وزير قطاع الأعمال العام: عودة منتجات «النصر للسيارات» للميني باص المصري بنسبة مكون محلي 70%    رغم التأكيد أنه لن يغادر بلاده، دولة تعلن استعدادها لمنح اللجوء السياسي للرئيس الفنزويلي    بعد حادث حاويات قطار طوخ، مواعيد قطارات «القاهرة – الإسكندرية» اليوم الثلاثاء 16 ديسمبر 2025    جولة صباحية حول حالة الطقس وتحذيرات الأرصاد وحقيقة تعطيل الدراسة.. فيديو    3 ظواهر جوية تضرب المحافظات.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء    قاتل النساء الصامت.. RSV الخطر الذي يهدد حياة الرضع    حورية فرغلي: لسه بعاني من سحر أسود وبتكلم مع ربنا كتير    محمد القس: أحمد السقا أجدع فنان.. ونفسي اشتغل مع منى زكي    جلال برجس: الرواية أقوى من الخطاب المباشر وتصل حيث تعجز السياسة    حورية فرغلي: بقضي وقتي مع الحيوانات ومبقتش بثق في حد    وكيل صحة الغربية يعلن افتتاح وحدة التصلب المتعدد والسكتة الدماغية بمستشفى طنطا العام    وفاة شخص وإصابة شقيقه في مشاجرة بالغربية    تأجيل محاكمة 9 متهمين بخلية المطرية    ترامب يعلن مادة الفينتانيل المخدرة «سلاح دمار شامل»    مباراة ال 8 أهداف.. بورنموث يفرض تعادلا مثيرا على مانشستر يونايتد    لإجراء الصيانة.. انقطاع التيار الكهربائي عن 21 قرية في كفر الشيخ    أيامى فى المدينة الجامعية: عن الاغتراب وشبح الخوف!    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الثلاثاء 16 ديسمبر    توسك: التنازلات الإقليمية لأوكرانيا شرط أمريكي لاتفاق السلام    لقاح الإنفلونزا.. درع الوقاية للفئات الأكثر عرضة لمضاعفات الشتاء    إنقاذ قلب مريض بدسوق العام.. تركيب دعامتين دوائيتين ينهي معاناة 67 عامًا من ضيق الشرايين    ثماني دول أوروبية تناقش تعزيز الدفاعات على الحدود مع روسيا    «المؤشر العالمي للفتوى» يناقش دور الإفتاء في مواجهة السيولة الأخلاقية وتعزيز الأمن الفكري    العربية لحقوق الإنسان والمفوضية تدشنان حوارا إقليميا لإنشاء شبكة خبراء عرب    5 أعشاب تخلصك من احتباس السوائل بالجسم    تحطم زجاج سيارة ملاكي إثر انهيار شرفة عقار في الإسكندرية    مقتل شاب وإصابة شقيقه فى مشاجرة بالغربية    الكونغو: سجن زعيم المتمردين السابق لومبالا 30 عامًا لارتكابه فظائع    محافظ القليوبية ومدير الأمن يتابعان حادث تساقط حاويات من قطار بضائع بطوخ    نهائي كأس العرب 2025.. موعد مباراة المغرب ضد الأردن والقنوات الناقلة    كأس العرب، حارس مرمى منتخب الأردن بعد إقصاء السعودية لسالم الدوسري: التواضع مطلوب    التموين تواصل افتتاح أسواق اليوم الواحد بالقاهرة.. سوق جديد بالمرج لتوفير السلع    منذر رياحنة يوقّع ختام «كرامة» ببصمته... قيادة تحكيمية أعادت الاعتبار للسينما الإنسانية    إبراهيم المعلم: الثقافة بمصر تشهد حالة من المد والجزر.. ولم أتحول إلى رقيب ذاتي في النشر    نقيب أطباء الأسنان يحذر من زيادة أعداد الخريجين: المسجلون بالنقابة 115 ألفا    مصرع طفلين وإصابة 4 أشخاص على الأقل فى انفجار بمبنى سكنى فى فرنسا    شيخ الأزهر يهنئ ملك البحرين باليوم الوطني ال54 ويشيد بنموذجها في التعايش والحوار    فتش عن الإمارات .. حملة لليمينيين