5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جوخة الحارثي تحول «الندم» عقدة روائية
نشر في صوت البلد يوم 16 - 09 - 2016

تهجس رواية «نارنجة» (دار الآداب) للكاتبة العمانية جوخة الحارثي، بصيغ وأشكال فنية جديدة، فهي رواية لا تكتسب فرادتها من الأحداث التي تسردها، إنما أيضاً من الشكل الذي تأخذه بنيتها، إذ تعمد الكاتبة إلى ابتكار طريقة في التعاطي مع فيوض الذاكرة، وبالتالي ووفق هذا المنظور، فهي رواية لا تنظر إلى الماضي بصفته حدثاً انقضى، إنما زمناً مستمراً يمكن التلاعب به والتحكم في سيولته، أي ماضٍ يستأنف نفسه عبر متوالية من التساؤلات وفيض من مشاعر الندم والتحسر. تخلص «نارنجة» الماضي من ماضويته، تمسرحه أو تعيد تمثيله في مشهدية لا تنقصها الحيوية، فيصبح النص ليس فقط كشفاً واستكشافاً لمجتمع وتاريخه وشخصيات ومآلاتها، إنما أيضاً استبطاناً لذات تشعر بالعطب يزحف إليها.
تذهب الكاتبة الشابة في هذه الرواية الممتعة إلى تشظية الحكاية الرئيسية، عندما تلجأ إلى تكنيك يستبقي دوماً تفاصيل مهمة إلى اللحظة المناسبة. وترتب الحكي وفق منطق تتبعثر معه التفاصيل، وتتوزع الفصول التي تبدو من الوهلة الأولى مغلقة على نفسها، إلا أنه مع توالي الحكي تتكشف لنا قابليتها على الانفتاح، وهو ما يجعل الأحداث في «نارنجة»، على مأسويتها تغرق في جمالية آسرة، قوامها لغة كثيفة وسرد سلس، ينتقل بنا في جملة واحدة من زمن بعيد إلى زمن آخر قريب ومن مكان إلى آخر مختلف، من زنجبار إلى مومبي فعمان، جمالية تحرر الرواية مهما بلغت سوداوية أحداثها، من ثقل الماضي وسطوة التاريخ.
تنطلق «نارنجة» من تفصيل صغير تستعيده الساردة، التي هي هنا طالبة عمانية اسمها زهور تدرس في بريطانيا، تستدعي زهور إصبعاً مشوهةً للجدة التي ليست جدتها، استعادة تخالطها لحظات من الندم وشعور حاد بالتقصير. تسترجع زهور المطالب الصغيرة للجدة وتتذكر تجاهلهم لها. فهذه الجدة التي كانت موضوعاً لعطف جد زهور الذي يمت لها بقرابة، فآواها في منزله لتعيش بينهما هو وزوجته، ستهتم بالبيت وترعى شؤون الابن الذي سيصبح أباً لولد وأختين، إحداهن زهور. تنفق الجدة «بنت عامر» عمراً بكامله في تربيتهم والعناية بهم، من دون الشعور بأنها تفعل شيئاً خارقاً للعادة، فهي مقتنعة بأنها مجرد ضيفة، تقوم بالخدمة في مقابل ضيافتهم لها، إلا أنها عندما تشيخ لا تجد من يعتني بها. قبل ذلك بعقود، كانت الجدة تعيش في منزل والدها، عندما كانت فتاة صغيرة، قبل أن يطردهما، أخاها وهي، وسيرحل عنها أخوها باكراً، إذ لم يتحمل مشقة العمل صغيراً، فمات.
تتحول المشاعر التي تنتاب الساردة نتيجة إهمالها الجدة، إلى ما يشبه العقدة التي تمسك بخيوط الرواية وتوجه مسارات السرد، عقدة ستطبع الرواية بإيقاعها الذي سيبدو بطيئاً إلا أنه ليس كذلك، إذ إن تعمد التكرار والعودة إلى الحدث نفسه أو استرجاع التفاصيل عينها، دائماً ما يفتح النص على جديد لم نتوقعه. على أن ما ينتاب الذات الساردة من مشاعر الخزي والندم، بدا أنه يجد شفاءه في استرجاعات خاطفة لمشاهد وحالات، فما يبهظ هذه الذات يشكل في الوقت نفسه محفزاً لفعل التذكر، إذ تنفتح الذاكرة على عوالم وأمكنة وأزمنة يتسع معها التخييل وتتعقد طرق صوغه.
