تتابع علوية صبح في روايتها الجديدة دنيا، الصادرة عن دار الآداب، ما بدأته في الرواية السابقة مريم الحكايا من إيغال مستمر في أحشاء المجتمع اللبناني الخارج مثخناً من الحرب والمترنح بين القيم والخيارات في عالم رجراج ومضطرب وشديد التبدّل. تتحول الرواية بهذا المعنى الى تاريخ آخر لا يكتفي بالتركيز على العناوين الكبرى للأحداث أو بنقل أخبار من هم في سدة السلطة ومركز قرارها كما هو الحال مع كتب التاريخ، التي تشكل الرواية الرسمية للوقائع والأحداث، بل يرصد المغفل والمنسي من حيوات البشر وعلاقاتهم وأشكال تعبيرهم عن الحب والكراهية والفاقة والثراء والموت ومرور الزمن. هكذا يجد قارئ علوية صبح نفسه أمام مرآة هائلة للواقع الذي لا تصنعه الكاتبة من بنات خيالها ولكنه يكاد يبدو من صنعها الشخصي نتيجة لما تبذله من جهد فائق في رتق أحداثه المتباعدة وإحالة بعضها الى بعض عبر عشرات الحكايا والقصص والمشاهد المتداخلة. عنوان الرواية الجديدة الذي أرادت له الكاتبة أن يحمل اسم بطلتها الرئيسية دنيا لا يبدو هو الآخر خاضعاً للصدفة المجردة بقدر ما يجيء متوائماً مع الدنيا نفسها في ما تحمله دائما من مفاجآت ومنعطفات غير متوقعة في مصائر الناس وأوضاعهم وأنماط عيشهم. كما لا يمكن أيضا إغفال البعد الشعبي لهذه التسمية حيث يكتفي الناس، وبخاصة البسطاء منهم، بترداد كلمة دنيا مرفقة بالتنهد وهز الرأس لدى سماعهم أخبارا غير متوقعة عن موت مفاجئ أو ثراء غير محسوب أو تبدّل مباغت في مصائر البشر. كأن علوية صبح تفعل على طريقتها الشيء نفسه وتراقب بأسى واضح مصائر أبطالها وبطلاتها الذين أنهكتهم الحرب كما أنهكهم بشكل أكبر السلم المشوه الذي تمخضت عنه وذهب كل منهم راضياً أو كارهاً الى قدره الأخير. ولا يبدو من قبيل الصدفة ايضا أن تكون لحظة كتابة الرواية مترافقة مع لحظة هدم المبنى الذي كانت تسكنه الكاتبة كما معظم أبطالها في شارع الحمراء في بيروت. فالبيوت والأماكن تهرم وتشيخ كما الناس القاطنون فيها. وهدم المبنى يعني وضع نقطة النهاية لتلك الحيوات التي ارفضّ عقدها بعد حقبة طويلة من الزمن كما يؤشر الى تهالك ذلك الشارع الشهير الذي شكل لعقود متتالية شريان المدينة وعصبها الاقتصادي والثقافي. لكن الحكايات وحدها هي ما يمكن أن يمنع الشخصيات والأماكن والأحداث من السقوط في حضن الموت والعدم الكاملين. فإذا كان النسيان رديف الموت فإن التذكر من جهته يمكن أن يبعث حياة اخرى في الوجودات التي تفقدها. وهو ما حرصت الكاتبة على الاشارة اليه في غير مكان من الرواية الأخيرة. المرأة الكتابة منام والليل بلا حكاية ليل أعمى تقول الكاتبة على لسان أحد أبطالها، حيث تتكرر فكرة النوم والمنامات بشكل متواصل محيلة الحياة برمتها الى شكل من أشكال الخرافة أو الوهم أو الممر الضيق داخل عدمين، كما يعبر شوبنهاور. واذ تستهل صبح روايتها بالحديث الشريف الناس ينام فإذا ماتوا انتبهوا تلح على أن الحكايات نفسها تنتقل عبر النوم من منامات المرأتين الراويتين، دنيا وفريال، الى