أمن الجيزة يضبط أنصار مرشحة يوزعون سلعا غذائية بإمبابة    «رحل أغلى ما عندي».. زوجة داوود عبد السيد تودعه بكلمات مؤثرة    تاون جاس لسكان شبرا: لا تنزعجوا من رائحة الغاز مجرد أعمال صيانة    إنجازات الزراعة خلال 2025| طفرة تصديرية واكتفاء ذاتي.. والميكنة تغطي 8.3 مليون فدان    وزير الخارجية يبحث مع نظيره النيجيري تطورات الأوضاع الاقليمية    انطلاق مباراة مودرن سبورت والقناة في كأس مصر    إخماد حريق بشقة سكنية بمنطقة العجوزة دون إصابات    تعرف على القطع الأثرية المختارة لشهر ديسمبر في متاحف الآثار    جيش الاحتلال الإسرائيلي يفرض حظر تجول ويغلق طرقا رئيسية يعتقل عددا من الفلسطينيين    بلديات شمال غزة: قوات الاحتلال الإسرائيلية دمرت 90% من الآبار.. والمنطقة تعيش كارثة    منتخب الفراعنة ضد جنوب أفريقيا.. محمد الشناوي حارس المواعيد الكبرى    الرقابة المالية تصدر نموذج وثيقة تأمين سند الملكية العقارية في مصر    انطلاق مباراة بنين وبوتسوانا بأمم أفريقيا 2025    قرار وزاري من وزير العمل بشأن تحديد ساعات العمل في المنشآت الصناعية    الداخلية تضبط شخص يوزع أموالا بمحيط لجان في سوهاج    مواعيد وضوابط التقييمات النهائية لطلاب الصفين الأول والثاني الابتدائي    اليوم.. العرض الخاص لفيلم "الملحد" ل أحمد حاتم    سهر الصايغ وعمرو عبد الجليل يتعاقدان على "إعلام وراثة" لرمضان 2026    المشاط: نعمل على وصول النمو لمستويات 7% لزيادة معدلات التشغيل وتحقيق تنمية تنعكس على المواطن    حضور قوي لمتطوعي صناع الخير فى احتفالية اليوم العالمي للتطوع بجامعة القاهرة لعرض تجاربهم الناجحة    12 رقما من فوز مصر على جنوب إفريقيا    برئاسة محمد سلامة.. انتخاب مجلس إدارة جديد ل الاتحاد السكندري    فلافيو: الأهلي بيتي.. وأتمنى التدريب في مصر    تعذر وصول رئيس اللجنة 40 بمركز إيتاي البارود لتعرضه لحادث    القبض على أجنبي لتحرشه بسيدة في عابدين    الشتاء يكشر عن أنيابه.. أمطار ورياح شديدة واضطراب بالملاحة البحرية    انهيار جزئي لعقار قديم في منطقة رأس التين بالإسكندرية    افتتاح مشروعات تعليمية وخدمية في جامعة بورسعيد بتكلفة 436 مليون جنيه    هيئة تنشيط السياحة: القوافل السياحية أداة استراتيجية مهمة للترويج للمنتج المصري    القوات الإسرائيلية تنفذ عملية تهجير قسري بشمال الضفة الغربية    وزير الإسكان يؤكد خلال تفقده مشروع «حدائق تلال الفسطاط»: نقلة حضارية جديدة    وزير الصحة: بدء الاستعداد للمرحلة الثالثة من التأمين الصحي الشامل    متحدث الوزراء: توجيهات بتخصيص الموارد لتطوير التأمين الصحي الشامل و«حياة كريمة»    27 ديسمبر 2025.. أسعار الحديد والاسمنت بالمصانع المحلية اليوم    روسيا: تنفيذ ضربة مكثفة ضد البنية التحتية للطاقة والصناعة الدفاعية الأوكرانية    وزارة الدفاع العراقية: 6 طائرات فرنسية جديدة ستصل قريبا لتعزيز الدفاع الجوي    الغش ممنوع تماما.. 10 تعليمات صارمة من المديريات التعليمية لامتحانات الفصل الدراسي الأول    الداخلية: ضبط 866 كيلو مخدرات و157 قطعة سلاح ناري خلال 24 ساعة    إصلاح كسر خط مياه بشارع 17 بمدينة بنى سويف    خلال جراحة استمرت 8 ساعات.. نجاح الفريق الطبي في إعادة بناء وجه كامل بمستشفى شربين    عندها 100 سنة.. معمّرة في قنا تدلي بصوتها في انتخابات النواب على كرسي متحرك    انطلاق الدورة 37 لمؤتمر أدباء مصر بالعريش    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : المطلوب " انابة " بحكم " المنتهى " !?    