قطع المياه 6 ساعات ببعض مناطق الجيزة لتحويل خط رئيسي    فلسطين.. جيش الاحتلال ينفذ حملة دهم واسعة في بلدة المغير شمال شرق رام الله    سيف الإسلام القذافي يعلن دعمه لتشكيل حكومة جديدة في ليبيا    جوتيريش:نصف مليون شخص بغزة محاصرون في مجاعة    ضبط 50 محلًا بدون ترخيص وتنفيذ 40 حكمًا قضائيًا بحملة أمنية بالفيوم    لمحبي الآكلات الجديدة.. حضري «الفاصوليا البيضاء» على الطريقة التونسية (الخطوات والمكونات)    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    جامعة أسوان تهنئ البروفيسور مجدي يعقوب لتكريمه من جمعية القلب الأمريكية    الجرام يسجل أقل من 3900 جنيها.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية    بورسعيد.. أجمل شاطئ وأرخص مصيف| كيف كانت الحياة في المدينة الباسلة عام 1960؟    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    الأمم المتحدة تعلن المجاعة رسميًا.. ماذا يحدث في غزة؟    محمد النمكي: الطرق والغاز جعلت العبور مدينة صناعية جاذبة للاستثمار| فيديو    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    أسوان يستضيف بلدية المحلة في الجولة الأولى بدوري المحترفين    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبري في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    رياضة ½ الليل| إيقاف تدريبات الزمالك.. كشف منشطات بالدوري.. تعديلات بالمباريات.. وتألق الفراعنة بالإمارات    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    أول تعليق من النني بعد فوز الجزيرة على الشارقة بالدوري الإماراتي    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    في ظهوره الأول مع تشيلسي، إستيفاو ويليان يدخل التاريخ في الدوري الإنجليزي (فيديو)    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جوخة الحارثي تحول «الندم» عقدة روائية
نشر في صوت البلد يوم 16 - 09 - 2016

تهجس رواية «نارنجة» (دار الآداب) للكاتبة العمانية جوخة الحارثي، بصيغ وأشكال فنية جديدة، فهي رواية لا تكتسب فرادتها من الأحداث التي تسردها، إنما أيضاً من الشكل الذي تأخذه بنيتها، إذ تعمد الكاتبة إلى ابتكار طريقة في التعاطي مع فيوض الذاكرة، وبالتالي ووفق هذا المنظور، فهي رواية لا تنظر إلى الماضي بصفته حدثاً انقضى، إنما زمناً مستمراً يمكن التلاعب به والتحكم في سيولته، أي ماضٍ يستأنف نفسه عبر متوالية من التساؤلات وفيض من مشاعر الندم والتحسر. تخلص «نارنجة» الماضي من ماضويته، تمسرحه أو تعيد تمثيله في مشهدية لا تنقصها الحيوية، فيصبح النص ليس فقط كشفاً واستكشافاً لمجتمع وتاريخه وشخصيات ومآلاتها، إنما أيضاً استبطاناً لذات تشعر بالعطب يزحف إليها.
تذهب الكاتبة الشابة في هذه الرواية الممتعة إلى تشظية الحكاية الرئيسية، عندما تلجأ إلى تكنيك يستبقي دوماً تفاصيل مهمة إلى اللحظة المناسبة. وترتب الحكي وفق منطق تتبعثر معه التفاصيل، وتتوزع الفصول التي تبدو من الوهلة الأولى مغلقة على نفسها، إلا أنه مع توالي الحكي تتكشف لنا قابليتها على الانفتاح، وهو ما يجعل الأحداث في «نارنجة»، على مأسويتها تغرق في جمالية آسرة، قوامها لغة كثيفة وسرد سلس، ينتقل بنا في جملة واحدة من زمن بعيد إلى زمن آخر قريب ومن مكان إلى آخر مختلف، من زنجبار إلى مومبي فعمان، جمالية تحرر الرواية مهما بلغت سوداوية أحداثها، من ثقل الماضي وسطوة التاريخ.