منامات الكاتبة أو بالعكس. إذ ربما كانت الكاتبة نفسها هي التي اختلقت عبر أضغاث مناماتها شخصيات وأحداثا لا تنتمي الى الحقيقة بل الى ظلالها في المخيلات: أنا التي تروي وصديقتي وجارتي فريال تأخذ عني الكلام أحيانا. والكاتبة كتبت كل ما نحكيه أنا وفريال كل مساء إحدانا للأخرى من أسرار وحكايات بعد أن ينام مالك بسلام. وما أثار استغرابي انها كانت تحلم بمناماتي في مناماتها مثلما كنت أحلم أنا بمنامات أبطال الحكاية. وكما في مريم الحكايا كذلك في الرواية الثانية دنيا تحتل النساء بأنماطهن المختلفة المساحة الأوسع في الروايتين. فالراويتان الجديدتان دنيا وفريال هما من يتولى سرد الحكايات. وكذلك الأمر بالنسبة للكاتبة التي ترى مصائرهن المتغيرة في مناماتها، إضافة الى عشرات الشخصيات النسائية التي تتعاقب على مسرح الأحداث دون توقف. لا يعني ذلك أن الرواية خالية من الرجال بل ان هؤلاء يحضرون دائما سواء في الأحداث المباشرة أو على لسان البطلات المرتبطات بهم أو في هوامات النساء الوحيدات وهواجسهن. الرجال حاضرون في كل مكان على شكل أجداد وآباء وأزواج وإخوة وأولاد. لكنهم يحضرون هذه المرة من داخل منامات النساء أو من خلال مراياهن المتعددة ورغباتهن المقموعة. وهو ما يظهر بوضوح على لسان احدى النساء التي تعتبر ان المرأة لا تحتل سوى جزء من عالم الرجل وهمومه في حين يشكل الرجل بالنسبة لها نقطة الدائرة ومحور الاهتمام وجماع الحياة، متصادية بذلك مع ما ذهب اليه ابن حزم الاندلسي في كتابه الشهير طوق الحمامة. غالبا ما تظهر المرأة في الرواية بوصفها ضحية لا جلادا وبوصفها مهجورة من الرجل لا هاجرة له وبوصفها أداة للمتعة والجنس وتصريف الشهوة لا بوصفها القصيدة والحلم الرومنسي ونصف الكائن الأجمل. ولعل مرد ذلك الى كون علوية صبح لا ترغب في صنع الرواية مما ترغب أن يكون عليه الواقع بل من النسيج الحقيقي لهذا الواقع الصادم والقاسي والمأساوي رغم جزر الحنان الصغيرة التي تلمع في بدايات العلاقات بين النساء والرجال قبل أن نؤول الى الانحلال والتلف، أو عبر علاقات حب استثنائية ودائمة كعلاقة عبد الله، عم دنيا، بزوجته نجمة. غالبا ما يتسم الرجال بالفظاظة والأنانية وروح السيطرة في رواية صبح. ولكن ذلك ليس ناجما عن موقف الكاتبة النسوي، كما هو الحال عند بعض الكاتبات العربيات، بقدر ما هو ناجم عن معاينة المجتمع العربي الذكوري الذي يحول المرأة، الى ملهمة للرجل في الشعر والأدب بينما لا تكون سوى فريسته ومستودع نزواته ونزقه على أرض الواقع. ومع ذلك فإن الرجل في الرواية لا يبدو جلادا إلا بمقدار ما يكون الجلاد هو الوجه الآخر للضحية ولا يبدو فحلا على الطريقة الشرقية إلا بمقدار ما تكون الفحولة ممرا إجباريا الى الترهل والعجز والانكسار تحت قبضة الزمن أو الحرب أو كليهما معا. قد يكون الزمن وتحولاته المأساوية هو البطل الحقيقي لرواية علوية صبح. وأي متابعة دقيقة لمجرى الأحداث لا بد أن تقودنا الى هذا الاستنتاج الذي تشير اليه مصائر الأبطال جميعهم