المستشفيات الجامعية تقدم خدمات طبية ل 32 مليون مواطن خلال 2025    الصحة: فحص 9 ملايين و759 ألف طفل ضمن مبادرة الكشف المبكر وعلاج فقدان السمع لدى حديثي الولادة    اليوم.. نظر محاكمة 3 متهمين بقضية "خلية داعش عين شمس"    عشرات الشباب يصطفون أمام لجان دائرة الرمل في أول أيام إعادة انتخابات النواب 2025    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة المصرية للاتصالات في كأس مصر    مفتي مصر بدين الهجوم على مسجد بحمص السورية    121 عامًا على ميلادها.. «كوكب الشرق» التي لا يعرفها صُناع «الست»    خبيرة تكشف سر رقم 1 وتأثيره القوي على أبراج 2026    زاهي حواس يرد على وسيم السيسي: كان من الممكن أتحرك قضائيا ضده    يايسله: إهدار الفرص وقلة التركيز كلفتنا خسارة مباراة الفتح    جيسوس يعزز قائمة النصر بثلاثي أجنبي قبل مواجهة الأخدود    أخبار × 24 ساعة.. موعد استطلاع هلال شعبان 1447 هجريا وأول أيامه فلكيا    لماذا لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة خديجة طيلة 25 عامًا؟.. أحمد كريمة يُجيب    خشوع وسكينه..... ابرز أذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    دعاء أول جمعة في شهر رجب.. فرصة لفتح أبواب الرحمة والمغفرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مختبرات الرواية.. من القراءة العاشقة إلى النقد الروائي
نشر في صوت البلد يوم 25 - 08 - 2016


قبل البدء:
ليس على النقد أن يدعي إمكان اختلاس النظر التحليلي إلى النص الأدبي، دون أن يكون الوقوع في أسر الغواية أمراً وارداً. فالكتابة النقدية محكومةٌ بدورها هي الأخرى منذ لحظة التصفُّح الأوّلي بممارسة المتعة بكامل إرادة القارئ النّاقد، و موكولةٌ منذ استكشاف الجملة الافتتاحية إلى الانتشاء بمكامن الجدة و الاختراق. لكن لحظة الانبهار أو الاندهاش لا تمتلك باسم النقد الاكتفاءَ الذاتي الكفيل بإنتاج القراءة النقدية الرصينة.
مرايا القراءة العاشقة:
لاشك أن الشغف العميق الذي يواكب درب ارتياد القراءة يظل حافزَ كل قارئ في حرصه الكبير على مصاحبة الأدب و متابعة جديد الإبداع. و يظل الشغف السبيلَ الأوحد لمواصلة الاقتيات على النصوص الإبداعية و المؤلّفات الأدبية بنهم و سلام متدفِّقَيْن. و لذلك ليس بإمكان قارئ الأدب ادعاء إلغاء كل نزوع ذاتي عفوي لصالح موضوعيةٍ تميِّز العلوم، لأن الأدب لا ينشغل بالمادة أو بالموضوع إلا في سياق انشغاله بالذات، بل إن الاحتفاء بالعمق الإنساني كان دوما (و سيبقى) الموضوع الأثير للأدب.
لكن لا يمكن للقارئ الناقد أن ينغلق على المتن الإبداعي باسم المتعة الفريدة التي يتيحُها الحيّز النصي المكتوب، كي يقتَرِحَ كتابة النص الأدبي من جديد بلغةٍ تفارق الإغراق في النسْغَ الإبداعي، لتحيط بابتكارات النص أو لتضبطَ على سلّم التردّادات ذاتها إيقاع اختلافه و تميّزه. فالنقد لا يمكنه أن يعيد كتابة النص الأدبي بلغة إبداعية ثانية، حتى و إن تخفَّفتْ من كثافة الإبداع لترصُد مواطِنه في النص المقروء.