تنطلق «نارنجة» من تفصيل صغير تستعيده الساردة، التي هي هنا طالبة عمانية اسمها زهور تدرس في بريطانيا، تستدعي زهور إصبعاً مشوهةً للجدة التي ليست جدتها، استعادة تخالطها لحظات من الندم وشعور حاد بالتقصير. تسترجع زهور المطالب الصغيرة للجدة وتتذكر تجاهلهم لها. فهذه الجدة التي كانت موضوعاً لعطف جد زهور الذي يمت لها بقرابة، فآواها في منزله لتعيش بينهما هو وزوجته، ستهتم بالبيت وترعى شؤون الابن الذي سيصبح أباً لولد وأختين، إحداهن زهور. تنفق الجدة «بنت عامر» عمراً بكامله في تربيتهم والعناية بهم، من دون الشعور بأنها تفعل شيئاً خارقاً للعادة، فهي مقتنعة بأنها مجرد ضيفة، تقوم بالخدمة في مقابل ضيافتهم لها، إلا أنها عندما تشيخ لا تجد من يعتني بها. قبل ذلك بعقود، كانت الجدة تعيش في منزل والدها، عندما كانت فتاة صغيرة، قبل أن يطردهما، أخاها وهي، وسيرحل عنها أخوها باكراً، إذ لم يتحمل مشقة العمل صغيراً، فمات.
تتحول المشاعر التي تنتاب الساردة نتيجة إهمالها الجدة، إلى ما يشبه العقدة التي تمسك بخيوط الرواية وتوجه مسارات السرد، عقدة ستطبع الرواية بإيقاعها الذي سيبدو بطيئاً إلا أنه ليس كذلك، إذ إن تعمد التكرار والعودة إلى الحدث نفسه أو استرجاع التفاصيل عينها، دائماً ما يفتح النص على جديد لم نتوقعه. على أن ما ينتاب الذات الساردة من مشاعر الخزي والندم، بدا أنه يجد شفاءه في استرجاعات خاطفة لمشاهد وحالات، فما يبهظ هذه الذات يشكل في الوقت نفسه محفزاً لفعل التذكر، إذ تنفتح الذاكرة على عوالم وأمكنة وأزمنة يتسع معها التخييل وتتعقد طرق صوغه.
ومثلما تبدأ الرواية بتفصيل صغير، ستنتهي بالكشف عن أمور، لعل القارئ كان يتوقع كشفها في لحظات باكرة من النص، إلا أن استراتيجية السرد التي تبنتها الكاتبة تقتضي تأجيل تلك التفاصيل التي تخص والد الجدة إلى الخاتمة، مضيئة الدوافع وراء طرده ابنَه وابنته. أي أن الرواية تختار لحظة تمتد بعيداً في الماضي لتنتهي عندها، وليس في المستقبل حيث تدرس زهور في بريطانيا وتعيش في لحظة زمنية، تتداخل فيها شظايا الذكريات مع تفاصيل الحياة اليومية لطالبة عربية، تعثر على نفسها محاطة بخليط غريب من البشر، وتتقاطع الأحداث الصغيرة التي تتلاقى فيها الأزمنة وتفترق.
تختتم الرواية أحداثها بالكشف عن تفاصيل لا تخص والد الجدة، الذي طلبوه في لحظة مفصلية متقدمة في تاريخ عمان، للاشتراك بصفته فارساً وشجاعاً شجاعة نادرة في حركة الانفصال عن السلطان الذي يؤازره الإنكليز، وإعلان الاستقلال، فلم يرفض، طبعاً، طمعاً في المال. لكن الأب خاض حرباً خاسرة ضد السلطان، بل وحارب في صف من يخالفونه في المذهب فكانت النتيجة أن خسر كل شيء، وبالتالي اضطر إلى طرد ابنه وابنته.