ومثلما تبدأ الرواية بتفصيل صغير، ستنتهي بالكشف عن أمور، لعل القارئ كان يتوقع كشفها في لحظات باكرة من النص، إلا أن استراتيجية السرد التي تبنتها الكاتبة تقتضي تأجيل تلك التفاصيل التي تخص والد الجدة إلى الخاتمة، مضيئة الدوافع وراء طرده ابنَه وابنته. أي أن الرواية تختار لحظة تمتد بعيداً في الماضي لتنتهي عندها، وليس في المستقبل حيث تدرس زهور في بريطانيا وتعيش في لحظة زمنية، تتداخل فيها شظايا الذكريات مع تفاصيل الحياة اليومية لطالبة عربية، تعثر على نفسها محاطة بخليط غريب من البشر، وتتقاطع الأحداث الصغيرة التي تتلاقى فيها الأزمنة وتفترق.
تختتم الرواية أحداثها بالكشف عن تفاصيل لا تخص والد الجدة، الذي طلبوه في لحظة مفصلية متقدمة في تاريخ عمان، للاشتراك بصفته فارساً وشجاعاً شجاعة نادرة في حركة الانفصال عن السلطان الذي يؤازره الإنكليز، وإعلان الاستقلال، فلم يرفض، طبعاً، طمعاً في المال. لكن الأب خاض حرباً خاسرة ضد السلطان، بل وحارب في صف من يخالفونه في المذهب فكانت النتيجة أن خسر كل شيء، وبالتالي اضطر إلى طرد ابنه وابنته.

مشاعر مضطربة
لا تكتب الروائية العمانية التي أصدرت من قبل «سادنات القمر»، غربة طالبة عربية في أوروبا، ولا تعبر عن نستولوجيا إلى وطن بعيد، إنما أيضاً تظل دائمة الحفر في عواطف ومشاعر بدت منسية، وعند استيقاظها تثير مواجع أليمة، تكتب عن تاريخ يتوزع حكايات وتفاصيل. تتراوح الرواية بين ماضٍ بلحظات متعددة، لكن المأساة توحدها، وحاضر على رغم ما يشهده من تغييرات يبقى مشدوداً إلى الماضي، فيما تبقى الجدة قاسماً مشتركاً بحكايتها التي لا تنتهي، فتنسل معها حكايات تنتمي إلى أزمنة تعود إلى الحربين العالميتين ثم حرب الخليج الثانية وما بينها.
في حاضر الرواية نتابع مع الساردة مشاعرها المضطربة، وأيضاً وهي تسرد تطورات الموقف بين زميلتيها في الدراسة الأختين الباكستانيتين اللتين تنتميان إلى أسرة أرستقراطية، فتتزوج واحدة طالباً باكستانياً يتحدّر من طبقة الفلاحين، وكيف أن أختها تشعر بالحرج من هذا الزواج. على أن الساردة تجد نفسها في خضم مشاعر جديدة تعيشها، من خلال تورطها على نحو غامض في حب هذا الطالب، الذي يبدو أنه لا يكترث للآخرين، إلا أنه في واقع الأمر، كما تكتشف هي، فضولي تجاه الآخرين، إنما في غاية التكتم والتمويه، وسيشملها هذا الفضول وسيوقظ فيها عواطف دفينة، لم تنتبه لها أثناء مطاردة الذكريات لها، ذكرياتها مع جدة، بقيت وحيدة في أواخر عمرها كما لم تتحقق أحلامها.

هيمنة الذات الأنثوية
من ناحية، تهيمن الذات الأنثوية على الرواية، ليس في معنى الانحياز الضيق للأنثى، إنما انهماكاً في توسيع البعد الإنساني من خلال الذهاب إلى تقصي ما تعانيه هذه الذات، وبلورة طموحها وأشواقها إلى حياة مختلفة. نساء جوخة الحارثي تنهض حيواتهن، على خلفية من أحداث ضمخت حيواتهن بالألم والفقد والعطب، نساء قانعات مستسلمات. تبدو زهور على النقيض منهن وهي تسأل وتتساءل. من سمية التي سيطلقون عليها الدينامو لفرط حيويتها، إلا أنها ستفقد هذه الحيوية بمجرد الزواج، فزوجها الذي يحبها لا يقبل سوى أن يكون هو المركز فيما هي تقبع خارجه، الزوج الذي سيموت غريقاً وستفقد هي صوتها وحيويتها إلى الأبد. إلى شيخة التي تنتظر ابنها الذي ذهب ولم يعد، مروراً بالثريا التي دفنت زوجين وستفقد الثالث، لكن بعد أن تكون حياتها مضت إلى أقاصيها. وتبقى الجدة هي أصل الحكاية ومنتهاها، الجدة التي ستعاني قسوة الطفولة ومرارة طرد الأب وفجيعة الأخ.
