مصطفى بكري: تعديل وزاري يشمل 15 منصبًا قريبا .. وحركة المحافظين على الأبواب    خلال 24 ساعة.. إزالة 8 حالات تعدي على الأراضي الزراعية وبناء مخالف بالغربية    التنمية المحلية: انتهاء كافة الاستعدادات لانطلاق الموجة الأخيرة لإزالة التعديات    محافظ قنا: بدء استصلاح وزراعة 400 فدان جديد بفول الصويا    «القومي للمرأة» ينظم عرض أزياء لحرفة التلي.. 24 قطعة متنوعة    القوات الأوكرانية تسقط 4 طائرات مسيرة روسية في أوديسا    الأمم المتحدة: تقارير تشير لانتشار الأوبئة والأمراض بين الفلسطينيين في غزة    «التحالف الوطني» بالقليوبية يشارك في المرحلة ال6 من قوافل المساعدات لغزة    استشهاد امرأة فلسطينية إثر قصف طائرات إسرائيلية لرفح    «الجنائية الدولية» تنفي ل«الوطن» صدور مذكرة اعتقال بحق نتنياهو    كيف يعالج جوميز أزمة الظهيرين بالزمالك أمام دريمز بالكونفدرالية ؟    «ليفركوزن» عملاق أوروبي جديد يحلق من بعيد.. لقب تاريخي ورقم قياسي    مرموش يسجل في فوز آينتراخت على أوجسبورج بالدوري الألماني    عاجل.. مفاجأة في تقرير إبراهيم نور الدين لمباراة الأهلي والزمالك    البحث عن مجرم مزق جسد "أحمد" بشبرا الخيمة والنيابة تصرح بدفنه    أحمد فايق يخصص حلقات مراجعة نهائية لطلاب الثانوية العامة (فيديو)    فيديوجراف| صلاح السعدني.. وداعًا العمدة سليمان غانم    تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة صلاح السعدني.. مات على سريره داخل منزله    أسرع طريقة لعمل الشيبسي في المنزل.. إليك سر القرمشة    حصل على بطاقة صفراء ثانية ولم يطرد.. مارتينيز يثير الجدل في موقعه ليل    افتتاح المؤتمر الدولي الثامن للأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان    محافظة الجيزة: قطع المياه عن منطقة منشية البكاري 6 ساعات    وزارة الهجرة تطلق فيلم "حلقة وصل" في إطار المبادرة الرئاسية "أتكلم عربي"    الحماية المدنية تسيطر على حريق في «مقابر زفتى» ب الغربية    إخماد حريق بمخزن خردة بالبدرشين دون إصابات    ضبط لص الدراجات النارية في الفيوم    الهنود يبدءون التصويت خلال أكبر انتخابات في العالم    مطار مرسى علم الدولي يستقبل 149 رحلة تقل 13 ألف سائح من دول أوروبا    التنسيق الحضاري ينهي أعمال المرحلة الخامسة من مشروع حكاية شارع بمناطق مصر الجديدة ومدينة نصر    مهرجان كان السينمائي يكشف عن ملصق النسخة 77    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    دعاء يوم الجمعة قبل الغروب.. أفضل أيام الأسبوع وأكثرها خير وبركة    11 جامعة مصرية تشارك في المؤتمر العاشر للبحوث الطلابية بكلية تمريض القناة    وزيرا خارجية مصر وجنوب أفريقيا يترأسان أعمال الدورة العاشرة للجنة المشتركة للتعاون بين البلدين    وزير الصحة يتفقد المركز الإفريقي لصحة المرأة ويوجه بتنفيذ تغييرات حفاظًا على التصميم الأثري للمبنى    حماة الوطن يهنئ أهالي أسيوط ب العيد القومي للمحافظة    إسلام الكتاتني: الإخوان واجهت الدولة في ثورة يونيو بتفكير مؤسسي وليس فرديًا    محاكمة عامل يتاجر في النقد الأجنبي بعابدين.. الأحد    مؤتمر أرتيتا: لم يتحدث أحد عن تدوير اللاعبين بعد برايتون.. وسيكون لديك مشكلة إذا تريد حافز    إعادة مشروع السياحة التدريبية بالمركز الأفريقي لصحة المرأة    بالإنفوجراف.. 