مشاعر مضطربة
لا تكتب الروائية العمانية التي أصدرت من قبل «سادنات القمر»، غربة طالبة عربية في أوروبا، ولا تعبر عن نستولوجيا إلى وطن بعيد، إنما أيضاً تظل دائمة الحفر في عواطف ومشاعر بدت منسية، وعند استيقاظها تثير مواجع أليمة، تكتب عن تاريخ يتوزع حكايات وتفاصيل. تتراوح الرواية بين ماضٍ بلحظات متعددة، لكن المأساة توحدها، وحاضر على رغم ما يشهده من تغييرات يبقى مشدوداً إلى الماضي، فيما تبقى الجدة قاسماً مشتركاً بحكايتها التي لا تنتهي، فتنسل معها حكايات تنتمي إلى أزمنة تعود إلى الحربين العالميتين ثم حرب الخليج الثانية وما بينها.
في حاضر الرواية نتابع مع الساردة مشاعرها المضطربة، وأيضاً وهي تسرد تطورات الموقف بين زميلتيها في الدراسة الأختين الباكستانيتين اللتين تنتميان إلى أسرة أرستقراطية، فتتزوج واحدة طالباً باكستانياً يتحدّر من طبقة الفلاحين، وكيف أن أختها تشعر بالحرج من هذا الزواج. على أن الساردة تجد نفسها في خضم مشاعر جديدة تعيشها، من خلال تورطها على نحو غامض في حب هذا الطالب، الذي يبدو أنه لا يكترث للآخرين، إلا أنه في واقع الأمر، كما تكتشف هي، فضولي تجاه الآخرين، إنما في غاية التكتم والتمويه، وسيشملها هذا الفضول وسيوقظ فيها عواطف دفينة، لم تنتبه لها أثناء مطاردة الذكريات لها، ذكرياتها مع جدة، بقيت وحيدة في أواخر عمرها كما لم تتحقق أحلامها.

هيمنة الذات الأنثوية
من ناحية، تهيمن الذات الأنثوية على الرواية، ليس في معنى الانحياز الضيق للأنثى، إنما انهماكاً في توسيع البعد الإنساني من خلال الذهاب إلى تقصي ما تعانيه هذه الذات، وبلورة طموحها وأشواقها إلى حياة مختلفة. نساء جوخة الحارثي تنهض حيواتهن، على خلفية من أحداث ضمخت حيواتهن بالألم والفقد والعطب، نساء قانعات مستسلمات. تبدو زهور على النقيض منهن وهي تسأل وتتساءل. من سمية التي سيطلقون عليها الدينامو لفرط حيويتها، إلا أنها ستفقد هذه الحيوية بمجرد الزواج، فزوجها الذي يحبها لا يقبل سوى أن يكون هو المركز فيما هي تقبع خارجه، الزوج الذي سيموت غريقاً وستفقد هي صوتها وحيويتها إلى الأبد. إلى شيخة التي تنتظر ابنها الذي ذهب ولم يعد، مروراً بالثريا التي دفنت زوجين وستفقد الثالث، لكن بعد أن تكون حياتها مضت إلى أقاصيها. وتبقى الجدة هي أصل الحكاية ومنتهاها، الجدة التي ستعاني قسوة الطفولة ومرارة طرد الأب وفجيعة الأخ.
في المنفى الدراسي تنفتح الساردة على الآخر، في الواقع أكثر من آخر، آخر ينتمي إلى الغرب، جريء في تلبية حاجاته، وآخر شرقي متحفظ حيال عاداته وتقاليده حتى إن تخرج في أرقى الجامعات الأوروبية. وستتقاطع حياتها مع حيوات أخرى، فتكتشف أن لها رغبات تتوارى خلف أفكار تبهظ ذاتها وتدفعها بعيداً من تلمس حاجاتها الأساسية. في هذا الجو المنفتح تندفع إلى ترميم الذات، في محاولة أن تسلك طريقة جديدة لمواصلة العيش بعيداً من عقدة الذنب.