في المنفى الدراسي تنفتح الساردة على الآخر، في الواقع أكثر من آخر، آخر ينتمي إلى الغرب، جريء في تلبية حاجاته، وآخر شرقي متحفظ حيال عاداته وتقاليده حتى إن تخرج في أرقى الجامعات الأوروبية. وستتقاطع حياتها مع حيوات أخرى، فتكتشف أن لها رغبات تتوارى خلف أفكار تبهظ ذاتها وتدفعها بعيداً من تلمس حاجاتها الأساسية. في هذا الجو المنفتح تندفع إلى ترميم الذات، في محاولة أن تسلك طريقة جديدة لمواصلة العيش بعيداً من عقدة الذنب.
تصغي زهور إلى حركة وجودها في أرض الغربة، على خلفية صوت الماضي، في ما يشبه الاستعداد لمواجهة الحياة الجديدة التي تتهيأ للعودة إليها. في منفاها البعيد تهاجمها الأفكار والهواجس، حيناً تخطر لها فكرة موتها إذ يداهمها شعور طاغٍ بالفناء، وحيناً تعثر على نفسها تتراوح بين خيال سيربي قوة إرادتها وواقع سيشهم هذه الإرادة. يخطر لها أحياناً أنها في مصيدة، في انتظار فأرٍ سيقضم الشبكة حولها ويحررها، تزداد الشبكة إحكاماً بينما تنتظر قضمة الخلاص، بيد أنها لم تعرف أنها هي الفأر الذي تنتظره ليخلصها، وعندما ستعرف ستكون أسنان الفأر تساقطت.
تهجس رواية «نارنجة» (دار الآداب) للكاتبة العمانية جوخة الحارثي، بصيغ وأشكال فنية جديدة، فهي رواية لا تكتسب فرادتها من الأحداث التي تسردها، إنما أيضاً من الشكل الذي تأخذه بنيتها، إذ تعمد الكاتبة إلى ابتكار طريقة في التعاطي مع فيوض الذاكرة، وبالتالي ووفق هذا المنظور، فهي رواية لا تنظر إلى الماضي بصفته حدثاً انقضى، إنما زمناً مستمراً يمكن التلاعب به والتحكم في سيولته، أي ماضٍ يستأنف نفسه عبر متوالية من التساؤلات وفيض من مشاعر الندم والتحسر. تخلص «نارنجة» الماضي من ماضويته، تمسرحه أو تعيد تمثيله في مشهدية لا تنقصها الحيوية، فيصبح النص ليس فقط كشفاً واستكشافاً لمجتمع وتاريخه وشخصيات ومآلاتها، إنما أيضاً استبطاناً لذات تشعر بالعطب يزحف إليها.
تذهب الكاتبة الشابة في هذه الرواية الممتعة إلى تشظية الحكاية الرئيسية، عندما تلجأ إلى تكنيك يستبقي دوماً تفاصيل مهمة إلى اللحظة المناسبة. وترتب الحكي وفق منطق تتبعثر معه التفاصيل، وتتوزع الفصول التي تبدو من الوهلة الأولى مغلقة على نفسها، إلا أنه مع توالي الحكي تتكشف لنا قابليتها على الانفتاح، وهو ما يجعل الأحداث في «نارنجة»، على مأسويتها تغرق في جمالية آسرة، قوامها لغة كثيفة وسرد سلس، ينتقل بنا في جملة واحدة من زمن بعيد إلى زمن آخر قريب ومن مكان إلى آخر مختلف، من زنجبار إلى مومبي فعمان، جمالية تحرر الرواية مهما بلغت سوداوية أحداثها، من ثقل الماضي وسطوة التاريخ.