29 معلومة عن امتحانات الثانوية العامة 2024    "مصريين بلا حدود" تنظم حوارا مجتمعيا لمكافحة التمييز وتعزيز المساواة    العمدة أهلاوي قديم.. الخطيب يحضر جنازة الفنان صلاح السعدني (صورة)    الكنيسة الأرثوذكسية تحيي ذكرى نياحة الأنبا إيساك    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    انطلاق 10 قوافل دعوية.. وعلماء الأوقاف يؤكدون: الصدق طريق الفائزين    "التعليم": مشروع رأس المال الدائم يؤهل الطلاب كرواد أعمال في المستقبل    القاهرة الإخبارية: تخبط في حكومة نتنياهو بعد الرد الإسرائيلي على إيران    خالد جلال ناعيا صلاح السعدني: حفر اسمه في تاريخ الفن المصري    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 4 مجازر في غزة راح ضحيتها 42 شهيدا و63 مصابا    4 أبراج ما بتعرفش الفشل في الشغل.. الحمل جريء وطموح والقوس مغامر    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    استشهاد شاب فلسطيني وإصابة اثنين بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم "نور شمس" شمال الضفة    ضبط 14799 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    اقتصادية قناة السويس تشارك ب "مؤتمر التعاون والتبادل بين مصر والصين (تشيجيانج)"    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    ألونسو: مواجهة ريال مدريد وبايرن ميونخ ستكون مثيرة    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مي منسى روائية في حقول الوجع الإنساني
نشر في صوت البلد يوم 18 - 11 - 2017

«قتلت أمي لأحيا» هي الرواية التاسعة للروائية اللبنانية مي منسّى (دار رياض الريّس 2017)، وهي لا تشذّ فيها عن رواياتها الثماني الأخرى من حيث الحفر في حكايات الوجع الإنساني الناجم عن الحرب والسجن والمرض والجريمة والهجرة القسرية. وإذا ما علمنا أن روايتها الأولى «أوراق من دفاتر شجرة رمان» صدرت عام 1998، تكون حصيلتها الروائية تسع روايات خلال عشرين عاماً، أي بوتيرة رواية واحدة كل سنتين تقريبًا، ما يشي بنشاط روائي ملحوظ يمنحها موقعًا بارزاً على الخريطة الروائية اللبنانية والعربية.
في العنوان، تقوم الرواية على معادلة الموت / الحياة، وتلازم طرفي المعادلة، فالموت قد يكون شرطاً للحياة، والحياة، بدورها، تؤول إلى الموت، في جدلية أزلية – أبدية بين الطرفين. والعنوان أيضاً يحيل على مقولة قتل الأب العلم- نفسية التي يقول بها فرويد، مع فارق أن القتل في هذه المقولة مجازي كشرط للإبداع والتجاوز، وهو في الرواية فعلي لكنه ليس شرطاً حتميّاً للحياة.
في المتن، تبدأ منسى روايتها بسؤال، على لسان رشا، راوية الرواية المحورية، هو: «أتكون الأحلام سبيلاً إلى إعادة الاتصال بين الأحياء والأموات؟ أتكون جسر عبور من وهم الحياة إلى حقيقة الموت؟» (ص9)، وتجيب، على لسان الراوية نفسها، في نهاية الرواية، بالقول: «أتلقى رسائلهم في مناماتي، تحذّرني من قطع الروابط بيني وبينهم [....] ينتظرونني. ولن أخلف وعدي لهم». (ص397)، ما يشي بالتواصل بين الأحياء والأموات، بين الحياة والموت، سواءٌ بالأحلام أو الذكريات أو الكتابة... وبذلك، يشكّل العنوان، على استفزازيّته، مدخلاً مناسباً للمتن.