إن القراءة العاشقة وصلةٌ أولى تعانِق النص بلهفة و إعجاب بحكم استسلامها الكلِّي لسطوتي الشغف و الانبهار، مما يدفعُها في غالب الأحيان إلى إنتاج خطاب تقريظي لا يتجشَّم من أعباء النقد الموضوعي حرفاً واحداً، و لا يكلِّف نفسه عناء الانضباط للغة النقدية بمقولاتها الواصفة أو بمفاهيمها التقييمية.
لكن النقد و هو يقرأ الأدب، يتجاوز الوصلة الأولى العاشقة ليحاول أن يرى النص الأدبي من منظور آخر مختَلف، يفارق فيه الرّائي ركن المتذِّوق الغافل عن وصفاتِ الكتابة و محتَرَفاتِ الإبداع، و ينحو إلى روائز الكشف الحصيف و الفحص الدقيق، تلك الروائز التي تستقوي بالرؤية الفكرية و الخبرة بالأدوات النقدية. لأجل ذلك كله الناقد ليس قارئاً عاشقاً للنص، و ليس مقبولاً ممن يسم ذاته بوسم “الناقد” أن ينتِج قراءة نقدية عاشقة للنص المقروء، تسْبح في ملكوت الإبداع و تحلِّق مع أطياف الشعر و تتغنّى بسحر المجاز.
في معتَرَك النقد:
يورد المعجم الوسيط في معنى”نَقَدَ”: نَقَدَ الشيءَ نَقْداً: نقره ليختبره، أو ليميّز جيِّده من رديئه… يقال: نقَد النثْرَ و نقد الشِّعْر: أظهر ما فيهما من عيْب أو حُسْن… و نقَد الشيءَ و إليه ببصره نُقُوداً: اختلس النَّظَر نحوه حتى لا يُفْطَنَ له… و نقَد فلاناً الثمنَ، و نقَد له الثمن: أعطاه إيّاه نَقْداً مُعَجَّلاً. و (نَقِدَ) الشيءُ نَقَداً: وقع فيه الفساد. يقال: نَقِدَ الضِّرْسُ أو القَرْنُ: تأكَّل و تكسَّر… و يقال: انتقد الشِّعْر على قائله: أظهر عَيْبَه.
قد تكون العودة إلى المداخل المعجمية غير ذات تأثير، في زمن اختط فيه النقد لمفاهيمه أكثر من تمثيل، و شيَّد لمقولاته أكثر من نسق. فالنقد سعى في عصور عديدة و عبر مدارس و مشارب و منظورات متعددة إلى الانفتاح على قابلية التغُّير و إمكان إعادة التشييد و احتمال القطيعة و حرية الارتحال. لكن اللغة بأصل وجودها قد حدَّدت الكلمات و وسَمتْ الأشياء. و اختارت للصور الذهنية، مواضعَةً مثلما رأى ابن جني أو توقيفاً مثلما رأى أبو الحسين أحمد بن فارس، الصورَ اللفظية التي ستغتني بالتصويت عن المرجع، و تقرِن بالتسمية بين المصطلح و المفهوم.
و هكذا فإن النقد الأدبي، في ضوء المداخل المعجمية المعروضة آنفاً، يسعى إلى تمييز جيّد العمل الأدبي من رديئه و اختبار صحيحه من زائفه. و النَاقد ينظر إلى العمل الأدبي ليختبر حسنه و عيبه. و تلك معانٍ لها مستوياتُ تحقُّق تحليلي تقتضي المعرفة و الخبرة و الاختصاص. و تستلزم مِراساً يفوق ما قد يخولُّه فعلُ الكتابة الإبداعية للذاتِ المُبدِعة الكاتبةِ من معرفة بأسئلة الكتابة الحميمة. و لا يُعتد هنا بالتمييز بين الرُّتب أو بالتفضيل بين المَراتب. فالإبداع سابق بالقوة و الوجود على النقد، بيد أن النقد كاشف لخواص الإبداع و ظواهره و بواطنه. و مثلما يحفِّز النص الأدبي النقدَ على تجديد أدواته و أنساقه استيعاباً لتحرُّر الإبداع في تحقيقه للحياة و للاستمرارية و للخلود من كل ضوابط قبْلية أو رواسم جاهزة. فإن قدرة النقد على الكشف و الروز و الحفر و الاستجلاء، تمكِّنه من استشراف الكون الإبداعي و استكناه أبعاده الخفية، و تمكِّنه من استدعاء فعل الكتابة الإبداعية إلى أمداء لم تكن قادرة، دون هداية النقد، إلى إدراكها أو تحقيقها.