تصغي زهور إلى حركة وجودها في أرض الغربة، على خلفية صوت الماضي، في ما يشبه الاستعداد لمواجهة الحياة الجديدة التي تتهيأ للعودة إليها. في منفاها البعيد تهاجمها الأفكار والهواجس، حيناً تخطر لها فكرة موتها إذ يداهمها شعور طاغٍ بالفناء، وحيناً تعثر على نفسها تتراوح بين خيال سيربي قوة إرادتها وواقع سيشهم هذه الإرادة. يخطر لها أحياناً أنها في مصيدة، في انتظار فأرٍ سيقضم الشبكة حولها ويحررها، تزداد الشبكة إحكاماً بينما تنتظر قضمة الخلاص، بيد أنها لم تعرف أنها هي الفأر الذي تنتظره ليخلصها، وعندما ستعرف ستكون أسنان الفأر تساقطت.
تهجس رواية «نارنجة» (دار الآداب) للكاتبة العمانية جوخة الحارثي، بصيغ وأشكال فنية جديدة، فهي رواية لا تكتسب فرادتها من الأحداث التي تسردها، إنما أيضاً من الشكل الذي تأخذه بنيتها، إذ تعمد الكاتبة إلى ابتكار طريقة في التعاطي مع فيوض الذاكرة، وبالتالي ووفق هذا المنظور، فهي رواية لا تنظر إلى الماضي بصفته حدثاً انقضى، إنما زمناً مستمراً يمكن التلاعب به والتحكم في سيولته، أي ماضٍ يستأنف نفسه عبر متوالية من التساؤلات وفيض من مشاعر الندم والتحسر. تخلص «نارنجة» الماضي من ماضويته، تمسرحه أو تعيد تمثيله في مشهدية لا تنقصها الحيوية، فيصبح النص ليس فقط كشفاً واستكشافاً لمجتمع وتاريخه وشخصيات ومآلاتها، إنما أيضاً استبطاناً لذات تشعر بالعطب يزحف إليها.
تذهب الكاتبة الشابة في هذه الرواية الممتعة إلى تشظية الحكاية الرئيسية، عندما تلجأ إلى تكنيك يستبقي دوماً تفاصيل مهمة إلى اللحظة المناسبة. وترتب الحكي وفق منطق تتبعثر معه التفاصيل، وتتوزع الفصول التي تبدو من الوهلة الأولى مغلقة على نفسها، إلا أنه مع توالي الحكي تتكشف لنا قابليتها على الانفتاح، وهو ما يجعل الأحداث في «نارنجة»، على مأسويتها تغرق في جمالية آسرة، قوامها لغة كثيفة وسرد سلس، ينتقل بنا في جملة واحدة من زمن بعيد إلى زمن آخر قريب ومن مكان إلى آخر مختلف، من زنجبار إلى مومبي فعمان، جمالية تحرر الرواية مهما بلغت سوداوية أحداثها، من ثقل الماضي وسطوة التاريخ.
تنطلق «نارنجة» من تفصيل صغير تستعيده الساردة، التي هي هنا طالبة عمانية اسمها زهور تدرس في بريطانيا، تستدعي زهور إصبعاً مشوهةً للجدة التي ليست جدتها، استعادة تخالطها لحظات من الندم وشعور حاد بالتقصير. تسترجع زهور المطالب الصغيرة للجدة وتتذكر تجاهلهم لها. فهذه الجدة التي كانت موضوعاً لعطف جد زهور الذي يمت لها بقرابة، فآواها في منزله لتعيش بينهما هو وزوجته، ستهتم بالبيت وترعى شؤون الابن الذي سيصبح أباً لولد وأختين، إحداهن زهور. تنفق الجدة «بنت عامر» عمراً بكامله في تربيتهم والعناية بهم، من دون الشعور بأنها تفعل شيئاً خارقاً للعادة، فهي مقتنعة بأنها مجرد ضيفة، تقوم بالخدمة في مقابل ضيافتهم لها، إلا أنها عندما تشيخ لا تجد من يعتني بها. قبل ذلك بعقود، كانت الجدة تعيش في منزل والدها، عندما كانت فتاة صغيرة، قبل أن يطردهما، أخاها وهي، وسيرحل عنها أخوها باكراً، إذ لم يتحمل مشقة العمل صغيراً، فمات.