بين السؤال والجواب يتموضع النص الروائي، في حوالى أربعمائة صفحة، تملأها منسى بالحوادث والذكريات والوقائع الروائية، وتتّخذ من السماعي (حكايات الجدة)، والكتابي (كتاب الأب)، والعياني المعيش (تجربة الرواة)، مصادر متنوّعة للروي. تمتد الحوادث زمنياً على مسافة حوالى القرن من الزمان، بين «سفر برلك»، بداية القرن العشرين، ومرحلة إعادة إعمار بيروت، في التسعينيات منه. وتتوزّع مكانيّاً على لبنان والبرازيل وفرنسا. وتتناول حكايات شخصيات عديدة تنتمي إلى أربعة أجيال متعاقبة، تقيم في قرية «عين الشمس» الاسم الروائي للقرية في النص، يجمع بينها أنها، بمعظمها، شخصيات تراجيدية. لكلٍّ منها مأساتها وجلجلتها. وهي حكايات يتوالد بعضها من بعض، تتناسل وتتقاطع وتتوازى، لتشكّل حكاية تراجيدية طويلة.
الجدّة سلمى المنتمية إلى الجيل الأول من أسرة رستم الريفية تروي لرشا، ابنة حفيدها فارس، المنتمية إلى الجيل الرابع، حكاية الأسرة المصابة بلعنة القدر والحكايات المتفرّعة منها، لتكتبها. فيتضافر المرويّ والمكتوب والمسموع والمعيش في تشكيل الحكايات الرئيسية والفرعية، وتظهير المصائب الواقعة على الأسرة، في أجيالها الأربعة، والتي تسبّبت أسرة شيبوب في معظمها بدءًا من الجيل الثاني. وفي هذه المصائب:
- اقتياد الجد يونس رستم الى «السفر برلك» واقتلاعه شاباً من أرضه تاركاً وصيته الشهيرة التي تتردّد كلازمة في عهدة زوجته وأولاده وأحفاده: «الأرض ان أهملنا رعايتها تصبح كفنًا للذاكرة» (ص 23).
- مقتل الابن رفيق رستم، جد رشا، في شجار محلي على يد أمين شيبوب، شقيق زوجته هدى، وقيام أمها رفقا الغنية المحدثة النعمة باجبارها على التخلي عن طفلها الوحيد فارس، وتسفيرها الى البرازيل، والحؤول دون تواصلها معه باخفاء رسائلها اليه، وتزويجها من عشيقها الأجنبي الذي يتخلّى عنها فور ولادتها منه.
- العثور على هدى مشنوقة بمنديلها في البرازيل.
- موت ثريا زوجة الحفيد فارس اثر ولادة ابنتيها سناء ورشا، ما يجعل الأخيرة تحس بالذنب، وتعيش حالة من التوحد لا تشفى منها الاّ بالمسرح والكتابة.
- مقتل الحفيد فارس، والد رشا، برصاصة قناص خلال محاولته السفر الى باريس لحضور مسرحية تقوم ابنته ببطولتها.
- مقتل سناء، شقيقة رشا مع حبيبها الفلسطيني ماهر في مجزرة صبرا وشاتيلا.
والمفارق أن الجدة سلمى تحملّت هذه المصائب بصبر وثبات، وتقوم بتربية الأبناء والأحفاد وأبنائهم، وتنفذ وصية زوجها في الاهتمام بالأرض وتنقلها لهم، فتتحول إلى شخصية أسطورة تشكّل معادلاً روائيّاً للأرض بعطائها وثباتها.