مُختبَر الرواية:
لتخصيص الحديث بشكل أكثر دقة و تمحيصاً يمكن القول؛ إن ما يعترض محتَرف الكتابة الروائية بحكم الخبرة الإبداعية من انشغالات تخص محاور الامتلاء و الاختمار و الإنجاز و التَّتميم، لا تضع الكتابة في معتَرَك النقد فعلاً، و لا تتيح لها الوعي بالبُنى المفاهيمية التي تخوض فيها الكتابة إجرائياً بشكل عفوي. فلحظة الخَلْق تتملَّك الذات الكاتبة دون ما سواها، و تدفعها إلى النهل من فيض تلك اللحظة دون إدراك معرفي قد يسمِّي المفاهيم و يحدِّد التمثُّلات و يرصد الأنساق و يميِّز الأُطر.
قد يختبر الكاتب الروائي، و هو يمارس داخل محتَرَفه الخاص الإنتاجَ الروائي، تحويلَ الامتلاء إلى فكرة هي زاد الكتابة و شرارتها القادِحة. و يسعى عبر الإحاطة بالمجال الحاضن للفكرة إلى تعميق أمداء اختمارها و نضوجها. و قد يترك للإنجاز بعد ذلك أن ينقاد لخيوط السرد و هي تلحم سدى الحكاية. و يمضي لاحقاً بعد اكتمال الإنجاز إلي تتميم التسريد الروائي بمراجعات الصيغة و الشكل و النمط و اللغة. لكن الذات الكاتبة لا تتحول لأجل هذه الملكات الإبداعية و المهارات الكتابية و الكفايات الإنتاجية، من صفة الكتابة إلى وَسْم النقد. و لا تتيح دربة الكتابة و مصاحبة السياقات الإبداعية إلى ترقية الكاتب من مرتبة الخالِق المبدع إلى مرتبة الناقد الحصيف. و كون الكاتب ليس ناقداً حصيفا يمتلك الدربة النقدية و يتمثّل النظرية و يعي فكّ مغاليق النص، لا يعني بالضرورة أنه لا يمكنه أن يكون ناقداً متذوقاً للنص يكتبه أو للنص يقرؤه. غير أن الذات الكاتبة و هي تحكِم على اللغة الإبداعية عوالِم التسريد لا تراهن في منتهى مطمح الكتابة على إدراك ما تشيِّده نقدياً. بل إنها قد لا تهتم بالأسئلة النقدية أثناء تخَلُّق الكتابة. لأن من شان ذلك الاهتمام أن يحتجز أفق الإبداع و يضيِّق على حرية الخَلْق.
إن لحظات الكتابة المبدِعة آسِرةٌ مثلما هي لحظات القراءة العاشقة. الذات الكاتبة تنقاد إبداعياً إلى متعة الخَلْق و شغف الكتابة و غواية اللَّعب. و تمارس عن وعي مشاكِس ذلك الانقياد لإتمام الفعلِ الإبداعي. و الذات القارئة تنقاد إبداعياً إلى متعة التذوق و شغف القراءة و غواية الانبهار. و بين الذات الكاتبة و الذات القارئة يفتقد النصُّ، المُلهَم أو المُلهِم، إلى العين الحصيفة التي لها الأهلية لإضاءته بفضل ما تتزوَّد به من رزانة علمية و خبرة موضوعية و رؤية تأويلية. إن النص الأدبي لا يعدو أن يكون في واقع الأمر مثلما يصفه أمبرطو إيكو “آلة كسول” تحتاج إلى فعل القراءة قصد تنشيطها. لكن يفترض في هذه القراءة التي ستمنح النص فعاليته النشطة أن لا تكتفي بالتصريح بعشقه أو بالتغني بجماله و سحره. إن القراءة التي ستفعِّلُ إمكانات النص هي مهمَّة الناقد الذي سيستجلي بلغة النقد الرصينة و مفاهيمها الواصفة “الاستراتيجيات النصية” المبثوثة في الحيز النصي قصد إدراك ما يدعوه إيكو قصدية النص. “فما بين قصدية الكاتب صعبة الإدراك و بين قصدية القارئ المنجَزة عند القراءة، هناك القصدية الشفافة للنص التي تدحض كل تأويل هش”.