تهاجم رئيس وزراء كندا لرفضه تصنيف الإخوان كمنظمة إرهابية    لجنة فنية للتأكد من السلامة الإنشائية للعقارات بموقع حادث سقوط حاويات فارغة من على قطار بطوخ    منتدى «السياحة والآثار» وTripAdvisor يناقشان اتجاهات السياحة العالمية ويبرزان تنوّع التجربة السياحية المصرية    في جولة ليلية.. محافظ الغربية يتفقد رصف شارع سيدي محمد ومشروعات الصرف بسمنود    محافظ الجيزة يتابع تنفيذ تعديلات مرورية بشارع العروبة بالطالبية لتيسير الحركة المرورية    العمل: طفرة في طلب العمالة المصرية بالخارج وإجراءات حماية من الشركات الوهمية    الثلاثاء إعادة 55 دائرة فى «ثانية نواب» |139 مقرًا انتخابيًا بالسفارات فى 117 دولة.. وتصويت الداخل غدًا    حضور ثقافي وفني بارز في عزاء الناشر محمد هاشم بمسجد عمر مكرم    غزل المحلة يطلب ضم ناصر منسى من الزمالك فى يناير    السعودية تودع كأس العرب دون الحفاظ على شباك نظيفة    حسام البدرى: من الوارد تواجد أفشة مع أهلى طرابلس.. والعميد يحظى بدعم كبير    الأهلى يوافق على عرض إشتوريل برايا البرتغالى لضم محمد هيثم    الأمر سيصعب على برشلونة؟ مدرب جوادلاخارا: عشب ملعبنا ليس الأفضل    هل الزيادة في الشراء بالتقسيط تُعد فائدة ربوية؟.. "الإفتاء" تُجيب    الإدارية العليا ترفض الطعون المقدمة في بطلان الدوائر الانتخابية في قنا    اللمسة «الخبيثة» | «لا للتحرش.. بيئة مدرسية آمنة» حملات توعية بالإسكندرية    كيف أرشد الإسلام لأهمية اختيار الصديق؟ الأزهر للفتوي يوضح    وزير التعليم: تطوير شامل للمناهج من رياض الأطفال حتى الصف الثاني الثانوي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 15-12-2025 في محافظة قنا    الأزهر يدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف تجمعًا لأستراليين يهود ويؤكد رفضه الكامل لاستهداف المدنيين    حُسن الخاتمة.. مفتش تموين يلقى ربه ساجدًا في صلاة العشاء بالإسماعيلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«همس» خالد عاشور: قصص مُعذَّبة بالنَّسق وطقوسه
نشر في صوت البلد يوم 20 - 09 - 2016

عندما قرأت مجموعة خالد عاشور القصصية الموسومة ب«همس» والصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تبدّدت عندي صورةُ وهمٍ قديم يقول إنّ نجيب محفوظ قد حلب المدينةَ المصرية واستقطر شوارعَها من كلّ تفاصيلها وأحداثها ولم يُبق للكُتّاب من بعده إلاّ قشورا لا تُسمن التخييل. ذلك أن خالد عاشور قد كشف عن عبقرية المعيش المصريّ السردية، وأكّد على مدار خمس عشرة قصة قصيرة أنه يتكئ على تلك العبقرية لكتابة قصّة لا يهدأ صراعها مع ذاتها ومع أنظمة النَّفيِ الرسمية، إنها قصةٌ ولاّدةُ دَلالات لا يظفر منها القارئ بيقين ولا يبلغ فيها كلَّ حمولتها السياسية والاجتماعية، وتلك لذاذتها. أبطال تحرّروا من ثقل أسمائهم، تروي سيرتهم قصصٌ لها طاقة على الحركة كبيرة حرّرت فيها كلّ إمكانات الكتابة الوَجَعيّة الساخرة، وذاك أسلوبها. إنها مشهديات مكتظة بصنوف من الحياة المغموسة في الصّمت، بل هي صدى لتأوّه روحٍ تُجبَرُ على فقدِ معناها، روح لها وعيٌ معذَّب بالنَّسق وطقوسه، إنها باختصار كتابة مُضادّة لثقافة الرتابة وثقافة المحوِ.