بالتعالق مع هذه المصائب، ثمة شخصيات أخرى، من أسر أخرى، تلقى مصائر مشابهة؛ فالأستاذ ماجد مزرعاني يُعثر عليه قتيلاً في بيته بعد تخلّيه عن حبيبته نسرين التي قُتلت في جريمة شرف. وضياء العجمي الكاتب والمخرج المسرحي الأثيوبي يطرده والده بعد اكتشاف علاقته الغرامية بدارينا الممرّضة واتهامه بتدنيس مقدّسات الموت، فيعيش غربة داخلية وأخرى خارجية. وشريف صافي الكاتب والممثل المسرحي يلجأ إلى ستراسبورغ هارباً من أخيه المقاتل في الحرب الذي يعيّره بالجبن والتخفّي في شخصيات المسرح هربًا من واجباته الوطنية. وهنا أفتح مزدوجين لأقول إن هذه الشخصية سبق أن تناولتها الكاتبة في روايتها الثالثة «المشهد الأخير. وجهاد الفلسطيني المبتور الساق، ضحية الحرب، يختفي في ظروف غامضة.
في مواجهة اليتم، والتوحّد، والوحدة، والغربة، والاغتراب، التي تعيشها الشخصيات المختلفة، تجترح سبلاً تهرب اليها من واقعها وتتخفّف من أثقالها، والطبيعة والكتابة والتمثيل والمسرح... هي بعض هذه السبل. وهكذا، نكون أمام مجموعة من الشخصيات المعطوبة، في شكل أو بآخر، تلتقي في الحيّز الروائي، وتبحث عن وسائل الخلاص الفردي ممّا تعانيه، وتؤول الى الموت أو القتل أو الانتحار أو الغربة أو السجن أو المصادرة... ما يضفي على الرواية بعدًا دراميًّا تراجيديّاً طاغياً.
على أن حكاية رشا المتفرّعة من الحكاية الرئيسية هي الأطول بين سائر الحكايات، فهذه التي تموت أمّها فور ولادتها، ويلازمها شعور بالذنب تعبّر عنه بالقول: «كنت تلك التي قتلت أمها» (ص79)، وتعيش حالة من التوحّد تعبّر عنها بالقول: «...في عالمي الجوّاني بنيت سكني وسكينتي» (ص81)، يرسلها والدها إلى مؤسّسة للمتوحّدين في بلجيكا، وهناك يكتشفها ضياء العجمي المخرج المسرحي الأثيوبي ويسند اليها دورًا مسرحيًّا تبرع في أدائه، ويُخرجها من «علّة التوحّد إلى وحدة كونية» (ص194)، تتألّق فيها على أهم المسارح العالمية، حتى إذا ما عادت الى لبنان لتشييع والدها الذي أودت به رصاصة قنّاص، تقيم مسرحاً باسمه في الخربة الفاصلة بين شطري بيروت أرادته منبرًا للموجوعين وصلة وصل بين الضحايا، غير أن حركة الاعمار تطيح بحلمها، وتتهاوى أحلامها في الوطن تباعًا سواء في الاهتمام بالأرض تنفيذاً لوصية الجد أو بالمسرح أو بالثقافة... فتحمل حقيبتها وتعود من حيث أتت. وهكذا، تتخذ من الغربة وطناً بديلاً لأحلامها. واذا كانت النهاية تنطوي على رسالة سلبية تبعث بها الرواية، فتدعو الى الهجرة بشكل غير مباشر،فانها، في المقابل، تبعث برسالة ايجابية تتمثّل في قبول رشا بمصالحة عائلة شيبوب التي تسبّبت، عن قصد أو غير قصد، بمأساة عائلتها، فتسامح أمين الذي قتل جدّها رفيق، وجاء يعرض عليها أن يكون جدّاً لها تكفيراً عن خطايا أسرته نحو أسرتها. وتتواصل مع رونالدو، ابن جدتها هدى وعم والدها، الذي أراد أن يكمل خطوة خاله أمين، وأراد بحضوره مسرحيتها في ستراسبورغ أن يكون في مقام والدها الراحل.
