناول حكايات شخصيات عديدة تنتمي إلى أربعة أجيال متعاقبة، تقيم في قرية «عين الشمس» الاسم الروائي للقرية في النص، يجمع بينها أنها، بمعظمها، شخصيات تراجيدية. لكلٍّ منها مأساتها وجلجلتها. وهي حكايات يتوالد بعضها من بعض، تتناسل وتتقاطع وتتوازى، لتشكّل حكاية تراجيدية طويلة.
الجدّة سلمى المنتمية إلى الجيل الأول من أسرة رستم الريفية تروي لرشا، ابنة حفيدها فارس، المنتمية إلى الجيل الرابع، حكاية الأسرة المصابة بلعنة القدر والحكايات المتفرّعة منها، لتكتبها. فيتضافر المرويّ والمكتوب والمسموع والمعيش في تشكيل الحكايات الرئيسية والفرعية، وتظهير المصائب الواقعة على الأسرة، في أجيالها الأربعة، والتي تسبّبت أسرة شيبوب في معظمها بدءًا من الجيل الثاني. وفي هذه المصائب:
- اقتياد الجد يونس رستم الى «السفر برلك» واقتلاعه شاباً من أرضه تاركاً وصيته الشهيرة التي تتردّد كلازمة في عهدة زوجته وأولاده وأحفاده: «الأرض ان أهملنا رعايتها تصبح كفنًا للذاكرة» (ص 23).
- مقتل الابن رفيق رستم، جد رشا، في شجار محلي على يد أمين شيبوب، شقيق زوجته هدى، وقيام أمها رفقا الغنية المحدثة النعمة باجبارها على التخلي عن طفلها الوحيد فارس، وتسفيرها الى البرازيل، والحؤول دون تواصلها معه باخفاء رسائلها اليه، وتزويجها من عشيقها الأجنبي الذي يتخلّى عنها فور ولادتها منه.
- العثور على هدى مشنوقة بمنديلها في البرازيل.
- موت ثريا زوجة الحفيد فارس اثر ولادة ابنتيها سناء ورشا، ما يجعل الأخيرة تحس بالذنب، وتعيش حالة من التوحد لا تشفى منها الاّ بالمسرح والكتابة.
- مقتل الحفيد فارس، والد رشا، برصاصة قناص خلال محاولته السفر الى باريس لحضور مسرحية تقوم ابنته ببطولتها.
- مقتل سناء، شقيقة رشا مع حبيبها الفلسطيني ماهر في مجزرة صبرا وشاتيلا.
والمفارق أن الجدة سلمى تحملّت هذه المصائب بصبر وثبات، وتقوم بتربية الأبناء والأحفاد وأبنائهم، وتنفذ وصية زوجها في الاهتمام بالأرض وتنقلها لهم، فتتحول إلى شخصية أسطورة تشكّل معادلاً روائيّاً للأرض بعطائها وثباتها.
بالتعالق مع هذه المصائب، ثمة شخصيات أخرى، من أسر أخرى، تلقى مصائر مشابهة؛ فالأستاذ ماجد مزرعاني يُعثر عليه قتيلاً في بيته بعد تخلّيه عن حبيبته نسرين التي قُتلت في جريمة شرف. وضياء العجمي الكاتب والمخرج المسرحي الأثيوبي يطرده والده بعد اكتشاف علاقته الغرامية بدارينا الممرّضة واتهامه بتدنيس مقدّسات الموت، فيعيش غربة داخلية وأخرى خارجية. وشريف صافي الكاتب والممثل المسرحي يلجأ إلى ستراسبورغ هارباً من أخيه المقاتل في الحرب الذي يعيّره بالجبن والتخفّي في شخصيات المسرح هربًا من واجباته الوطنية. وهنا أفتح مزدوجين لأقول إن هذه الشخصية سبق أن تناولتها الكاتبة في روايتها الثالثة «المشهد الأخير. وجهاد الفلسطيني المبتور الساق، ضحية الحرب، يختفي في ظروف غامضة.
في مواجهة اليتم، والتوحّد، والوحدة، والغربة، والاغتراب، التي تعيشها الشخصيات المختلفة، تجترح سبلاً تهرب اليها من واقعها وتتخفّف من أثقالها، والطبيعة والكتابة والتمثيل والمسرح... هي بعض هذه السبل. وهكذا، نكون أمام مجموعة من الشخصيات المعطوبة، في شكل أو بآخر، تلتقي في الحيّز الروائي، وتبحث عن وسائل الخلاص الفردي ممّا تعانيه، وتؤول الى الموت أو القتل أو الانتحار أو الغربة أو السجن أو المصادرة... ما يضفي على الرواية بعدًا دراميًّا تراجيديّاً طاغياً.
