افتتاح مساجد جديدة وقافلة دعوية بالمنيا لخدمة الأهالي وتعليم الأطفال (صور)    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    تفاصيل إطلاق أول مستشفى افتراضي يعمل بالذكاء الاصطناعي كاملا: جميع العاملين روبوتات    محمود فوزي: الدولة لا تقبل ترك مواطني الإيجار القديم دون مأوى    إنذار ب تسونامي بعد زلزال مدمر بقوة 7.5 ريختر في ممر دريك جنوب تشيلي    الإغاثة الطبية في غزة: القطاع يشهد أوضاعا انسانية صعبة مع استمرار القصف    مروعة للغاية.. الحكومة البريطانية تعلق على كارثة المجاعة في غزة    هجوم أوكراني على خط أنابيب نفط روسي يثير غضب المجر وسلوفاكيا    ريال مدريد يخطط للتعاقد مع صفقة جديدة من البريميرليج    انقلاب سيارة محملة بالعنب على الطريق الدائرى اتجاه قليوب    الداخلية تحبط جلب شحنة أقراص مخدرة داخل طرد بريدى    إقبال جماهيري على معرض السويس الثالث للكتاب- صور    "درويش" يحقق قفزة كبيرة ويتخطى 20 مليون جنيه في 9 أيام    خطيب الجامع الأزهر يحذر من زراعة اليأس والإحباط في القلوب: خطر كبير يواجه الأمة    الصحة: تقديم 57 مليون خدمة طبية مجانية ضمن حملة «100 يوم صحة» في 37 يومًا    الكشف الطبى على 276 مريضا من أهالى قرى البنجر فى قافلة مجانية بالإسكندرية    الداخلية تكشف كواليس سرقة سيارة مُحملة بحقائب سفر بالسلام    تنفيذ 83 ألف حكم قضائي وضبط 400 قضية مواد مخدرة خلال 24 ساعة    أسرة كاملة تسقط في الترعة.. إصابة 6 أشخاص بحادث انقلاب ببني سويف    المقاومة العراقية تطالب بالانسحاب الحقيقي للقوات الأمريكية من العراق    أفضل فريق لخاصية "وايلد كارد" في فانتازي الدوري الإنجليزي    10 لقطات مبهرة تكشف أسرار الكنوز الغارقة بالإسكندرية (صور)    إيقاعات وألوان وحرف.. قصور الثقافة تفتح أبواب الإبداع أمام مواهب بورسعيد في برنامج مصر جميلة    قانون الرياضة الجديد ينظم تأسيس شركات الخدمات الرياضية بمشاركة الهيئة بنسبة 51%.. تفاصيل    الأردن يدين تصريحات إسرائيلية مؤيدة للاستيطان ويجدد دعوته لوقف الانتهاكات    فورين بوليسي: منطقة "دونباس" مفتاح الحرب والسلام في أوكرانيا    تشكيل بايرن ميونيخ ضد لايبزيج في الدوري الألماني    تسجيل مركز قصر العيني للأبحاث السريرية رسميا بالمجلس الأعلى لمراجعة أخلاقيات البحوث الطبية الإكلينيكية    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    حريق محدود يؤجل امتحانات مركز تقييم القدرات.. و«التنظيم والإدارة» يحدد مواعيد بديلة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    من أوائل الثانوية بمحافظة شمال سيناء.. وفاة الطالبة شروق المسلمانى    وزير الري: التكنولوجيا تلعب دورا محوريا في إدارة المياه والتنبؤ بمخاطر المناخ    الاقتصاد المصرى يتعافى    القبض على عاطل يدير ورشة لتصنيع الأسلحة البيضاء    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    محمود ناجي يدير مباراة السنغال وأوغندا في ربع نهائي أمم افريقيا للمحليين    ناشئو وناشئات الطائرة يتوجهون إلى تونس بحثًا عن التتويج الإفريقي    ناقد رياضي: بن رمضان اللاعب الأكثر ثباتًا