لا يمتلك الناقد في ضوء كل ذلك القدرة على إنتاج النص النقدي الكاشف للنص الإبداعي و المضيء لما يسنُّه ذلك النص من خطوات للكتابة المبدعة فحسب، بل يحوز بمفرده إمكانية استدعاء الفعل الإبداعي إلى الوعي بمختبرات الكتابة الروائية و إلى خوض تحديات و رهانات جديدة بحرية الخَلْق و نشوة الابتكار.
قبل البدء:
ليس على النقد أن يدعي إمكان اختلاس النظر التحليلي إلى النص الأدبي، دون أن يكون الوقوع في أسر الغواية أمراً وارداً. فالكتابة النقدية محكومةٌ بدورها هي الأخرى منذ لحظة التصفُّح الأوّلي بممارسة المتعة بكامل إرادة القارئ النّاقد، و موكولةٌ منذ استكشاف الجملة الافتتاحية إلى الانتشاء بمكامن الجدة و الاختراق. لكن لحظة الانبهار أو الاندهاش لا تمتلك باسم النقد الاكتفاءَ الذاتي الكفيل بإنتاج القراءة النقدية الرصينة.
مرايا القراءة العاشقة:
لاشك أن الشغف العميق الذي يواكب درب ارتياد القراءة يظل حافزَ كل قارئ في حرصه الكبير على مصاحبة الأدب و متابعة جديد الإبداع. و يظل الشغف السبيلَ الأوحد لمواصلة الاقتيات على النصوص الإبداعية و المؤلّفات الأدبية بنهم و سلام متدفِّقَيْن. و لذلك ليس بإمكان قارئ الأدب ادعاء إلغاء كل نزوع ذاتي عفوي لصالح موضوعيةٍ تميِّز العلوم، لأن الأدب لا ينشغل بالمادة أو بالموضوع إلا في سياق انشغاله بالذات، بل إن الاحتفاء بالعمق الإنساني كان دوما (و سيبقى) الموضوع الأثير للأدب.
لكن لا يمكن للقارئ الناقد أن ينغلق على المتن الإبداعي باسم المتعة الفريدة التي يتيحُها الحيّز النصي المكتوب، كي يقتَرِحَ كتابة النص الأدبي من جديد بلغةٍ تفارق الإغراق في النسْغَ الإبداعي، لتحيط بابتكارات النص أو لتضبطَ على سلّم التردّادات ذاتها إيقاع اختلافه و تميّزه. فالنقد لا يمكنه أن يعيد كتابة النص الأدبي بلغة إبداعية ثانية، حتى و إن تخفَّفتْ من كثافة الإبداع لترصُد مواطِنه في النص المقروء.
إن القراءة العاشقة وصلةٌ أولى تعانِق النص بلهفة و إعجاب بحكم استسلامها الكلِّي لسطوتي الشغف و الانبهار، مما يدفعُها في غالب الأحيان إلى إنتاج خطاب تقريظي لا يتجشَّم من أعباء النقد الموضوعي حرفاً واحداً، و لا يكلِّف نفسه عناء الانضباط للغة النقدية بمقولاتها الواصفة أو بمفاهيمها التقييمية.
لكن النقد و هو يقرأ الأدب، يتجاوز الوصلة الأولى العاشقة ليحاول أن يرى النص الأدبي من منظور آخر مختَلف، يفارق فيه الرّائي ركن المتذِّوق الغافل عن وصفاتِ الكتابة و محتَرَفاتِ الإبداع، و ينحو إلى روائز الكشف الحصيف و الفحص الدقيق، تلك الروائز التي تستقوي بالرؤية الفكرية و الخبرة بالأدوات النقدية. لأجل ذلك كله الناقد ليس قارئاً عاشقاً للنص، و ليس مقبولاً ممن يسم ذاته بوسم “الناقد” أن ينتِج قراءة نقدية عاشقة للنص المقروء، تسْبح في ملكوت الإبداع و تحلِّق مع أطياف الشعر و تتغنّى بسحر المجاز.