اسمُ العَلَمِ هو المَحْوُ. إنه عبء يحمله الكائن المسمّى به، بل هو لعنة اعتباطية تحل عليه لتُلغي حضوره الماديّ، الاسمُ ضدّ الحضور، إنه مكرٌ بالكيان وعَزْله. قد نستفيد في تأكيد هذا الرأي من السيميائية حين تُعلن أن وجود اسم العلم في الخطاب يدلّ على غياب المسمّى به جسدًا وأحوالاً، بل إنّ الكائن واسمه لا يجتمعان إلاّ بسُلطان حرف النداء أو اسم الإشارة على غرار «يا خالد» (نستعملها عندما ننادي كائنا أمامنا) أو «هذا خالد» (ونشير بها إلى كائن حاضر بيننا)، علما أنّ في الإشارة والنداء ضربًا من الغفلة التي تُخيّم على وجود الكائن المخصوص بهما، وهي غفلة تشبه الغياب، وهو غياب استفادت منه شخصيات قصص خالد عاشور، حيث تحرّرت من سلطة أسمائها وحضرت في السرد، عبر عين السارد، ممتلئة بكياناتها وأحلامها وأوهامها. وإذا ذهبنا مذهب جون ستيوارت ميل، قلنا إن اسم العلم يدلّ على المسمّى ولا يُحيل إلى ما نحمل عنه من تصوّرات ومعارف داخل مجموعته الاجتماعية. فاسم «خالد» مثلا لا يحمل شيئا من أحوال المواطن المصري الذي نشر مجموعة قصصية بعنوان «همس» وإنما هو لفظ معلّق بكيانه ينوب عنه إذا غاب. يحضر الاسم فيغيب المُسمّى. ويحضر المسمّى فلا نحتاج معه إلى الاسم. ويبدو أن قصص خالد عاشور اختارت أن تتحرّك داخل منطقة تصوّراتنا عن الكائن دون اسمه، وبنت شخصياتها خارج أفق أسمائها الرسمية، أي خارج سجونِ تعيينها، لكأنها مارست محوًا مضادًّا: محو سلطةِ الاسم ومكرِه لتُفسح في المجال لسلطة المُسمّى ليكون خير الماكرين. وصورةُ ذلك أن شخصيات القصص وردت بلا أسماء عدا اثنتيْن نجدهما في قصّتيْ «الخالة قمر» و«غرفة سلمى»، حيث نتبيّن أنّ حضور اسم الشخصية في الحكي ساهم في اضمحلال كيانها الاجتماعي، ذلك أنّ القصة الأولى انتهت بموت «قمر»، وآلت الثانية إلى عزلة «سلمى» وهروبها من الناس.
ومن الوجيه القول إن تحرير خالد عاشور لأبطال قصصه من عبء أسمائهم مثّل بالنسبة إليه تقنية سردية لاذ بها سبيلا إلى تحقيق هدفيْن: أولهما تأكيد شيوع الحالة المحكية في واقع الناس من دون اقتصارها على شخصية مفردة لها اسم يُعيّنها، وثانيهما سهولة النفاذ إلى الهامش المصري واستدراج كائناته لتتجلّى في قصصه بكلّ أتربة تفاصيلها بعيدا عن مكرِ اليافطات الرسميّة النظيفة، فإذا هو فضاءُ عتمةٍ يهيج فيه الوجع الإنسانيّ في صمت، وهو ما حفز كلّ شخصية لأنْ تنفجر في الحكاية بتفاصيلها وأسرارها انفجارا محمولا في دراماتورجيا سردية امتزجت فيها، بمهارة فنية عالية، حالُ المكان بأحوال الشخصية وبزمن انفعالها وبأسئلة الراوي امتزاجا مكتظًّا بالوجع ومكتظًّا بالسخرية في الآن نفسه.
ومن أجلى صور ذلك أن بطلة قصّة «همس» عاشت حياتها الزوجية في الظلمة والصمت، ولما أرادت الخروج على سلطة الصمت ماتت مظلومة. فقد كان زوجها يأتي «في الظلام يبحث عنها، ككلّ يوم يبحث عنها، يعرف مكانها وماذا سيفعل بالضبط من دون صوت، فالليل سكون، وفي السكون يكون للهمس صدى وهي تخشى أن يسمعها أحد وهي تمارس معه شرع الله»، غير أنّ سؤالا ظلّ يلحّ عليها: «لماذا لا تتكلّم وتصارحه ذات مرّة أنها ملّت ذلك الصمت وهو يفعل معها شرع الله؟». ولأن السؤال فكرة، والفكرة مثل «شرع الله» لا تُنجز إلا في الصمت وفي السرِّ معا، وجدت هذه الزوجة في الشاب الأعزب ساكن الدّور الثالث من العمارة كائنا يسمع فكرتها، ويبيح لها أن تُعلنها خارج الصمت، ومن ثمة «لم تتحمّل العودة إلى الهمس فصعدت بإرادتها لتعلن بداخلها نهاية الهمس بلا رجعة» ومعه أيضا «أعلنت ثورتها على الهمس وراحت تتأوّه معلنة نهاية زمن الهمس، وغابت عن الوعي». وما كان لثورتها على الهمس أن تتحقّق من دون خسائر، إذْ في نزولها إلى بيتها تنبّه زوجها لعلاقتها بساكن الدور الثالث، و«للمرة الأولى تخرج عن الهمس حين أطبق على رقبتها بيديْه، فارتفع صراخها» «غير أن صرخاتها وآهاتها تضعف حتى تتحوّل إلى همس كلما اشتدّ بقبضته أكثر، وفي همس أيضا تسكن أنفاسها وتتوقف، فقط في همس». والمائز الفنيّ في سرد هذه القصة هو نهوضها على حركتيْن: حركة الصعود إلى اللذّة، وحركة النزول إلى المنع، بل قل حركة الحياة في الضوء وحركة الموت في الظلمة.