تتحول المشاعر التي تنتاب الساردة نتيجة إهمالها الجدة، إلى ما يشبه العقدة التي تمسك بخيوط الرواية وتوجه مسارات السرد، عقدة ستطبع الرواية بإيقاعها الذي سيبدو بطيئاً إلا أنه ليس كذلك، إذ إن تعمد التكرار والعودة إلى الحدث نفسه أو استرجاع التفاصيل عينها، دائماً ما يفتح النص على جديد لم نتوقعه. على أن ما ينتاب الذات الساردة من مشاعر الخزي والندم، بدا أنه يجد شفاءه في استرجاعات خاطفة لمشاهد وحالات، فما يبهظ هذه الذات يشكل في الوقت نفسه محفزاً لفعل التذكر، إذ تنفتح الذاكرة على عوالم وأمكنة وأزمنة يتسع معها التخييل وتتعقد طرق صوغه.
ومثلما تبدأ الرواية بتفصيل صغير، ستنتهي بالكشف عن أمور، لعل القارئ كان يتوقع كشفها في لحظات باكرة من النص، إلا أن استراتيجية السرد التي تبنتها الكاتبة تقتضي تأجيل تلك التفاصيل التي تخص والد الجدة إلى الخاتمة، مضيئة الدوافع وراء طرده ابنَه وابنته. أي أن الرواية تختار لحظة تمتد بعيداً في الماضي لتنتهي عندها، وليس في المستقبل حيث تدرس زهور في بريطانيا وتعيش في لحظة زمنية، تتداخل فيها شظايا الذكريات مع تفاصيل الحياة اليومية لطالبة عربية، تعثر على نفسها محاطة بخليط غريب من البشر، وتتقاطع الأحداث الصغيرة التي تتلاقى فيها الأزمنة وتفترق.
تختتم الرواية أحداثها بالكشف عن تفاصيل لا تخص والد الجدة، الذي طلبوه في لحظة مفصلية متقدمة في تاريخ عمان، للاشتراك بصفته فارساً وشجاعاً شجاعة نادرة في حركة الانفصال عن السلطان الذي يؤازره الإنكليز، وإعلان الاستقلال، فلم يرفض، طبعاً، طمعاً في المال. لكن الأب خاض حرباً خاسرة ضد السلطان، بل وحارب في صف من يخالفونه في المذهب فكانت النتيجة أن خسر كل شيء، وبالتالي اضطر إلى طرد ابنه وابنته.

مشاعر مضطربة
لا تكتب الروائية العمانية التي أصدرت من قبل «سادنات القمر»، غربة طالبة عربية في أوروبا، ولا تعبر عن نستولوجيا إلى وطن بعيد، إنما أيضاً تظل دائمة الحفر في عواطف ومشاعر بدت منسية، وعند استيقاظها تثير مواجع أليمة، تكتب عن تاريخ يتوزع حكايات وتفاصيل. تتراوح الرواية بين ماضٍ بلحظات متعددة، لكن المأساة توحدها، وحاضر على رغم ما يشهده من تغييرات يبقى مشدوداً إلى الماضي، فيما تبقى الجدة قاسماً مشتركاً بحكايتها التي لا تنتهي، فتنسل معها حكايات تنتمي إلى أزمنة تعود إلى الحربين العالميتين ثم حرب الخليج الثانية وما بينها.