في معتَرَك النقد:
يورد المعجم الوسيط في معنى”نَقَدَ”: نَقَدَ الشيءَ نَقْداً: نقره ليختبره، أو ليميّز جيِّده من رديئه… يقال: نقَد النثْرَ و نقد الشِّعْر: أظهر ما فيهما من عيْب أو حُسْن… و نقَد الشيءَ و إليه ببصره نُقُوداً: اختلس النَّظَر نحوه حتى لا يُفْطَنَ له… و نقَد فلاناً الثمنَ، و نقَد له الثمن: أعطاه إيّاه نَقْداً مُعَجَّلاً. و (نَقِدَ) الشيءُ نَقَداً: وقع فيه الفساد. يقال: نَقِدَ الضِّرْسُ أو القَرْنُ: تأكَّل و تكسَّر… و يقال: انتقد الشِّعْر على قائله: أظهر عَيْبَه.
قد تكون العودة إلى المداخل المعجمية غير ذات تأثير، في زمن اختط فيه النقد لمفاهيمه أكثر من تمثيل، و شيَّد لمقولاته أكثر من نسق. فالنقد سعى في عصور عديدة و عبر مدارس و مشارب و منظورات متعددة إلى الانفتاح على قابلية التغُّير و إمكان إعادة التشييد و احتمال القطيعة و حرية الارتحال. لكن اللغة بأصل وجودها قد حدَّدت الكلمات و وسَمتْ الأشياء. و اختارت للصور الذهنية، مواضعَةً مثلما رأى ابن جني أو توقيفاً مثلما رأى أبو الحسين أحمد بن فارس، الصورَ اللفظية التي ستغتني بالتصويت عن المرجع، و تقرِن بالتسمية بين المصطلح و المفهوم.
و هكذا فإن النقد الأدبي، في ضوء المداخل المعجمية المعروضة آنفاً، يسعى إلى تمييز جيّد العمل الأدبي من رديئه و اختبار صحيحه من زائفه. و النَاقد ينظر إلى العمل الأدبي ليختبر حسنه و عيبه. و تلك معانٍ لها مستوياتُ تحقُّق تحليلي تقتضي المعرفة و الخبرة و الاختصاص. و تستلزم مِراساً يفوق ما قد يخولُّه فعلُ الكتابة الإبداعية للذاتِ المُبدِعة الكاتبةِ من معرفة بأسئلة الكتابة الحميمة. و لا يُعتد هنا بالتمييز بين الرُّتب أو بالتفضيل بين المَراتب. فالإبداع سابق بالقوة و الوجود على النقد، بيد أن النقد كاشف لخواص الإبداع و ظواهره و بواطنه. و مثلما يحفِّز النص الأدبي النقدَ على تجديد أدواته و أنساقه استيعاباً لتحرُّر الإبداع في تحقيقه للحياة و للاستمرارية و للخلود من كل ضوابط قبْلية أو رواسم جاهزة. فإن قدرة النقد على الكشف و الروز و الحفر و الاستجلاء، تمكِّنه من استشراف الكون الإبداعي و استكناه أبعاده الخفية، و تمكِّنه من استدعاء فعل الكتابة الإبداعية إلى أمداء لم تكن قادرة، دون هداية النقد، إلى إدراكها أو تحقيقها.
مُختبَر الرواية:
لتخصيص الحديث بشكل أكثر دقة و تمحيصاً يمكن القول؛ إن ما يعترض محتَرف الكتابة الروائية بحكم الخبرة الإبداعية من انشغالات تخص محاور الامتلاء و الاختمار و الإنجاز و التَّتميم، لا تضع الكتابة في معتَرَك النقد فعلاً، و لا تتيح لها الوعي بالبُنى المفاهيمية التي تخوض فيها الكتابة إجرائياً بشكل عفوي. فلحظة الخَلْق تتملَّك الذات الكاتبة دون ما سواها، و تدفعها إلى النهل من فيض تلك اللحظة دون إدراك معرفي قد يسمِّي المفاهيم و يحدِّد التمثُّلات و يرصد الأنساق و يميِّز الأُطر.
