لا بد لمتتبع النقد المغربي أن يقف عند مجموعة من الإبدالات التي عرفها هذا النقد، والتي شكلت تضاريس جغرافيته، ارتباطا بالتحولات التاريخية والاجتماعية التي مست المجتمع المغربي والعربي، مما يجعله، مع كل مرحلة، في حاجة إلي خلفية معرفية جديدة. وفي إطار طموح النقد المغربي لتجاوز ذاته، مستحضرا منجز النقد العربي بشكل عام، ومستشرفا أفق النقد الغربي، فإنه عرف ثلاث لحظات أساسية: -1- اللحظة الأولي: يمكن أن نحددها مع بداية العشرينيات، مرحلة هي بداية لتشكل النقد المغربي، وبذلك ستكون انعكاسا لما يقع في المشرق العربي، سواء علي المستوي المعرفي أو المنهجي أو التحليلي التطبيقي، وقد تم التركيز علي إبراز وجوه إبداعية مغربية من خلال تأليف منتخبات، وبعض المقارنات بين الشعراء في إطار أسلوب المفاضلة. لقد كان الهم الأساسي في هذه المرحلة هو خلق الجو الأدبي الذي كان غائبا عن الساحة الثقافية والسياسية، بطرح سؤال الأدب، وخلق روابط ووشائج بين المتلقي والأدب المغربي. اللحظة الثانية: من بداية الستينيات إلي نهاية السبعينيات، ابتدأت هذه المرحلة بربط الأدب بالواقع، حيث هيمنت القراءات المنفتحة علي مجموعة من الحقول المعرفية: التاريخ وعلم الاجتماع، في إطار نظرية الانعكاس المعتمدة في المنهج الواقعي، ومن داخل الصراعات السياسية والثقافية المشتعلة آنذاك. لقد كان الناقد آنذاك يتعامل مع سؤال الأدب كذريعة لطرح أفكاره ومواقفه السياسية بالأساس، حيث اعتبر الأدب مكانا لتصفية الحسابات، ولإبراز القدرات الفكرية، ولتمرير مجموعة من القناعات الشخصية باعتبارها حقائق، وهنا بالضبط سيظهر مفهوم الالتزام، وستتحكم مجموعة من المصطلحات والمفاهيم النقدية: الواقعية، الوعي الطبقي، الإيديولوجية، التفكير الثوري... وبعد ذلك سيتم تطوير هذا الاتجاه بتبني منهج البنيوية التكوينية مع لوسيان غولدمان، انطلاقا من مجموعة من المفاهيم: البطل الإشكالي، الرؤية للعالم، البنية الدالة... لكن الالتجاء إلي غولدمان وبييرماشري وألتوسير، ما هو إلا تنويع لم يرق إلي تحليل النصوص بعيدا عن الإسقاطات الخارجية، والأفكار المسبقة، إلا أنه وكما يقول أحد الباحثين " بدأت حركت النقد الأدبي تأخذ مسارها الأساسي نحو أن تكون حركة لقراءة الأدب، دون أن تغفل السياق الذي ينتج فيه هذا الأدب ودون أن تنسي "الرسالة" التي من الممكن أن يضطلع بها هذا الأدب". اللحظة الثالثة: من بداية الثمانينيات إلي أواسط التسعينيات: لابد من التأكيد علي أن هذه المرحلة ظهرت كتجاوز للمآزق التي وقعت فيها المرحلة السابقة، وبذلك سنجد الاهتمام بالنصوص، وبآليات إنتاجها، أي استحضار ما كان مغيبا في السابق، وأي وعي بالتجاوز يأتي كرد فعل، مما سينتج عنه انغماس كلي في النص واستبعاد شروطه التاريخية والاجتماعية، وإقصاء للكاتب وللمضمون، وإعلاء من شأن " النص ولا شيء غير النص". لقد هيمن البحث في الجانب الشكلي للنص، بحثا عما يسمي بشعرية النص، أي خصائصه الداخلية التي تجعل منه أدبا، وبذلك ظهرت مصطلحات من قبيل: الأدبية، الخطاب، النص، وما تولد عن هذه المصطلحات من مفاهيم حسب الأجناس الأدبية، وسيتم في نفس السياق، وبشكل مستعجل، تطعيم هذه القراءات النقدية الشكلية، بمجموعة من التصورات النقدية، المرتبطة بالمرجعية نفسها التي تم تلقيحها بمجموعة من المفاهيم لتوسيعها، ولتجاوز انسداد أفقها. وهكذا