تنطلق «نارنجة» من تفصيل صغير تستعيده الساردة، التي هي هنا طالبة عمانية اسمها زهور تدرس في بريطانيا، تستدعي زهور إصبعاً مشوهةً للجدة التي ليست جدتها، استعادة تخالطها لحظات من الندم وشعور حاد بالتقصير. تسترجع زهور المطالب الصغيرة للجدة وتتذكر تجاهلهم لها. فهذه الجدة التي كانت موضوعاً لعطف جد زهور الذي يمت لها بقرابة، فآواها في منزله لتعيش بينهما هو وزوجته، ستهتم بالبيت وترعى شؤون الابن الذي سيصبح أباً لولد وأختين، إحداهن زهور. تنفق الجدة «بنت عامر» عمراً بكامله في تربيتهم والعناية بهم، من دون الشعور بأنها تفعل شيئاً خارقاً للعادة، فهي مقتنعة بأنها مجرد ضيفة، تقوم بالخدمة في مقابل ضيافتهم لها، إلا أنها عندما تشيخ لا تجد من يعتني بها. قبل ذلك بعقود، كانت الجدة تعيش في منزل والدها، عندما كانت فتاة صغيرة، قبل أن يطردهما، أخاها وهي، وسيرحل عنها أخوها باكراً، إذ لم يتحمل مشقة العمل صغيراً، فمات.
تتحول المشاعر التي تنتاب الساردة نتيجة إهمالها الجدة، إلى ما يشبه العقدة التي تمسك بخيوط الرواية وتوجه مسارات السرد، عقدة ستطبع الرواية بإيقاعها الذي سيبدو بطيئاً إلا أنه ليس كذلك، إذ إن تعمد التكرار والعودة إلى الحدث نفسه أو استرجاع التفاصيل عينها، دائماً ما يفتح النص على جديد لم نتوقعه. على أن ما ينتاب الذات الساردة من مشاعر الخزي والندم، بدا أنه يجد شفاءه في استرجاعات خاطفة لمشاهد وحالات، فما يبهظ هذه الذات يشكل في الوقت نفسه محفزاً لفعل التذكر، إذ تنفتح الذاكرة على عوالم وأمكنة وأزمنة يتسع معها التخييل وتتعقد طرق صوغه.
ومثلما تبدأ الرواية بتفصيل صغير، ستنتهي بالكشف عن أمور، لعل القارئ كان يتوقع كشفها في لحظات باكرة من النص، إلا أن استراتيجية السرد التي تبنتها الكاتبة تقتضي تأجيل تلك التفاصيل التي تخص والد الجدة إلى الخاتمة، مضيئة الدوافع وراء طرده ابنَه وابنته. أي أن الرواية تختار لحظة تمتد بعيداً في الماضي لتنتهي عندها، وليس في المستقبل حيث تدرس زهور في بريطانيا وتعيش في لحظة زمنية، تتداخل فيها شظايا الذكريات مع تفاصيل الحياة اليومية لطالبة عربية، تعثر على نفسها محاطة بخليط غريب من البشر، وتتقاطع الأحداث الصغيرة التي تتلاقى فيها الأزمنة وتفترق.
تختتم الرواية أحداثها بالكشف عن تفاصيل لا تخص والد الجدة، الذي طلبوه في لحظة مفصلية متقدمة في تاريخ عمان، للاشتراك بصفته فارساً وشجاعاً شجاعة نادرة في حركة الانفصال عن السلطان الذي يؤازره الإنكليز، وإعلان الاستقلال، فلم يرفض، طبعاً، طمعاً في المال. لكن الأب خاض حرباً خاسرة ضد السلطان، بل وحارب في صف من يخالفونه في المذهب فكانت النتيجة أن خسر كل شيء، وبالتالي اضطر إلى طرد ابنه وابنته.

مشاعر مضطربة
لا تكتب الروائية العمانية التي أصدرت من قبل «سادنات القمر»، غربة طالبة عربية في أوروبا، ولا تعبر عن نستولوجيا إلى وطن بعيد، إنما أيضاً تظل دائمة الحفر في عواطف ومشاعر بدت منسية، وعند استيقاظها تثير مواجع أليمة، تكتب عن تاريخ يتوزع حكايات وتفاصيل. تتراوح الرواية بين ماضٍ بلحظات متعددة، لكن المأساة توحدها، وحاضر على رغم ما يشهده من تغييرات يبقى مشدوداً إلى الماضي، فيما تبقى الجدة قاسماً مشتركاً بحكايتها التي لا تنتهي، فتنسل معها حكايات تنتمي إلى أزمنة تعود إلى الحربين العالميتين ثم حرب الخليج الثانية وما بينها.