قد يختبر الكاتب الروائي، و هو يمارس داخل محتَرَفه الخاص الإنتاجَ الروائي، تحويلَ الامتلاء إلى فكرة هي زاد الكتابة و شرارتها القادِحة. و يسعى عبر الإحاطة بالمجال الحاضن للفكرة إلى تعميق أمداء اختمارها و نضوجها. و قد يترك للإنجاز بعد ذلك أن ينقاد لخيوط السرد و هي تلحم سدى الحكاية. و يمضي لاحقاً بعد اكتمال الإنجاز إلي تتميم التسريد الروائي بمراجعات الصيغة و الشكل و النمط و اللغة. لكن الذات الكاتبة لا تتحول لأجل هذه الملكات الإبداعية و المهارات الكتابية و الكفايات الإنتاجية، من صفة الكتابة إلى وَسْم النقد. و لا تتيح دربة الكتابة و مصاحبة السياقات الإبداعية إلى ترقية الكاتب من مرتبة الخالِق المبدع إلى مرتبة الناقد الحصيف. و كون الكاتب ليس ناقداً حصيفا يمتلك الدربة النقدية و يتمثّل النظرية و يعي فكّ مغاليق النص، لا يعني بالضرورة أنه لا يمكنه أن يكون ناقداً متذوقاً للنص يكتبه أو للنص يقرؤه. غير أن الذات الكاتبة و هي تحكِم على اللغة الإبداعية عوالِم التسريد لا تراهن في منتهى مطمح الكتابة على إدراك ما تشيِّده نقدياً. بل إنها قد لا تهتم بالأسئلة النقدية أثناء تخَلُّق الكتابة. لأن من شان ذلك الاهتمام أن يحتجز أفق الإبداع و يضيِّق على حرية الخَلْق.
إن لحظات الكتابة المبدِعة آسِرةٌ مثلما هي لحظات القراءة العاشقة. الذات الكاتبة تنقاد إبداعياً إلى متعة الخَلْق و شغف الكتابة و غواية اللَّعب. و تمارس عن وعي مشاكِس ذلك الانقياد لإتمام الفعلِ الإبداعي. و الذات القارئة تنقاد إبداعياً إلى متعة التذوق و شغف القراءة و غواية الانبهار. و بين الذات الكاتبة و الذات القارئة يفتقد النصُّ، المُلهَم أو المُلهِم، إلى العين الحصيفة التي لها الأهلية لإضاءته بفضل ما تتزوَّد به من رزانة علمية و خبرة موضوعية و رؤية تأويلية. إن النص الأدبي لا يعدو أن يكون في واقع الأمر مثلما يصفه أمبرطو إيكو “آلة كسول” تحتاج إلى فعل القراءة قصد تنشيطها. لكن يفترض في هذه القراءة التي ستمنح النص فعاليته النشطة أن لا تكتفي بالتصريح بعشقه أو بالتغني بجماله و سحره. إن القراءة التي ستفعِّلُ إمكانات النص هي مهمَّة الناقد الذي سيستجلي بلغة النقد الرصينة و مفاهيمها الواصفة “الاستراتيجيات النصية” المبثوثة في الحيز النصي قصد إدراك ما يدعوه إيكو قصدية النص. “فما بين قصدية الكاتب صعبة الإدراك و بين قصدية القارئ المنجَزة عند القراءة، هناك القصدية الشفافة للنص التي تدحض كل تأويل هش”.
لا يمتلك الناقد في ضوء كل ذلك القدرة على إنتاج النص النقدي الكاشف للنص الإبداعي و المضيء لما يسنُّه ذلك النص من خطوات للكتابة المبدعة فحسب، بل يحوز بمفرده إمكانية استدعاء الفعل الإبداعي إلى الوعي بمختبرات الكتابة الروائية و إلى خوض تحديات و رهانات جديدة بحرية الخَلْق و نشوة الابتكار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.