في الخطاب الروائي، تستخدم مي منسى تقنية تعدّد الرواة، فتسند الى الراوي العليم دوراً ضئيلاً في الشكل، وملحوظاً في المضمون، يتمثّل بالربط بين الرواة المشاركين، وتسند الى الرواة المشاركين الدور الأكبر في عملية الروي، سواء في شكل مباشر (رشا)، أو غير مباشر (الشخصيات الأخرى). وتتعدد صيغ الروي ضمن الروائي الواحد فتتناوب لديه صيغتا المتكلم والغائب ضمن الصفحة الواحدة، ما يفيد باجتماع العليم والمشارك في الراوي نفسه. وقد يتداخل رواة عدة، فالعليم يحتوي رشا التي تحتوي سلمى بدورها. هذا يضفي على عملية الروي حيوية، ويعكس تمكّن منسى من أدواتها الروائية.
بهذا الخطاب تقدّم منسّى حكاياتها المغمّسة في صحن الوجع الإنساني، وتستكمل مسيرة روائية باشرتها قبل عشرين عاماً، وأفردتها لمآسي الناس وأوجاعهم، فاستحقّت موقعها البارز على خريطة الرواية اللبنانية والعربية.
«قتلت أمي لأحيا» هي الرواية التاسعة للروائية اللبنانية مي منسّى (دار رياض الريّس 2017)، وهي لا تشذّ فيها عن رواياتها الثماني الأخرى من حيث الحفر في حكايات الوجع الإنساني الناجم عن الحرب والسجن والمرض والجريمة والهجرة القسرية. وإذا ما علمنا أن روايتها الأولى «أوراق من دفاتر شجرة رمان» صدرت عام 1998، تكون حصيلتها الروائية تسع روايات خلال عشرين عاماً، أي بوتيرة رواية واحدة كل سنتين تقريبًا، ما يشي بنشاط روائي ملحوظ يمنحها موقعًا بارزاً على الخريطة الروائية اللبنانية والعربية.
في العنوان، تقوم الرواية على معادلة الموت / الحياة، وتلازم طرفي المعادلة، فالموت قد يكون شرطاً للحياة، والحياة، بدورها، تؤول إلى الموت، في جدلية أزلية – أبدية بين الطرفين. والعنوان أيضاً يحيل على مقولة قتل الأب العلم- نفسية التي يقول بها فرويد، مع فارق أن القتل في هذه المقولة مجازي كشرط للإبداع والتجاوز، وهو في الرواية فعلي لكنه ليس شرطاً حتميّاً للحياة.
في المتن، تبدأ منسى روايتها بسؤال، على لسان رشا، راوية الرواية المحورية، هو: «أتكون الأحلام سبيلاً إلى إعادة الاتصال بين الأحياء والأموات؟ أتكون جسر عبور من وهم الحياة إلى حقيقة الموت؟» (ص9)، وتجيب، على لسان الراوية نفسها، في نهاية الرواية، بالقول: «أتلقى رسائلهم في مناماتي، تحذّرني من قطع الروابط بيني وبينهم [....] ينتظرونني. ولن أخلف وعدي لهم». (ص397)، ما يشي بالتواصل بين الأحياء والأموات، بين الحياة والموت، سواءٌ بالأحلام أو الذكريات أو الكتابة... وبذلك، يشكّل العنوان، على استفزازيّته، مدخلاً مناسباً للمتن.
بين السؤال والجواب يتموضع النص الروائي، في حوالى أربعمائة صفحة، تملأها منسى بالحوادث والذكريات والوقائع الروائية، وتتّخذ من السماعي (حكايات الجدة)، والكتابي (كتاب الأب)، والعياني المعيش (تجربة الرواة)، مصادر متنوّعة للروي. تمتد الحوادث زمنياً على مسافة حوالى القرن من الزمان، بين «سفر برلك»، بداية القرن العشرين، ومرحلة إعادة إعمار بيروت، في التسعينيات منه. وتتوزّع مكانيّاً على لبنان والبرازيل وفرنسا. وتتناول حكايات شخصيات عديدة تنتمي إلى أربعة أجيال متعاقبة، تقيم في قرية «عين الشمس» الاسم الروائي للقرية في النص، يجمع بينها أنها، بمعظمها، شخصيات تراجيدية. لكلٍّ منها مأساتها وجلجلتها. وهي حكايات يتوالد بعضها من بعض، تتناسل وتتقاطع وتتوازى، لتشكّل حكاية تراجيدية طويلة.