في حاضر الرواية نتابع مع الساردة مشاعرها المضطربة، وأيضاً وهي تسرد تطورات الموقف بين زميلتيها في الدراسة الأختين الباكستانيتين اللتين تنتميان إلى أسرة أرستقراطية، فتتزوج واحدة طالباً باكستانياً يتحدّر من طبقة الفلاحين، وكيف أن أختها تشعر بالحرج من هذا الزواج. على أن الساردة تجد نفسها في خضم مشاعر جديدة تعيشها، من خلال تورطها على نحو غامض في حب هذا الطالب، الذي يبدو أنه لا يكترث للآخرين، إلا أنه في واقع الأمر، كما تكتشف هي، فضولي تجاه الآخرين، إنما في غاية التكتم والتمويه، وسيشملها هذا الفضول وسيوقظ فيها عواطف دفينة، لم تنتبه لها أثناء مطاردة الذكريات لها، ذكرياتها مع جدة، بقيت وحيدة في أواخر عمرها كما لم تتحقق أحلامها.

هيمنة الذات الأنثوية
من ناحية، تهيمن الذات الأنثوية على الرواية، ليس في معنى الانحياز الضيق للأنثى، إنما انهماكاً في توسيع البعد الإنساني من خلال الذهاب إلى تقصي ما تعانيه هذه الذات، وبلورة طموحها وأشواقها إلى حياة مختلفة. نساء جوخة الحارثي تنهض حيواتهن، على خلفية من أحداث ضمخت حيواتهن بالألم والفقد والعطب، نساء قانعات مستسلمات. تبدو زهور على النقيض منهن وهي تسأل وتتساءل. من سمية التي سيطلقون عليها الدينامو لفرط حيويتها، إلا أنها ستفقد هذه الحيوية بمجرد الزواج، فزوجها الذي يحبها لا يقبل سوى أن يكون هو المركز فيما هي تقبع خارجه، الزوج الذي سيموت غريقاً وستفقد هي صوتها وحيويتها إلى الأبد. إلى شيخة التي تنتظر ابنها الذي ذهب ولم يعد، مروراً بالثريا التي دفنت زوجين وستفقد الثالث، لكن بعد أن تكون حياتها مضت إلى أقاصيها. وتبقى الجدة هي أصل الحكاية ومنتهاها، الجدة التي ستعاني قسوة الطفولة ومرارة طرد الأب وفجيعة الأخ.
في المنفى الدراسي تنفتح الساردة على الآخر، في الواقع أكثر من آخر، آخر ينتمي إلى الغرب، جريء في تلبية حاجاته، وآخر شرقي متحفظ حيال عاداته وتقاليده حتى إن تخرج في أرقى الجامعات الأوروبية. وستتقاطع حياتها مع حيوات أخرى، فتكتشف أن لها رغبات تتوارى خلف أفكار تبهظ ذاتها وتدفعها بعيداً من تلمس حاجاتها الأساسية. في هذا الجو المنفتح تندفع إلى ترميم الذات، في محاولة أن تسلك طريقة جديدة لمواصلة العيش بعيداً من عقدة الذنب.
تصغي زهور إلى حركة وجودها في أرض الغربة، على خلفية صوت الماضي، في ما يشبه الاستعداد لمواجهة الحياة الجديدة التي تتهيأ للعودة إليها. في منفاها البعيد تهاجمها الأفكار والهواجس، حيناً تخطر لها فكرة موتها إذ يداهمها شعور طاغٍ بالفناء، وحيناً تعثر على نفسها تتراوح بين خيال سيربي قوة إرادتها وواقع سيشهم هذه الإرادة. يخطر لها أحياناً أنها في مصيدة، في انتظار فأرٍ سيقضم الشبكة حولها ويحررها، تزداد الشبكة إحكاماً بينما تنتظر قضمة الخلاص، بيد أنها لم تعرف أنها هي الفأر الذي تنتظره ليخلصها، وعندما ستعرف ستكون أسنان الفأر تساقطت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.