في الأهلي.. ومواجهة المحلة صعبة    مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي يعلن لجنة تحكيم الدورة ال32    ثائرٌ يكتُب    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    الحبس عامين ل تارك صلاة الجمعة بماليزيا.. أحمد كريمة يوضح الرأي الشرعي    «التسامح والرضا».. وصفة للسعادة تدوم مدى الحياة    عائلات المحتجزين: ندعو لوقفة احتجاجية قبالة مقر نتنياهو    *لليوم الثاني.. خدمة Premium الجديدة بقطارات السكة الحديد "كاملة العدد"    دعمًا للأجيال الواعدة.. حماة الوطن يكرم أبطال «UC Math» في دمياط    تهيئة نفسية وروتين منظم.. نصائح هامة للأطفال قبل العودة إلى المدارس    غدًا.. إعلان نتيجة التقديم لرياض أطفال والصف الأول الابتدائي بالأزهر| الرابط هنا    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    صفات برج الأسد الخفية .. يجمع بين القوه والدراما    «خير يوم طلعت عليه الشمس».. تعرف على فضل يوم الجمعة والأعمال المستحبة فيه    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    جولة مفاجئة لوكيل مستشفى الفيوم العام لضمان جودة الخدمات الطبية.. صور    ضبط المتهمين بالتسول واستغلال الأطفال أسفل كوبري بالجيزة    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا يفعل أورويل في ضاحية بيروت الجنوبية؟
نشر في صوت البلد يوم 22 - 01 - 2017

يلفت في رواية «أورويل في الضاحية الجنوبية» للكاتب اللبناني فوزي ذبيان (دار الآداب،2017)، لغتُها المتعددة المستويات واستيحاؤها فئاتٍ بشرية مهمشة في بيروت، تعيش متوارية وراء العمارات العملاقة ومظاهر العيش المُترفة الزاعقة. وشكل بناء الرواية يصلُنا من خلال أربعٍ وأربعين فقرة أقرب ما تكون إلى شكل سيناريو سينمائي، يعتمد على مشاهد تصاحبُ الفعلَ والوصف وتستعمل الحوار بلغة الكلام المُتداولة في الضاحية الجنوبية، بما هي عليه من هجنةٍ تخلط الدارجة بالكلمات الإنكليزية، وتجعل السرد أفقياً يتمدّد ليلتقط تفاصيل الحياة لفئاتٍ تعيش في الهامش، وتتعيّش من خدمةِ مَنْ لهم إمكانات الإنفاق على ما يُعدّل المزاج ويؤمن بعض الحاجيات اليومية. بعبارة ثانية، لا تقوم الرواية على حِبْكة عمودية تنطوي على مفاجآت، وإنما هي بنية مفتوحة تتوخى الإطلالة على شرائح من هذه الفئات المهمشة التي تعمل لمصلحة مَنْ يملكون مشاريع لها علاقة بالخدمة العامة، مثل بيع المياه الصالحة للشرب، أو تأجير الأراكيل وتوصيلها إلى البيوت والدكاكين، أو بيع البيرة الحلال... والشخوص الأساسية التي تؤثث هذا الفضاء في أطراف الضاحية، هي من فئة شبانٍ يعملون في مثل هذه المهن الخدماتية التي لا تتوافر على أي ضمان اجتماعي أو حقوق ثابتة. ويحتل حمودي موقعاً بارزاً في النصّ، لأنه يعيش مع أمه العجوز بعد أن ماتت أخته العزيزة وتركت جرحاً غائراً في نفسه، وهو يسعى إلى أن يجد عملاً يخرجه من دائرة البؤس ويحقق من خلاله ما تطمح إليه نفسه الشابّة ... لكن مجموعة متنفذة أرغمته على ترك عمله في توزيع المياه الصالحة للشرب، فاضطرّ إلى الالتحاق بدائرة الحاجّ رضا صاحب مقهى تُؤجّر الأراكيل وتقدم خدمات أخرى غير منظورة.