ولئن أخلص موضوع هذه القصّة غايتَه لكشف سلطة التقاليد وأوجاعها التي تخز باستمرار جسد العلائق الاجتماعية فإن باقي قصص خالد درويش راوحت في محكياتها بين توصيف الواقع والسخرية من فوضاه ومن ارتباك مؤسّساته على غرار قصص «نظام» و«الحارس» و«غرفة سلمى» وخاصة قصة «الإمام» التي يذكر فيها الراوي أن بطلها أزهريٌّ خرّيجُ قسم الفلسفة، تمّ تعيينه بالصدفة ليؤمّ الناس بالمسجد من دون النظر إلى سواء سيرته الاجتماعية، فكان كلّما صعد درجة من درجات المنبر ليخطب فيهم تذكّر ملمحا من ملامح فساد تاريخه الشخصي، ففي الدرجة الأولى تذكّر «تلصّصه على الجارات عبر النوافذ»، وفي الثانية عادات به ذاكرته إلى فترة المراهقة حيث اكتشف العادة السرية، وفي الثالثة يعرّفنا أنه كان مولعا بمجلات الجنس حتى سمّاه زملاؤه الطلبة «الشيخ سكس»، وفي الدرجة الرابعة يذكر أن «أحلامه في تدريس الفلسفة تبخّرت، أخبروه أن إيمانه بالفلسفة سيورثه الكفر»، وفي الدرجة الخامسة يعترف بأنّ «فاقد الشيء لا يعطيه»، ولما وصل إلى المنبر ونظر إلى المصلّين أمامه، خشي أن يكون «من بينهم زوج لإحدى عشيقاته»، ولكنه مع ذلك راح يخطب في الناس قائلا: «أيها الناس اتقوا ربَّكم» وكان الصوتُ صوتَه.
ويبدو أنه عدا قصص «عصفوران» و«قهوة والي» و«الخبر» و«الرئيس» التي بدت لي ضعيفة البناء الفني وتغلب عليها التقريريّة تمكّن خالد عاشور من خلق عالم قصصي جدير بمكانه وزمانه وحال قارئه، وقد أجاد استثمار تقنيات سرديّة عديدة لعلّ منها التكرار (قصة: همس) وتفصيح اللهجة الدارجة، وتنويع زوايا النظر إلى المشهد المحكي، وهو ما منح قصصه ديناميةً ثرّةَ الإحالات والأسئلة.
عندما قرأت مجموعة خالد عاشور القصصية الموسومة ب«همس» والصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تبدّدت عندي صورةُ وهمٍ قديم يقول إنّ نجيب محفوظ قد حلب المدينةَ المصرية واستقطر شوارعَها من كلّ تفاصيلها وأحداثها ولم يُبق للكُتّاب من بعده إلاّ قشورا لا تُسمن التخييل. ذلك أن خالد عاشور قد كشف عن عبقرية المعيش المصريّ السردية، وأكّد على مدار خمس عشرة قصة قصيرة أنه يتكئ على تلك العبقرية لكتابة قصّة لا يهدأ صراعها مع ذاتها ومع أنظمة النَّفيِ الرسمية، إنها قصةٌ ولاّدةُ دَلالات لا يظفر منها القارئ بيقين ولا يبلغ فيها كلَّ حمولتها السياسية والاجتماعية، وتلك لذاذتها. أبطال تحرّروا من ثقل أسمائهم، تروي سيرتهم قصصٌ لها طاقة على الحركة كبيرة حرّرت فيها كلّ إمكانات الكتابة الوَجَعيّة الساخرة، وذاك أسلوبها. إنها مشهديات مكتظة بصنوف من الحياة المغموسة في الصّمت، بل هي صدى لتأوّه روحٍ تُجبَرُ على فقدِ معناها، روح لها وعيٌ معذَّب بالنَّسق وطقوسه، إنها باختصار كتابة مُضادّة لثقافة الرتابة وثقافة المحوِ.