الجدّة سلمى المنتمية إلى الجيل الأول من أسرة رستم الريفية تروي لرشا، ابنة حفيدها فارس، المنتمية إلى الجيل الرابع، حكاية الأسرة المصابة بلعنة القدر والحكايات المتفرّعة منها، لتكتبها. فيتضافر المرويّ والمكتوب والمسموع والمعيش في تشكيل الحكايات الرئيسية والفرعية، وتظهير المصائب الواقعة على الأسرة، في أجيالها الأربعة، والتي تسبّبت أسرة شيبوب في معظمها بدءًا من الجيل الثاني. وفي هذه المصائب:
- اقتياد الجد يونس رستم الى «السفر برلك» واقتلاعه شاباً من أرضه تاركاً وصيته الشهيرة التي تتردّد كلازمة في عهدة زوجته وأولاده وأحفاده: «الأرض ان أهملنا رعايتها تصبح كفنًا للذاكرة» (ص 23).
- مقتل الابن رفيق رستم، جد رشا، في شجار محلي على يد أمين شيبوب، شقيق زوجته هدى، وقيام أمها رفقا الغنية المحدثة النعمة باجبارها على التخلي عن طفلها الوحيد فارس، وتسفيرها الى البرازيل، والحؤول دون تواصلها معه باخفاء رسائلها اليه، وتزويجها من عشيقها الأجنبي الذي يتخلّى عنها فور ولادتها منه.
- العثور على هدى مشنوقة بمنديلها في البرازيل.
- موت ثريا زوجة الحفيد فارس اثر ولادة ابنتيها سناء ورشا، ما يجعل الأخيرة تحس بالذنب، وتعيش حالة من التوحد لا تشفى منها الاّ بالمسرح والكتابة.
- مقتل الحفيد فارس، والد رشا، برصاصة قناص خلال محاولته السفر الى باريس لحضور مسرحية تقوم ابنته ببطولتها.
- مقتل سناء، شقيقة رشا مع حبيبها الفلسطيني ماهر في مجزرة صبرا وشاتيلا.
والمفارق أن الجدة سلمى تحملّت هذه المصائب بصبر وثبات، وتقوم بتربية الأبناء والأحفاد وأبنائهم، وتنفذ وصية زوجها في الاهتمام بالأرض وتنقلها لهم، فتتحول إلى شخصية أسطورة تشكّل معادلاً روائيّاً للأرض بعطائها وثباتها.
بالتعالق مع هذه المصائب، ثمة شخصيات أخرى، من أسر أخرى، تلقى مصائر مشابهة؛ فالأستاذ ماجد مزرعاني يُعثر عليه قتيلاً في بيته بعد تخلّيه عن حبيبته نسرين التي قُتلت في جريمة شرف. وضياء العجمي الكاتب والمخرج المسرحي الأثيوبي يطرده والده بعد اكتشاف علاقته الغرامية بدارينا الممرّضة واتهامه بتدنيس مقدّسات الموت، فيعيش غربة داخلية وأخرى خارجية. وشريف صافي الكاتب والممثل المسرحي يلجأ إلى ستراسبورغ هارباً من أخيه المقاتل في الحرب الذي يعيّره بالجبن والتخفّي في شخصيات المسرح هربًا من واجباته الوطنية. وهنا أفتح مزدوجين لأقول إن هذه الشخصية سبق أن تناولتها الكاتبة في روايتها الثالثة «المشهد الأخير. وجهاد الفلسطيني المبتور الساق، ضحية الحرب، يختفي في ظروف غامضة.