وفي فضاء عمله الجديد، يلتقي حمودي بزملاء في الخدمة لهم ملامح مختلفة، وممارسات تتوخى نسيان الوضعية البائسة، والتهميش المطارد لهم. وإلى جانب الحاجّ رضا، هناك الريّس البنزاكسول المشرف على المقهى وتوزيع الشغل على الشبان، وتلقّي طلبات الزبائن. ومن حين لآخر، يلتئم الشبان العاملون في سهرة «عرمرمية» يتصدرها «أبو زهرة» ضيف الشرف الذي يُفيض في سرد أسراره الجنسية مع إيفا الأرتيرية، ويشجعهم على بلْع الأقراص المخدرة التي اخترعها حسن النووي... قد تبدو هذه المشاهد عادية ومألوفة بالنسبة إلى شبانٍ يعيشون على هامش المجتمع، لولا أنهم، هنا، يعيشون في الضاحية الجنوبية، وفي فضاء تحرسه عيون سماحة السيد وخُطبه النارية، وصور شهداء المقاومة: «بالإضافة إلى الصورة الضخمة لسماحة السيّد، والممتدة على طول أربعة طوابق في أحد الأبنية المتاخمة لمبنى حمودي، شدّت نظره أرتال صور الشهداء المعلقة على أعمدة الكهرباء. فهو حفِظ تقاسيمَ هذه الوجوه الجميلة وملامحها أكثر من وجهه هو، حتى إنه لطالما شاهد أصحاب هذه الوجوه في مناماته» ص.50.
هذا العنصر في تكوين الرواية، أي الفضاء الذي يُحيل على أجواء إيديولوجية معينة في لبنان، هو ما يعطي ل «أورويل في الضاحية الجنوبية» أبعاداً دلالية قائمة على المفارقة والتناقض، سنتوقف عندها بعد حين. ونجد أن الشخصيات كثيرة في الرواية؛ إلا أن الكاتب يرسمها باقتصاد وتركيز ليدفع القارئ إلى استكمالها، على نحو ما يطالعنا به عندما يتحدث عن «بتول» جارة حمودي ذات السلوك الغرائبي: «من يَرَ إلى بتول وهي تتكلم على التلفون يصدق أن كونداليسا رايسْ هي على الخط الآخر. ولا مرة كانت بتول منشغلة عبر اتصالاتها الهاتفية دون هذا المستوى العالمي، إنما فقط مع النساء. حتى إنها، في إحدى المرات، استعارت الهاتف وظلت حوالى الساعتيْن تحادث أنجيلا ميركيل بأمرٍ مّا». ص. 33. لكن «حمودي» يستأثر باهتمامنا لأنه يظل من بداية الرواية إلى نهايتها، حاضناً لجُرحه السرّي المتصل بفقدان أخته «آلاء» أولاً، ثم موت جارته بتول برصاصة طائشة. وهذا ما يبرر الفقرات المكثفة ذات اللغة الشعرية في النص، كلما تعلق الأمر باستحضار الأخت في ذاكرة حمودي من خلال ما كانت تكتبه: «لم أشرّع أبوابي يوماً إلا أمام عيْنيكَ...أعذر كآبتي ومسَّ الجنون. وإذا ضحكتَ في العشايا لا تخبئ بين كفيْكَ ابتسامة تشبه البدايات المباغتة، ابتسامة تشبه أسعد النهايات». ص61.
عنفٌ مستتر وَمكشوف
يبدو جلياً، بعد إبراز طريقة السرد السينمائي وعناصر الشكل القائم على المشهدية والشخوص المنتسبة إلى فئات مُهمشة داخل فضاء إيديولوجي مُهيمِن، وتناقض سلوكِ الشخصيات مع أخلاق ومبادئ سدنةِ الضاحية الغربية، أن عنصر المُفارقة والتناقض يضيء تأويل الدلالة في الرواية. وإذا كان العنوان يُخصص الضاحية الجنوبية من بيروت، فإن الدلالة لا تستقيم من دون استحضار الكليّة المجتمعية التي ينتسب إليها الجزء المقتطَع، المُوظف في التمثيل الروائي. من هذه الزاوية، نسجل أن سيطرة الإيديولوجيات الطائفية سمة ٌعامة في لبنان، ضمن نظام سياسي يدّعي الديموقراطية وينتحل مظاهرها.