على أن حكاية رشا المتفرّعة من الحكاية الرئيسية هي الأطول بين سائر الحكايات، فهذه التي تموت أمّها فور ولادتها، ويلازمها شعور بالذنب تعبّر عنه بالقول: «كنت تلك التي قتلت أمها» (ص79)، وتعيش حالة من التوحّد تعبّر عنها بالقول: «...في عالمي الجوّاني بنيت سكني وسكينتي» (ص81)، يرسلها والدها إلى مؤسّسة للمتوحّدين في بلجيكا، وهناك يكتشفها ضياء العجمي المخرج المسرحي الأثيوبي ويسند اليها دورًا مسرحيًّا تبرع في أدائه، ويُخرجها من «علّة التوحّد إلى وحدة كونية» (ص194)، تتألّق فيها على أهم المسارح العالمية، حتى إذا ما عادت الى لبنان لتشييع والدها الذي أودت به رصاصة قنّاص، تقيم مسرحاً باسمه في الخربة الفاصلة بين شطري بيروت أرادته منبرًا للموجوعين وصلة وصل بين الضحايا، غير أن حركة الاعمار تطيح بحلمها، وتتهاوى أحلامها في الوطن تباعًا سواء في الاهتمام بالأرض تنفيذاً لوصية الجد أو بالمسرح أو بالثقافة... فتحمل حقيبتها وتعود من حيث أتت. وهكذا، تتخذ من الغربة وطناً بديلاً لأحلامها. واذا كانت النهاية تنطوي على رسالة سلبية تبعث بها الرواية، فتدعو الى الهجرة بشكل غير مباشر،فانها، في المقابل، تبعث برسالة ايجابية تتمثّل في قبول رشا بمصالحة عائلة شيبوب التي تسبّبت، عن قصد أو غير قصد، بمأساة عائلتها، فتسامح أمين الذي قتل جدّها رفيق، وجاء يعرض عليها أن يكون جدّاً لها تكفيراً عن خطايا أسرته نحو أسرتها. وتتواصل مع رونالدو، ابن جدتها هدى وعم والدها، الذي أراد أن يكمل خطوة خاله أمين، وأراد بحضوره مسرحيتها في ستراسبورغ أن يكون في مقام والدها الراحل.
في الخطاب الروائي، تستخدم مي منسى تقنية تعدّد الرواة، فتسند الى الراوي العليم دوراً ضئيلاً في الشكل، وملحوظاً في المضمون، يتمثّل بالربط بين الرواة المشاركين، وتسند الى الرواة المشاركين الدور الأكبر في عملية الروي، سواء في شكل مباشر (رشا)، أو غير مباشر (الشخصيات الأخرى). وتتعدد صيغ الروي ضمن الروائي الواحد فتتناوب لديه صيغتا المتكلم والغائب ضمن الصفحة الواحدة، ما يفيد باجتماع العليم والمشارك في الراوي نفسه. وقد يتداخل رواة عدة، فالعليم يحتوي رشا التي تحتوي سلمى بدورها. هذا يضفي على عملية الروي حيوية، ويعكس تمكّن منسى من أدواتها الروائية.
بهذا الخطاب تقدّم منسّى حكاياتها المغمّسة في صحن الوجع الإنساني، وتستكمل مسيرة روائية باشرتها قبل عشرين عاماً، وأفردتها لمآسي الناس وأوجاعهم، فاستحقّت موقعها البارز على خريطة الرواية اللبنانية والعربية.
«قتلت أمي لأحيا» هي الرواية التاسعة للروائية اللبنانية مي منسّى (دار رياض الريّس 2017)، وهي لا تشذّ فيها عن رواياتها الثماني الأخرى من حيث الحفر في حكايات الوجع الإنساني الناجم عن الحرب والسجن والمرض والجريمة والهجرة القسرية. وإذا ما علمنا أن روايتها الأولى «أوراق من دفاتر شجرة رمان» صدرت عام 1998، تكون حصيلتها الروائية تسع روايات خلال عشرين عاماً، أي بوتيرة رواية واحدة كل سنتين تقريبًا، ما يشي بنشاط روائي ملحوظ يمنحها موقعًا بارزاً على الخريطة الروائية اللبنانية والعربية.
في العنوان، تقوم الرواية على معادلة الموت / الحياة، وتلازم طرفي المعادلة، فالموت قد يكون شرطاً للحياة، والحياة، بدورها، تؤول إلى الموت، في جدلية أزلية – أبدية بين الطرفين. والعنوان أيضاً يحيل على مقولة قتل الأب العلم- نفسية التي يقول بها فرويد، مع فارق أن القتل في هذه المقولة مجازي كشرط للإبداع والتجاوز، وهو في الرواية فعلي لكنه ليس شرطاً حتميّاً للحياة.