ودون استثناء تقريبا. فالزمن الذي أتلف مكان الرواية والسرد، عبر المبنى المواجه لسينما سارولا، هو نفسه الذي قاد الشخصيات بسرعة فائقة من الفتوة والسطوة والتألق الجسدي والحب الغامر الى الكهولة والعجز وتفكك العلاقات وانهيارها. يكفي أن يكون الشلل الذي أصيب به مالك، زوج دنيا، إثر اعتداء غامض نهاية الحرب هو خلفية السرد الروائي برمته لنعرف المسار التراجيدي للأحداث اللاحقة. واذا كانت بعض الروايات الأخرى قد استخدمت تقنية مماثلة، كما في رواية باولا لايزابيل الليندي التي تجعل من شلل ابنتها ووقعها في الغيبوبة ذريعة لسرد تاريخ تشيلي الممهور بالدم أو رواية باب الشمس لالياس خوري التي استخدمت تقنية مشابهة لإعادة تأليف الحكاية الفلسطينية، فإن علوية صبح لم تجعل من بطلها ذريعة للسرد الذي يأخذ بعد ذلك عشرات المسالك والتشعبات، بل تكتفي بجعله أحد العناوين البارزة لكارثة الحرب الأهلية التي لم تخلف سوى الاعاقة وانسداد الأفق والعجز عن الحب. فمالك الذي تتيم بدنيا أول الأمر لم يلبث انخراطه في العمل العسكري أن حوّله الى قاتل عديم الرحمة وحوّل علاقته بزوجته الى جحيم حقيقي. لم يكن حظ الشخصيات النسائية الأخرى أوفر من حظ دنيا. ففريال، المدرّسة، تقع بدورها في حب خالد المتخرج من الجامعة الأميركية والذي ما يلبث أن يهجرها دون سبب مقنع ليتزوج من فتاة تصغره سناً، ثم ليحاول عبثاً بعد ذلك التحرش بحبيبته الأولى. وماغي تتزوج من رجل لا تحبه ولا يمنعها ثراؤه اللاحق من أن تقيم علاقة غير شرعية مع الأستاذ الجامعي خليل الذي سرعان ما يصاب بالعجز الجنسي. وروز، مدرسة الموسيقى والهاربة الى البناية اثر حرب الجبل، كانت قد وقعت في حب فيليب الذي تركها بغتة وسافر الى فرنسا لتنقطع أخباره تماما بعد ذلك. شخصيات كثيرة أخرى تواجه مصائر مشابهة وإن كانت تنتمي الى بيئات وأجيال مختلفة. فسمية عمة دنيا لم تستطع، اثر وفاة زوجها، إخفاء ارتياحها من قسوته ومزاجيته وشدة تطلبه. والجدة سعدية لم تفلح في ثني زوجها عن ضربها المبرح لأتفه الأسباب إلا بعد ترويضها للضبع وعودتها راكبة على ظهره الى القرية ليهابها الجميع بمن فيهم زوجها بالذات. ولم يكن وضع دنيا التي لم يتورع مالك عن إهانتها وضربها أفضل حالا من الأخريات، ولو كان حظها أفضل بالطبع من حظ غزالة التي قتلت على يد أخيها الأصغر الذي لم تمنعه نشأته في أحضانها من ذبحها بالسكين غسلا لعار العائلة. هكذا تقدم علوية صبح بانوراما شائكة ومتنوعة عن ذلك المجتمع الذكوري الذي لا يتردد رجاله على تهالكهم في قهر النساء أو قتلهن أو تحويلهن الى مانيكانات للرغبة والعروض الجنسية المختلفة. وهو ما يرد بلسان أم دنيا التي ترد على شكوى ابنتها من تعرضها المستمر للضرب بالقول: إن الزوج هو الرب الصغير على الأرض وعلى الزوجة استرضاؤه بأي ثمن. المرض والجنون والموت هي الوجوه الثلاثة السوداء لعالم الرواية الذي لا تتردد كاتبته في هتك حرمة الجسد الأنثوي الذي لطالما كان منذوراً للشعر ومخيلات الشعراء، أو الجسد