والمفارقة بارزة داخل كل طائفة، بين النخَب القيادية وعامة المواطنين المنضوين ضمن الطائفة. ولعل التناقض هو أوضح في الضاحية الجنوبية لأن المرجعية الدينية الداعمة للخطاب الإيديولوجي تتطلع إلى الشمولية المتخطية للقطر أو البلد الواحد. ومن ثم، تبدو لنا شخوص «أورويل في الضاحية الجنوبية» كاشفة لتناقضٍ مزدوج: العنف الذي يخضع له أتباع الطائفة/الإيديولوجية من خلال الخُطب والصور والتأطير السياسي الأحادي. وفي المقابل هناك عنف مكشوف يتمثل في نوعية الاستغلال الذي يمارَس على نماذج من الفئات المهمشة التي لا تستطيع أن تكسب عيشها في شروط تحفظ الكرامة، فتتظاهر بالانتماء إلى مبادئ الطائفة المهيمنة، فيما هي تمارس سلوكاً مخالفاً للتعاليم الإيديولوجية السائدة: «ثمة على جدران المحلّ الكثير من الصور والعبارات التي تحثّ على الصبر والتواضع، بالإضافة إلى بيْتيْن من الشعر للإمام عليّ، علقهما الحاجّ رضا على الجدار المواجه لمكتبه فوق مدخل المحل بالتحديد: السيف والخنجر ريْحاننا/ أفٍ على النرجس والآسِ / شرابنا من دم أعدائنا/ وكأسنا جمجمة الراسِ» ص 75. لكن هؤلاء الشبان المحاصرين داخل سياج الوعظ والإرشاد، لا يترددون في انتهاك التعاليم عندما تستبد بهم شهوة الحياة، فنجد حمودي ينقاد إلى مشاهدة أفلام الجنس التي أعطاها له صديقه شادي، ونجد الشلة في سهرتها تقبل على الشرب والمخدرات لتحمّلِ وطأة التهميش وأخطار البطالة التي تتهدّدهم في كل حين. وهو ما نجد له تعبيراً قوياً وجميلاً في نهاية الرواية، بعد سهرة شبان المقهى ووُرودِ خبرٍ عن توقف الشغل في دائرة الأراكيل لمدة ستة أشهر: « ...ساد الصمت في الغرفة إلا من بعض النهنهات التي كان كل واحد من الأولاد يحاول كتمها على طريقته الخاصة ويفشل ... خالطتْ ابتساماتهم الدموعُ وقد تواطأ كل منهم أن يستقبل دموع الآخر بدون أن ينبس بحرف» ص 140.
لقد استطاعتْ «أورويل في الضاحية الجنوبية»، إلى جانب تمثيل حيواتِ مهمشين غائصين في تناقضات الواقع والإيديولوجيا، في شكل روائي تجريبي له جماليته، أن تقدم في الآن نفسه، نوعاً من الشهادة عن فئات واسعة من المجتمع اللبناني، مُصادَري الصوت والحقوق، وذلك من خلال لغة تمتح من معجم هجين ينطوي على أبعاد فكرية وشعورية كاشفة لوجود أولائك المتروكين على الحساب. ومن هذا المنظور، تندرج رواية فوزي ذبيان ضمن إبداع الروائيين العرب الشباب الذين يستوحون الواقع المتردّي المطبوع بالعنف والإرهاب والصخب الإيديولوجي العقيم.
يلفت في رواية «أورويل في الضاحية الجنوبية» للكاتب اللبناني فوزي ذبيان (دار الآداب،2017)، لغتُها المتعددة المستويات واستيحاؤها فئاتٍ بشرية مهمشة في بيروت، تعيش متوارية وراء العمارات العملاقة ومظاهر العيش المُترفة الزاعقة. وشكل بناء الرواية يصلُنا من خلال أربعٍ وأربعين فقرة أقرب ما تكون إلى شكل سيناريو سينمائي، يعتمد على مشاهد تصاحبُ الفعلَ والوصف وتستعمل الحوار بلغة الكلام المُتداولة في الضاحية الجنوبية، بما هي عليه من هجنةٍ تخلط الدارجة بالكلمات الإنكليزية، وتجعل السرد أفقياً يتمدّد ليلتقط تفاصيل الحياة لفئاتٍ تعيش في الهامش، وتتعيّش من خدمةِ مَنْ لهم إمكانات الإنفاق على ما يُعدّل المزاج ويؤمن بعض الحاجيات اليومية. بعبارة ثانية، لا تقوم الرواية على حِبْكة عمودية تنطوي على مفاجآت، وإنما هي بنية مفتوحة تتوخى الإطلالة على شرائح من هذه الفئات المهمشة التي تعمل لمصلحة مَنْ يملكون مشاريع لها علاقة بالخدمة العامة، مثل بيع المياه الصالحة للشرب، أو تأجير الأراكيل وتوصيلها إلى البيوت والدكاكين، أو بيع البيرة الحلال... والشخوص الأساسية التي تؤثث هذا الفضاء في أطراف الضاحية، هي من فئة شبانٍ يعملون في مثل هذه المهن الخدماتية التي لا تتوافر على أي ضمان اجتماعي أو حقوق ثابتة. ويحتل حمودي موقعاً بارزاً في النصّ، لأنه يعيش مع أمه العجوز بعد أن ماتت أخته العزيزة وتركت جرحاً غائراً في نفسه، وهو يسعى إلى أن يجد عملاً يخرجه من دائرة البؤس ويحقق من خلاله ما تطمح إليه نفسه الشابّة ... لكن مجموعة متنفذة أرغمته على ترك عمله في توزيع المياه الصالحة للشرب، فاضطرّ إلى الالتحاق بدائرة الحاجّ رضا صاحب مقهى تُؤجّر الأراكيل وتقدم خدمات أخرى غير منظورة.