في حاضر الرواية نتابع مع الساردة مشاعرها المضطربة، وأيضاً وهي تسرد تطورات الموقف بين زميلتيها في الدراسة الأختين الباكستانيتين اللتين تنتميان إلى أسرة أرستقراطية، فتتزوج واحدة طالباً باكستانياً يتحدّر من طبقة الفلاحين، وكيف أن أختها تشعر بالحرج من هذا الزواج. على أن الساردة تجد نفسها في خضم مشاعر جديدة تعيشها، من خلال تورطها على نحو غامض في حب هذا الطالب، الذي يبدو أنه لا يكترث للآخرين، إلا أنه في واقع الأمر، كما تكتشف هي، فضولي تجاه الآخرين، إنما في غاية التكتم والتمويه، وسيشملها هذا الفضول وسيوقظ فيها عواطف دفينة، لم تنتبه لها أثناء مطاردة الذكريات لها، ذكرياتها مع جدة، بقيت وحيدة في أواخر عمرها كما لم تتحقق أحلامها.

هيمنة الذات الأنثوية
من ناحية، تهيمن الذات الأنثوية على الرواية، ليس في معنى الانحياز الضيق للأنثى، إنما انهماكاً في توسيع البعد الإنساني من خلال الذهاب إلى تقصي ما تعانيه هذه الذات، وبلورة طموحها وأشواقها إلى حياة مختلفة. نساء جوخة الحارثي تنهض حيواتهن، على خلفية من أحداث ضمخت حيواتهن بالألم والفقد والعطب، نساء قانعات مستسلمات. تبدو زهور على النقيض منهن وهي تسأل وتتساءل. من سمية التي سيطلقون عليها الدينامو لفرط حيويتها، إلا أنها ستفقد هذه الحيوية بمجرد الزواج، فزوجها الذي يحبها لا يقبل سوى أن يكون هو المركز فيما هي تقبع خارجه، الزوج الذي سيموت غريقاً وستفقد هي صوتها وحيويتها إلى الأبد. إلى شيخة التي تنتظر ابنها الذي ذهب ولم يعد، مروراً بالثريا التي دفنت زوجين وستفقد الثالث، لكن بعد أن تكون حياتها مضت إلى أقاصيها. وتبقى الجدة هي أصل الحكاية ومنتهاها، الجدة التي ستعاني قسوة الطفولة ومرارة طرد الأب وفجيعة الأخ.
في المنفى الدراسي تنفتح الساردة على الآخر، في الواقع أكثر من آخر، آخر ينتمي إلى الغرب، جريء في تلبية حاجاته، وآخر شرقي متحفظ حيال عاداته وتقاليده حتى إن تخرج في أرقى الجامعات الأوروبية. وستتقاطع حياتها مع حيوات أخرى، فتكتشف أن لها رغبات تتوارى خلف أفكار تبهظ ذاتها وتدفعها بعيداً من تلمس حاجاتها الأساسية. في هذا الجو المنفتح تندفع إلى ترميم الذات، في محاولة أن تسلك طريقة جديدة لمواصلة العيش بعيداً من عقدة الذنب.
تصغي زهور إلى حركة وجودها في أرض الغربة، على خلفية صوت الماضي، في ما يشبه الاستعداد لمواجهة الحياة الجديدة التي تتهيأ للعودة إليها. في منفاها البعيد تهاجمها الأفكار والهواجس، حيناً تخطر لها فكرة موتها إذ يداهمها شعور طاغٍ بالفناء، وحيناً تعثر على نفسها تتراوح بين خيال سيربي قوة إرادتها وواقع سيشهم هذه الإرادة. يخطر لها أحياناً أنها في مصيدة، في انتظار فأرٍ سيقضم الشبكة حولها ويحررها، تزداد الشبكة إحكاماً بينما تنتظر قضمة الخلاص، بيد أنها لم تعرف أنها هي الفأر الذي تنتظره ليخلصها، وعندما ستعرف ستكون أسنان الفأر تساقطت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.