اسمُ العَلَمِ هو المَحْوُ. إنه عبء يحمله الكائن المسمّى به، بل هو لعنة اعتباطية تحل عليه لتُلغي حضوره الماديّ، الاسمُ ضدّ الحضور، إنه مكرٌ بالكيان وعَزْله. قد نستفيد في تأكيد هذا الرأي من السيميائية حين تُعلن أن وجود اسم العلم في الخطاب يدلّ على غياب المسمّى به جسدًا وأحوالاً، بل إنّ الكائن واسمه لا يجتمعان إلاّ بسُلطان حرف النداء أو اسم الإشارة على غرار «يا خالد» (نستعملها عندما ننادي كائنا أمامنا) أو «هذا خالد» (ونشير بها إلى كائن حاضر بيننا)، علما أنّ في الإشارة والنداء ضربًا من الغفلة التي تُخيّم على وجود الكائن المخصوص بهما، وهي غفلة تشبه الغياب، وهو غياب استفادت منه شخصيات قصص خالد عاشور، حيث تحرّرت من سلطة أسمائها وحضرت في السرد، عبر عين السارد، ممتلئة بكياناتها وأحلامها وأوهامها. وإذا ذهبنا مذهب جون ستيوارت ميل، قلنا إن اسم العلم يدلّ على المسمّى ولا يُحيل إلى ما نحمل عنه من تصوّرات ومعارف داخل مجموعته الاجتماعية. فاسم «خالد» مثلا لا يحمل شيئا من أحوال المواطن المصري الذي نشر مجموعة قصصية بعنوان «همس» وإنما هو لفظ معلّق بكيانه ينوب عنه إذا غاب. يحضر الاسم فيغيب المُسمّى. ويحضر المسمّى فلا نحتاج معه إلى الاسم. ويبدو أن قصص خالد عاشور اختارت أن تتحرّك داخل منطقة تصوّراتنا عن الكائن دون اسمه، وبنت شخصياتها خارج أفق أسمائها الرسمية، أي خارج سجونِ تعيينها، لكأنها مارست محوًا مضادًّا: محو سلطةِ الاسم ومكرِه لتُفسح في المجال لسلطة المُسمّى ليكون خير الماكرين. وصورةُ ذلك أن شخصيات القصص وردت بلا أسماء عدا اثنتيْن نجدهما في قصّتيْ «الخالة قمر» و«غرفة سلمى»، حيث نتبيّن أنّ حضور اسم الشخصية في الحكي ساهم في اضمحلال كيانها الاجتماعي، ذلك أنّ القصة الأولى انتهت بموت «قمر»، وآلت الثانية إلى عزلة «سلمى» وهروبها من الناس.
ومن الوجيه القول إن تحرير خالد عاشور لأبطال قصصه من عبء أسمائهم مثّل بالنسبة إليه تقنية سردية لاذ بها سبيلا إلى تحقيق هدفيْن: أولهما تأكيد شيوع الحالة المحكية في واقع الناس من دون اقتصارها على شخصية مفردة لها اسم يُعيّنها، وثانيهما سهولة النفاذ إلى الهامش المصري واستدراج كائناته لتتجلّى في قصصه بكلّ أتربة تفاصيلها بعيدا عن مكرِ اليافطات الرسميّة النظيفة، فإذا هو فضاءُ عتمةٍ يهيج فيه الوجع الإنسانيّ في صمت، وهو ما حفز كلّ شخصية لأنْ تنفجر في الحكاية بتفاصيلها وأسرارها انفجارا محمولا في دراماتورجيا سردية امتزجت فيها، بمهارة فنية عالية، حالُ المكان بأحوال الشخصية وبزمن انفعالها وبأسئلة الراوي امتزاجا مكتظًّا بالوجع ومكتظًّا بالسخرية في الآن نفسه.