وفي فضاء عمله الجديد، يلتقي حمودي بزملاء في الخدمة لهم ملامح مختلفة، وممارسات تتوخى نسيان الوضعية البائسة، والتهميش المطارد لهم. وإلى جانب الحاجّ رضا، هناك الريّس البنزاكسول المشرف على المقهى وتوزيع الشغل على الشبان، وتلقّي طلبات الزبائن. ومن حين لآخر، يلتئم الشبان العاملون في سهرة «عرمرمية» يتصدرها «أبو زهرة» ضيف الشرف الذي يُفيض في سرد أسراره الجنسية مع إيفا الأرتيرية، ويشجعهم على بلْع الأقراص المخدرة التي اخترعها حسن النووي... قد تبدو هذه المشاهد عادية ومألوفة بالنسبة إلى شبانٍ يعيشون على هامش المجتمع، لولا أنهم، هنا، يعيشون في الضاحية الجنوبية، وفي فضاء تحرسه عيون سماحة السيد وخُطبه النارية، وصور شهداء المقاومة: «بالإضافة إلى الصورة الضخمة لسماحة السيّد، والممتدة على طول أربعة طوابق في أحد الأبنية المتاخمة لمبنى حمودي، شدّت نظره أرتال صور الشهداء المعلقة على أعمدة الكهرباء. فهو حفِظ تقاسيمَ هذه الوجوه الجميلة وملامحها أكثر من وجهه هو، حتى إنه لطالما شاهد أصحاب هذه الوجوه في مناماته» ص.50.
هذا العنصر في تكوين الرواية، أي الفضاء الذي يُحيل على أجواء إيديولوجية معينة في لبنان، هو ما يعطي ل «أورويل في الضاحية الجنوبية» أبعاداً دلالية قائمة على المفارقة والتناقض، سنتوقف عندها بعد حين. ونجد أن الشخصيات كثيرة في الرواية؛ إلا أن الكاتب يرسمها باقتصاد وتركيز ليدفع القارئ إلى استكمالها، على نحو ما يطالعنا به عندما يتحدث عن «بتول» جارة حمودي ذات السلوك الغرائبي: «من يَرَ إلى بتول وهي تتكلم على التلفون يصدق أن كونداليسا رايسْ هي على الخط الآخر. ولا مرة كانت بتول منشغلة عبر اتصالاتها الهاتفية دون هذا المستوى العالمي، إنما فقط مع النساء. حتى إنها، في إحدى المرات، استعارت الهاتف وظلت حوالى الساعتيْن تحادث أنجيلا ميركيل بأمرٍ مّا». ص. 33. لكن «حمودي» يستأثر باهتمامنا لأنه يظل من بداية الرواية إلى نهايتها، حاضناً لجُرحه السرّي المتصل بفقدان أخته «آلاء» أولاً، ثم موت جارته بتول برصاصة طائشة. وهذا ما يبرر الفقرات المكثفة ذات اللغة الشعرية في النص، كلما تعلق الأمر باستحضار الأخت في ذاكرة حمودي من خلال ما كانت تكتبه: «لم أشرّع أبوابي يوماً إلا أمام عيْنيكَ...أعذر كآبتي ومسَّ الجنون. وإذا ضحكتَ في العشايا لا تخبئ بين كفيْكَ ابتسامة تشبه البدايات المباغتة، ابتسامة تشبه أسعد النهايات». ص61.