في المتن، تبدأ منسى روايتها بسؤال، على لسان رشا، راوية الرواية المحورية، هو: «أتكون الأحلام سبيلاً إلى إعادة الاتصال بين الأحياء والأموات؟ أتكون جسر عبور من وهم الحياة إلى حقيقة الموت؟» (ص9)، وتجيب، على لسان الراوية نفسها، في نهاية الرواية، بالقول: «أتلقى رسائلهم في مناماتي، تحذّرني من قطع الروابط بيني وبينهم [....] ينتظرونني. ولن أخلف وعدي لهم». (ص397)، ما يشي بالتواصل بين الأحياء والأموات، بين الحياة والموت، سواءٌ بالأحلام أو الذكريات أو الكتابة... وبذلك، يشكّل العنوان، على استفزازيّته، مدخلاً مناسباً للمتن.
بين السؤال والجواب يتموضع النص الروائي، في حوالى أربعمائة صفحة، تملأها منسى بالحوادث والذكريات والوقائع الروائية، وتتّخذ من السماعي (حكايات الجدة)، والكتابي (كتاب الأب)، والعياني المعيش (تجربة الرواة)، مصادر متنوّعة للروي. تمتد الحوادث زمنياً على مسافة حوالى القرن من الزمان، بين «سفر برلك»، بداية القرن العشرين، ومرحلة إعادة إعمار بيروت، في التسعينيات منه. وتتوزّع مكانيّاً على لبنان والبرازيل وفرنسا. وتتناول حكايات شخصيات عديدة تنتمي إلى أربعة أجيال متعاقبة، تقيم في قرية «عين الشمس» الاسم الروائي للقرية في النص، يجمع بينها أنها، بمعظمها، شخصيات تراجيدية. لكلٍّ منها مأساتها وجلجلتها. وهي حكايات يتوالد بعضها من بعض، تتناسل وتتقاطع وتتوازى، لتشكّل حكاية تراجيدية طويلة.
الجدّة سلمى المنتمية إلى الجيل الأول من أسرة رستم الريفية تروي لرشا، ابنة حفيدها فارس، المنتمية إلى الجيل الرابع، حكاية الأسرة المصابة بلعنة القدر والحكايات المتفرّعة منها، لتكتبها. فيتضافر المرويّ والمكتوب والمسموع والمعيش في تشكيل الحكايات الرئيسية والفرعية، وتظهير المصائب الواقعة على الأسرة، في أجيالها الأربعة، والتي تسبّبت أسرة شيبوب في معظمها بدءًا من الجيل الثاني. وفي هذه المصائب:
- اقتياد الجد يونس رستم الى «السفر برلك» واقتلاعه شاباً من أرضه تاركاً وصيته الشهيرة التي تتردّد كلازمة في عهدة زوجته وأولاده وأحفاده: «الأرض ان أهملنا رعايتها تصبح كفنًا للذاكرة» (ص 23).
- مقتل الابن رفيق رستم، جد رشا، في شجار محلي على يد أمين شيبوب، شقيق زوجته هدى، وقيام أمها رفقا الغنية المحدثة النعمة باجبارها على التخلي عن طفلها الوحيد فارس، وتسفيرها الى البرازيل، والحؤول دون تواصلها معه باخفاء رسائلها اليه، وتزويجها من عشيقها الأجنبي الذي يتخلّى عنها فور ولادتها منه.
- العثور على هدى مشنوقة بمنديلها في البرازيل.
- موت ثريا زوجة الحفيد فارس اثر ولادة ابنتيها سناء ورشا، ما يجعل الأخيرة تحس بالذنب، وتعيش حالة من التوحد لا تشفى منها الاّ بالمسرح والكتابة.
- مقتل الحفيد فارس، والد رشا، برصاصة قناص خلال محاولته السفر الى باريس لحضور مسرحية تقوم ابنته ببطولتها.
- مقتل سناء، شقيقة رشا مع حبيبها الفلسطيني ماهر في مجزرة صبرا وشاتيلا.
والمفارق أن الجدة سلمى تحملّت هذه المصائب بصبر وثبات، وتقوم بتربية الأبناء والأحفاد وأبنائهم، وتنفذ وصية زوجها في الاهتمام بالأرض وتنقلها لهم، فتتحول إلى شخصية أسطورة تشكّل معادلاً روائيّاً للأرض بعطائها وثباتها.