سيبدأ التعامل مع: التناص، التأويل، التلقي، السياق... ومع هذه الكتابات النقدية ظهرت مجموعة من المجلات المتخصصة، التي كانت تعمق البحث في هذا الاتجاه أو ذاك: " دراسات أدبية لسانية"، دراسات سيميائية أدبية لسانية"، علامات"... بالإضافة إلي ترجمة كتب لمجموعة من المفكرين، أو لبعض الاتجاهات الأدبية، سواء عن الفرنسية أو الإنجليزية، حسب حاجيات هذه المرحلة، وفي منعطفاتها الأشد حاجة إلي التجديد. لا بد من التأكيد علي أن هذه المرحلة قد عرفت رواجا نقديا لا مثيل له في تاريخ النقد المغربي، وأكدت علي اجتهادات خاصة في تطبيق المناهج، وتصريف مجموعة من المعارف النقدية والأدبية، بتشغيل مجموعة من المفاهيم والمصطلحات التي تنتمي إلي إحدي المناهج التي من داخلها يفكر الباحث، ومن خلالها يري النصوص الإبداعية.. طموحا منه في معانقة العلم؛ ونعني هنا علم الأدب الذي تبلور مع المناهج النقدية الغربية، مع الشعرية، والسميوطيقا، والبلاغة الجديدة.. ما يمكن أن نخلص إليه في هذه المرحلة هو أن النقد كان تحت سلطة المنهج، بحيث إن الناقد يلتقي بالمنهج قبل الأدب، ولا يتواصل مع هذا الأخير إلا عبر المنهج، ويبقي الرهان هنا هو قدرة الناقد علي تطبيق المنهج، مما يجعل كثيرا من الدراسات تغدو تمارين تطبيقية لمجموعة من المفاهيم، مما يجعل النص الأدبي عبارة عن وسيلة، والمنهج هو الغاية، وهنا يضيع الأدب والنقد معا.. 2 لا يمكن في هذا السياق، إلا أن نؤكد علي غني هذه المرحلة في النقد المغربي، ونعترف بالمجهودات الجبارة الفردية لكثير من الباحثين والنقاد، في التعامل مع النص الإبداعي وفي تحليل آليات اشتغاله، وفي تطبيق مجموعة من المناهج الغربية بوعي، وبعد إدراك لأسسها الإبستمولوجية والفلسفية، مع تفاوت في الفهم والتطبيق عند هذا الناقد أو ذاك.. ونضيف إلي أن هذه القراءات النقدية إذا كانت قد أفادت المتخصص، فقد أبعدت القارئ العادي، فكلما استنجد بالنص النقدي ليساعده علي فك شفرات النص الإبداعي، رمي به في متاهة من الخطابات والمفاهيم، بالإضافة إلي تكرار اللغة نفسها، والتصورات نفسها.. ولقد وعي بعض النقاد هذا المأزق الذي يتجلي في تغييب النص الإبداعي، وتهميش نصوص إبداعية متميزة، والاهتمام بنصوص تخدم المنهج، وهو ما أدي إلي التركيز علي النصوص نفسها، وعدم الانتباه للحساسية الجديدة ومتابعتها ونقدها. فمن داخل هذا المأزق اجتهد مجموعة من النقاد لتدارك هذه الثغرات،لاستعادة بعض وظائف النقد التي توارت أمام سلطة المنهج، وانضاف إليهم نقاد آخرون يعتبرون أنفسهم سواء من خلال تصريحاتهم أو من خلال قراءة المراجع التي يعتمدونها- امتدادا لهذه المرحلة، لكن بوعي آخر، وبتصورات مغايرة، وبرؤية جديدة في التعامل مع النص الإبداعي. وقد ساعد علي ذلك انفتاح ثقافة الناقد، وتنوع مرجعياته، وتعدد مواقع الأسئلة التي يخترق بها النصوص، وهو يؤسس علاقة منتجة مع النص المقروء، متحررا من النظريات النقدية التي كانت تثقل علي التحليل، وتطغي عليه، منفلتا من صرامة المناهج التي تضع النص في سجن مفاهيمها، وتقيد بذلك حرية الناقد إزاء العمل الأدبي. إن النقد أصبح يشتغل في إطار ما يسمي ب " النقد الحواري" أساسه النقد المنفتح علي مجالات عديدة: نفسية، أسطورية، اجتماعية، تاريخية.. نقد يقرأ النصوص باحترامه لخصوصياتها، وبإدراك أن النص ينسج علاقات متعددة مع نصوص أخري