عنفٌ مستتر وَمكشوف
يبدو جلياً، بعد إبراز طريقة السرد السينمائي وعناصر الشكل القائم على المشهدية والشخوص المنتسبة إلى فئات مُهمشة داخل فضاء إيديولوجي مُهيمِن، وتناقض سلوكِ الشخصيات مع أخلاق ومبادئ سدنةِ الضاحية الغربية، أن عنصر المُفارقة والتناقض يضيء تأويل الدلالة في الرواية. وإذا كان العنوان يُخصص الضاحية الجنوبية من بيروت، فإن الدلالة لا تستقيم من دون استحضار الكليّة المجتمعية التي ينتسب إليها الجزء المقتطَع، المُوظف في التمثيل الروائي. من هذه الزاوية، نسجل أن سيطرة الإيديولوجيات الطائفية سمة ٌعامة في لبنان، ضمن نظام سياسي يدّعي الديموقراطية وينتحل مظاهرها.
والمفارقة بارزة داخل كل طائفة، بين النخَب القيادية وعامة المواطنين المنضوين ضمن الطائفة. ولعل التناقض هو أوضح في الضاحية الجنوبية لأن المرجعية الدينية الداعمة للخطاب الإيديولوجي تتطلع إلى الشمولية المتخطية للقطر أو البلد الواحد. ومن ثم، تبدو لنا شخوص «أورويل في الضاحية الجنوبية» كاشفة لتناقضٍ مزدوج: العنف الذي يخضع له أتباع الطائفة/الإيديولوجية من خلال الخُطب والصور والتأطير السياسي الأحادي. وفي المقابل هناك عنف مكشوف يتمثل في نوعية الاستغلال الذي يمارَس على نماذج من الفئات المهمشة التي لا تستطيع أن تكسب عيشها في شروط تحفظ الكرامة، فتتظاهر بالانتماء إلى مبادئ الطائفة المهيمنة، فيما هي تمارس سلوكاً مخالفاً للتعاليم الإيديولوجية السائدة: «ثمة على جدران المحلّ الكثير من الصور والعبارات التي تحثّ على الصبر والتواضع، بالإضافة إلى بيْتيْن من الشعر للإمام عليّ، علقهما الحاجّ رضا على الجدار المواجه لمكتبه فوق مدخل المحل بالتحديد: السيف والخنجر ريْحاننا/ أفٍ على النرجس والآسِ / شرابنا من دم أعدائنا/ وكأسنا جمجمة الراسِ» ص 75. لكن هؤلاء الشبان المحاصرين داخل سياج الوعظ والإرشاد، لا يترددون في انتهاك التعاليم عندما تستبد بهم شهوة الحياة، فنجد حمودي ينقاد إلى مشاهدة أفلام الجنس التي أعطاها له صديقه شادي، ونجد الشلة في سهرتها تقبل على الشرب والمخدرات لتحمّلِ وطأة التهميش وأخطار البطالة التي تتهدّدهم في كل حين. وهو ما نجد له تعبيراً قوياً وجميلاً في نهاية الرواية، بعد سهرة شبان المقهى ووُرودِ خبرٍ عن توقف الشغل في دائرة الأراكيل لمدة ستة أشهر: « ...ساد الصمت في الغرفة إلا من بعض النهنهات التي كان كل واحد من الأولاد يحاول كتمها على طريقته الخاصة ويفشل ... خالطتْ ابتساماتهم الدموعُ وقد تواطأ كل منهم أن يستقبل دموع الآخر بدون أن ينبس بحرف» ص 140.
لقد استطاعتْ «أورويل في الضاحية الجنوبية»، إلى جانب تمثيل حيواتِ مهمشين غائصين في تناقضات الواقع والإيديولوجيا، في شكل روائي تجريبي له جماليته، أن تقدم في الآن نفسه، نوعاً من الشهادة عن فئات واسعة من المجتمع اللبناني، مُصادَري الصوت والحقوق، وذلك من خلال لغة تمتح من معجم هجين ينطوي على أبعاد فكرية وشعورية كاشفة لوجود أولائك المتروكين على الحساب. ومن هذا المنظور، تندرج رواية فوزي ذبيان ضمن إبداع الروائيين العرب الشباب الذين يستوحون الواقع المتردّي المطبوع بالعنف والإرهاب والصخب الإيديولوجي العقيم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.