بالتعالق مع هذه المصائب، ثمة شخصيات أخرى، من أسر أخرى، تلقى مصائر مشابهة؛ فالأستاذ ماجد مزرعاني يُعثر عليه قتيلاً في بيته بعد تخلّيه عن حبيبته نسرين التي قُتلت في جريمة شرف. وضياء العجمي الكاتب والمخرج المسرحي الأثيوبي يطرده والده بعد اكتشاف علاقته الغرامية بدارينا الممرّضة واتهامه بتدنيس مقدّسات الموت، فيعيش غربة داخلية وأخرى خارجية. وشريف صافي الكاتب والممثل المسرحي يلجأ إلى ستراسبورغ هارباً من أخيه المقاتل في الحرب الذي يعيّره بالجبن والتخفّي في شخصيات المسرح هربًا من واجباته الوطنية. وهنا أفتح مزدوجين لأقول إن هذه الشخصية سبق أن تناولتها الكاتبة في روايتها الثالثة «المشهد الأخير. وجهاد الفلسطيني المبتور الساق، ضحية الحرب، يختفي في ظروف غامضة.
في مواجهة اليتم، والتوحّد، والوحدة، والغربة، والاغتراب، التي تعيشها الشخصيات المختلفة، تجترح سبلاً تهرب اليها من واقعها وتتخفّف من أثقالها، والطبيعة والكتابة والتمثيل والمسرح... هي بعض هذه السبل. وهكذا، نكون أمام مجموعة من الشخصيات المعطوبة، في شكل أو بآخر، تلتقي في الحيّز الروائي، وتبحث عن وسائل الخلاص الفردي ممّا تعانيه، وتؤول الى الموت أو القتل أو الانتحار أو الغربة أو السجن أو المصادرة... ما يضفي على الرواية بعدًا دراميًّا تراجيديّاً طاغياً.
على أن حكاية رشا المتفرّعة من الحكاية الرئيسية هي الأطول بين سائر الحكايات، فهذه التي تموت أمّها فور ولادتها، ويلازمها شعور بالذنب تعبّر عنه بالقول: «كنت تلك التي قتلت أمها» (ص79)، وتعيش حالة من التوحّد تعبّر عنها بالقول: «...في عالمي الجوّاني بنيت سكني وسكينتي» (ص81)، يرسلها والدها إلى مؤسّسة للمتوحّدين في بلجيكا، وهناك يكتشفها ضياء العجمي المخرج المسرحي الأثيوبي ويسند اليها دورًا مسرحيًّا تبرع في أدائه، ويُخرجها من «علّة التوحّد إلى وحدة كونية» (ص194)، تتألّق فيها على أهم المسارح العالمية، حتى إذا ما عادت الى لبنان لتشييع والدها الذي أودت به رصاصة قنّاص، تقيم مسرحاً باسمه في الخربة الفاصلة بين شطري بيروت أرادته منبرًا للموجوعين وصلة وصل بين الضحايا، غير أن حركة الاعمار تطيح بحلمها، وتتهاوى أحلامها في الوطن تباعًا سواء في الاهتمام بالأرض تنفيذاً لوصية الجد أو بالمسرح أو بالثقافة... فتحمل حقيبتها وتعود من حيث أتت. وهكذا، تتخذ من الغربة وطناً بديلاً لأحلامها. واذا كانت النهاية تنطوي على رسالة سلبية تبعث بها الرواية، فتدعو الى الهجرة بشكل غير مباشر،فانها، في المقابل، تبعث برسالة ايجابية تتمثّل في قبول رشا بمصالحة عائلة شيبوب التي تسبّبت، عن قصد أو غير قصد، بمأساة عائلتها، فتسامح أمين الذي قتل جدّها رفيق، وجاء يعرض عليها أن يكون جدّاً لها تكفيراً عن خطايا أسرته نحو أسرتها. وتتواصل مع رونالدو، ابن جدتها هدى وعم والدها، الذي أراد أن يكمل خطوة خاله أمين، وأراد بحضوره مسرحيتها في ستراسبورغ أن يكون في مقام والدها الراحل.
في الخطاب الروائي، تستخدم مي منسى تقنية تعدّد الرواة، فتسند الى الراوي العليم دوراً ضئيلاً في الشكل، وملحوظاً في المضمون، يتمثّل بالربط بين الرواة المشاركين، وتسند الى الرواة المشاركين الدور الأكبر في عملية الروي، سواء في شكل مباشر (رشا)، أو غير مباشر (الشخصيات الأخرى). وتتعدد صيغ الروي ضمن الروائي الواحد فتتناوب لديه صيغتا المتكلم والغائب ضمن الصفحة الواحدة، ما يفيد باجتماع العليم والمشارك في الراوي نفسه. وقد يتداخل رواة عدة، فالعليم يحتوي رشا التي تحتوي سلمى بدورها. هذا يضفي على عملية الروي حيوية، ويعكس تمكّن منسى من أدواتها الروائية.
بهذا الخطاب تقدّم منسّى حكاياتها المغمّسة في صحن الوجع الإنساني، وتستكمل مسيرة روائية باشرتها قبل عشرين عاماً، وأفردتها لمآسي الناس وأوجاعهم، فاستحقّت موقعها البارز على خريطة الرواية اللبنانية والعربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.