في مواجهة اليتم، والتوحّد، والوحدة، والغربة، والاغتراب، التي تعيشها الشخصيات المختلفة، تجترح سبلاً تهرب اليها من واقعها وتتخفّف من أثقالها، والطبيعة والكتابة والتمثيل والمسرح... هي بعض هذه السبل. وهكذا، نكون أمام مجموعة من الشخصيات المعطوبة، في شكل أو بآخر، تلتقي في الحيّز الروائي، وتبحث عن وسائل الخلاص الفردي ممّا تعانيه، وتؤول الى الموت أو القتل أو الانتحار أو الغربة أو السجن أو المصادرة... ما يضفي على الرواية بعدًا دراميًّا تراجيديّاً طاغياً.
على أن حكاية رشا المتفرّعة من الحكاية الرئيسية هي الأطول بين سائر الحكايات، فهذه التي تموت أمّها فور ولادتها، ويلازمها شعور بالذنب تعبّر عنه بالقول: «كنت تلك التي قتلت أمها» (ص79)، وتعيش حالة من التوحّد تعبّر عنها بالقول: «...في عالمي الجوّاني بنيت سكني وسكينتي» (ص81)، يرسلها والدها إلى مؤسّسة للمتوحّدين في بلجيكا، وهناك يكتشفها ضياء العجمي المخرج المسرحي الأثيوبي ويسند اليها دورًا مسرحيًّا تبرع في أدائه، ويُخرجها من «علّة التوحّد إلى وحدة كونية» (ص194)، تتألّق فيها على أهم المسارح العالمية، حتى إذا ما عادت الى لبنان لتشييع والدها الذي أودت به رصاصة قنّاص، تقيم مسرحاً باسمه في الخربة الفاصلة بين شطري بيروت أرادته منبرًا للموجوعين وصلة وصل بين الضحايا، غير أن حركة الاعمار تطيح بحلمها، وتتهاوى أحلامها في الوطن تباعًا سواء في الاهتمام بالأرض تنفيذاً لوصية الجد أو بالمسرح أو بالثقافة... فتحمل حقيبتها وتعود من حيث أتت. وهكذا، تتخذ من الغربة وطناً بديلاً لأحلامها. واذا كانت النهاية تنطوي على رسالة سلبية تبعث بها الرواية، فتدعو الى الهجرة بشكل غير مباشر،فانها، في المقابل، تبعث برسالة ايجابية تتمثّل في قبول رشا بمصالحة عائلة شيبوب التي تسبّبت، عن قصد أو غير قصد، بمأساة عائلتها، فتسامح أمين الذي قتل جدّها رفيق، وجاء يعرض عليها أن يكون جدّاً لها تكفيراً عن خطايا أسرته نحو أسرتها. وتتواصل مع رونالدو، ابن جدتها هدى وعم والدها، الذي أراد أن يكمل خطوة خاله أمين، وأراد بحضوره مسرحيتها في ستراسبورغ أن يكون في مقام والدها الراحل.
في الخطاب الروائي، تستخدم مي منسى تقنية تعدّد الرواة، فتسند الى الراوي العليم دوراً ضئيلاً في الشكل، وملحوظاً في المضمون، يتمثّل بالربط بين الرواة المشاركين، وتسند الى الرواة المشاركين الدور الأكبر في عملية الروي، سواء في شكل مباشر (رشا)، أو غير مباشر (الشخصيات الأخرى). وتتعدد صيغ الروي ضمن الروائي الواحد فتتناوب لديه صيغتا المتكلم والغائب ضمن الصفحة الواحدة، ما يفيد باجتماع العليم والمشارك في الراوي نفسه. وقد يتداخل رواة عدة، فالعليم يحتوي رشا التي تحتوي سلمى بدورها. هذا يضفي على عملية الروي حيوية، ويعكس تمكّن منسى من أدواتها الروائية.
بهذا الخطاب تقدّم منسّى حكاياتها المغمّسة في صحن الوجع الإنساني، وتستكمل مسيرة روائية باشرتها قبل عشرين عاماً، وأفردتها لمآسي الناس وأوجاعهم، فاستحقّت موقعها البارز على خريطة الرواية اللبنانية والعربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.