الذكوري الذي طالما ارتبط في ذهن النساء بالفحولة والكمال والقوة. فأم مالك تحول معضلة حصر البول المصابة بها الى شأن عام تخبره للجميع. وأم فريال تقضي شيخوختها شبه عارية وبلا ملابس داخلية. ومالك المشلول يعاني من التبول اللاإرادي. ورؤوف ابن أم توفيق يفقد عقله بعد نهاية الحرب وبحثه العقيم عن كنوز مخبأة في تراب قريته. وكذلك الأمر مع أبي عماد في كهولته ومع المجنونة التي توزع شتائمها بشكل يومي على سكان الحي، أما الموت فموزع بدوره بين من قتلوا في الحرب أو جرائم الشرف أو تناول المنشطات الجنسية أو نتيجة لجرائم الثأر التي تتوارثها بعض المناطق والعائلات جيلا عن جيل. لا يعني ذلك بالطبع أن الكاتبة لم تستمع الى النداءات المعاكسة للحياة التي تلمع عند الضفة الأخرى. فثمة احتفاء واضح بالحب الذي يشتعل عادة في مقتبل العلاقات، قبل أن يخبو عند البعض ويستمر في اشتعاله لدى البعض الآخر. وثمة احتفاء مماثل بالشهوة والجنس اللذين يحتلان مساحة واسعة من الرواية الممعنة الى حد بعيد في جرأتها لغة وموضوعاً وتعرية للوجوه والرغبات. حكاية متسلسلة تدخل علوية صبح في ما يشبه دهاليز ألف ليلة وليلة وتناسلاتها الحكائية الى سرائر النساء وشهواتهن الدقيقة والجزئية والتي لا يستطيع الرجال في الغالب الوصول اليها. فالجنس بوجوهه ومستوياته المختلفة يقف وراء الكثير من العلاقات كما يقف أيضا وراء الكثير من حالات انهيارها. والكاتبة تقتحم هذا العالم من بابه الواسع وعبر لغة جريئة تسمي الأشياء بأسمائها دون تكلف أو تعمد للاثارة مستترة وراء بطلاتها اللواتي تكتفي بعضهن بالتعبير الفج والمباشر عن الشهوة وأعضائها، كما تفعل ماغي بعد أفول نجمها، في حين يستغرق وصف العمل الجنسي على لسان فريال صفحات عديدة تحتفي بالجسد العاشق وتحيله الى كرنفال كامل من الفرح واللذة والتوحد مع الآخر. كما لا يمكن أن تغفل الوجه الآخر للمرأة المتمثل بالأمومة والعطاء وألم الولادة حيث تسأل الكاتبة بلسان دنيا: هل يمكن للأرض أن تنطق أو تحكي عن ألمها ساعة يخلخلها الزلزال؟. لا بد أخيرا أن أشير الى اللغة الروائية عند علوية صبح والتي تتسم بالسلاسة والطواعية ورشاقة السرد وتضيف الى لغة مريم الحكايا المزيد من التنوع والتقنيات التعبيرية ومراعاة الفروق بين مستويات الاشخاص وثقافاتهم وأجيالهم. فهذه اللغة تتدرج في تصاعدها بين الحوارات المحكية التي تنقل بأمانة ما يتردد على ألسنة الناس من مفردات وأشكال تعبير، مروراً بالواقعية والدقة في رصد التفاصيل والتقاط إشارات الحياة اليومية ووصولا الى بعض المناخات الشعرية المرهفة في بعض المواضيع. واذا كان البعض، وأنا منهم، قد خشي من أن تكون إطلالة صبح القوية والمفاجئة عبر مريم الحكايا قد حملت في أحشائها بالمقابل بذور التراجع أو التكرار، كما هو الحال لدى العديد من الروائيين العرب، فإن هذه الخشية قد تبددت تماما مع الرواية الأخيرة التي تذهب أبعد في المغامرة بقدر ما ترسخ قدمي علوية صبح أكثر فأكثر في تراب الرواية العربية الجديدة.