ومن أجلى صور ذلك أن بطلة قصّة «همس» عاشت حياتها الزوجية في الظلمة والصمت، ولما أرادت الخروج على سلطة الصمت ماتت مظلومة. فقد كان زوجها يأتي «في الظلام يبحث عنها، ككلّ يوم يبحث عنها، يعرف مكانها وماذا سيفعل بالضبط من دون صوت، فالليل سكون، وفي السكون يكون للهمس صدى وهي تخشى أن يسمعها أحد وهي تمارس معه شرع الله»، غير أنّ سؤالا ظلّ يلحّ عليها: «لماذا لا تتكلّم وتصارحه ذات مرّة أنها ملّت ذلك الصمت وهو يفعل معها شرع الله؟». ولأن السؤال فكرة، والفكرة مثل «شرع الله» لا تُنجز إلا في الصمت وفي السرِّ معا، وجدت هذه الزوجة في الشاب الأعزب ساكن الدّور الثالث من العمارة كائنا يسمع فكرتها، ويبيح لها أن تُعلنها خارج الصمت، ومن ثمة «لم تتحمّل العودة إلى الهمس فصعدت بإرادتها لتعلن بداخلها نهاية الهمس بلا رجعة» ومعه أيضا «أعلنت ثورتها على الهمس وراحت تتأوّه معلنة نهاية زمن الهمس، وغابت عن الوعي». وما كان لثورتها على الهمس أن تتحقّق من دون خسائر، إذْ في نزولها إلى بيتها تنبّه زوجها لعلاقتها بساكن الدور الثالث، و«للمرة الأولى تخرج عن الهمس حين أطبق على رقبتها بيديْه، فارتفع صراخها» «غير أن صرخاتها وآهاتها تضعف حتى تتحوّل إلى همس كلما اشتدّ بقبضته أكثر، وفي همس أيضا تسكن أنفاسها وتتوقف، فقط في همس». والمائز الفنيّ في سرد هذه القصة هو نهوضها على حركتيْن: حركة الصعود إلى اللذّة، وحركة النزول إلى المنع، بل قل حركة الحياة في الضوء وحركة الموت في الظلمة.
ولئن أخلص موضوع هذه القصّة غايتَه لكشف سلطة التقاليد وأوجاعها التي تخز باستمرار جسد العلائق الاجتماعية فإن باقي قصص خالد درويش راوحت في محكياتها بين توصيف الواقع والسخرية من فوضاه ومن ارتباك مؤسّساته على غرار قصص «نظام» و«الحارس» و«غرفة سلمى» وخاصة قصة «الإمام» التي يذكر فيها الراوي أن بطلها أزهريٌّ خرّيجُ قسم الفلسفة، تمّ تعيينه بالصدفة ليؤمّ الناس بالمسجد من دون النظر إلى سواء سيرته الاجتماعية، فكان كلّما صعد درجة من درجات المنبر ليخطب فيهم تذكّر ملمحا من ملامح فساد تاريخه الشخصي، ففي الدرجة الأولى تذكّر «تلصّصه على الجارات عبر النوافذ»، وفي الثانية عادات به ذاكرته إلى فترة المراهقة حيث اكتشف العادة السرية، وفي الثالثة يعرّفنا أنه كان مولعا بمجلات الجنس حتى سمّاه زملاؤه الطلبة «الشيخ سكس»، وفي الدرجة الرابعة يذكر أن «أحلامه في تدريس الفلسفة تبخّرت، أخبروه أن إيمانه بالفلسفة سيورثه الكفر»، وفي الدرجة الخامسة يعترف بأنّ «فاقد الشيء لا يعطيه»، ولما وصل إلى المنبر ونظر إلى المصلّين أمامه، خشي أن يكون «من بينهم زوج لإحدى عشيقاته»، ولكنه مع ذلك راح يخطب في الناس قائلا: «أيها الناس اتقوا ربَّكم» وكان الصوتُ صوتَه.
ويبدو أنه عدا قصص «عصفوران» و«قهوة والي» و«الخبر» و«الرئيس» التي بدت لي ضعيفة البناء الفني وتغلب عليها التقريريّة تمكّن خالد عاشور من خلق عالم قصصي جدير بمكانه وزمانه وحال قارئه، وقد أجاد استثمار تقنيات سرديّة عديدة لعلّ منها التكرار (قصة: همس) وتفصيح اللهجة الدارجة، وتنويع زوايا النظر إلى المشهد المحكي، وهو ما منح قصصه ديناميةً ثرّةَ الإحالات والأسئلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.