تخترق كيانه بوعي من الكاتب، أو بدون وعي منه، ولا يغفل ما يربط النص بمحيطه الثقافي والاجتماعي. هذا النقد أضحت مهمته تأويل النصوص للقبض علي المنفلت فيها، ومحاولة الإمساك بمتخيلها. فهؤلاء النقاد يجمعهم هم واحد وهو التصدي لتغييب الأدب، واستعادة لذة القراءة، ومتعة اكتشاف الذات والعالم من داخل الأدب، ولعل القراءات النقدية الجديدة التي نتابع هنا وهناك، تبين هذا المنحي في التعامل مع النصوص، بتحليلها وتقريبها من القارئ، وهذا نابع من إحساسهم بأن " الأدب في خطر" (تودوروف)، ويجب الدفاع عنه، بتغيير وجهة القراءة، واسترتيجية التعامل مع الأدب. ولذلك فهذه التجربة النقدية المغربية الجديدة التي أتحدث عنها تري الممارسة النقدية بشكل مغاير؛ إنها مغامرة تقترب من النص لتكتشف الجمالي والإنساني دون إقصاء لأي منهما بتوريط ذات الناقد، وجعل أسئلة المجتمع تتشابك مع أسئلة النص الإبداعي، في بوتقة تأويلية تساهم في إنتاج معرفة، وخلق كتابة نقدية تتفاعل مع الكتابة الإبداعية، تعتمد ثقافة الكاتب وموسوعيته، لمحاورة النصوص، والإنصات إلي أعماقها، دون إرهابها بالنظريات والمفاهيم التي تخلق فجوة بين النقد والأدب.. 3 ويبقي طموح هذه التجربة النقدية هو ما يسمي بالنقد المتعدد الذي " يغير لغته بحسب العمل الأدبي الذي يبتغي التعليق عليه. والعمل الأدبي هو الذي يشير عندئذ علي الناقد باختيار لغة دون لغة". فهو يري أن العمل النقدي خلق لكتابة جديدة ومغايرة، من داخل العمل الإبداعي، بمعني "أن يكون عملا هو أيضا، وأن يخاطر بنفسه مخاطرة العمل الأدبي ذاته" (ستاروبانسكي). هذه التجربة النقدية ترتكز في منطلقاتها، وأسسها، ومرجعياتها علي ما أنتجه النقد الأدبي بخلفياته الفلسفية، وفي الوقت نفسه تتحرر منه، تبعده لتراه بشكل جيد، وتتمكن من تشغيله وبلورته في عملية نقدية إبداعية. إضافة إلي ذلك فهي تستثمر جهود النقاد الجبارة في تحليل النصوص، ومنهم فعلا من ساير هذا التطور، ومنهم من تلاشي وجرفته مياه التغيير. هذا الجيل من النقاد كان ينطلق من ذاكرة لينساها، وهل هناك نسيان بدون تذكر.. إننا أمام هذه الإنتاجات الإبداعية الجديدة، في حاجة إلي "الخطاب النقدي المتحرر من أسيجة القواعد والمفاهيم المسبقة أو المستعارة من سياق خاص، يستطيع أن يلتقط إضافات الإبداع ويضطلع بدور الوسيط المبلور والمحفز، وأن يبتدع لغته التي لا تقف عند حدود اللغة الواصفة" (محمد برادة)، لأنه من أساسيات النقد اليوم إنتاج معرفة، يستنبطها الناقد من المسكوت عنه في النصوص الإبداعية؛ بما لا يظهر في النصوص، ولا يمكن رؤيته إلا بفعل نقدي، يوقظ المعارف الكامنة في الإبداع، لأن هذا الأخير، ليس من صنيع المبدع وحده، بل تشاركه في ذلك مجموعة من السياقات التاريخية والمجتمعية، والمكتوب سلفا، فتنتج نصوصه أشياء لم يكن يدرك أنه ينسجها، بانخراطه في الواقع، وبما يحمله أيضا من أحلام ورغائب. إن النقد بهذا المعني، لا بد أن يرتكز علي التخييل، أي أن يغامر بلغته، ويدفع بها إلي تخوم الكتابة، ليتمكن من محاورة النصوص، بفتح كوة تضيء جهة من جهاتها المعتمة، وفي ذلك يجعل المعارف تتداول، والأفكار تنتشر، والرؤي تتواجه، لأجل تطوير هذا الإنسان الذي تتصدي له قوي، تحاول تدجينه، بل تعمل علي تلبيد إحساساته.. هل حققنا ذلك؟ يجيبنا جان ستاروبانسكي " لا تزال الحاجة قائمة إلي قوة نقدية ملهمة".