خاص| محلل سياسي روسي: مشروع الضبعة النووي لحظة مفصلية في العلاقات المصرية الروسية    «الدلتا التكنولوجية» أفضل جامعة صديقة للبيئة    تجهيز 500 مقر انتخابي استعدادًا لانتخابات مجلس النواب بالمنوفية    وزير السياحة يبحث خطوات تفعيل المنظومة الجديدة للتأشيرة السياحية عند الوصول    شيخ الأزهر يهنئ السلطان هيثم بن طارق والشعب العماني باليوم الوطني    الرئاسة الفلسطينية: قرار مجلس الأمن بشأن غزة تحول كبير ومهم    مساعد وزير الخارجية يشيد ببرامج الاتحاد الأفريقي لإعادة إعمار الدول الخارجة من النزاعات    الشحات يخوض المرحلة الأخيرة من التأهيل    ساديو ماني يكشف كواليس خلافه مع محمد صلاح ويؤكد: منذ ذلك اليوم أصبحنا أقرب    23 نوفمبر، نظر طعن طلاب المدارس الدولية على قرار فرض التاريخ والعربي إجباري    دموع الإيمان تهز القلوب، الشرقية تكرم عبد الله رغم عدم فوزه في "دولة التلاوة" (صور)    مهرجان شرم الشيخ المسرحى يكرم مخرجى الألفية الثالثة.. تفاصيل    سانوفي تطلق دواء "ساركليزا" في مصر لتمنح مرضى سرطان المايلوما المتعددة أملًا جديدًا في العلاج    سعر الجنيه السوداني مقابل الدولار في بنك الخرطوم المركزي (آخر تحديث)    عضو الحزب الجمهورى: إسرائيل لا تعترف بأى قرار ولا تحترم أى قرار دولى    أشرف صبحي يلتقي رئيس مكتب دوري كرة السلة الأمريكي NBA بمصر    في اليوم العالمي للطفل، تعلمي طرق دعم ثقة طفلك بنفسه    الداخلية تضبط صاحب فيديو «عصا البلطجة» بالجيزة    يونيفيل: استقرار هش على طول الخط الأزرق ونسير دوريات مع الجيش اللبناني    وكالة الطاقة الذرية تدعو إلى مزيد من عمليات التفتيش على المواقع النووية الإيرانية    فقرة بدنية في مران الزمالك قبل مواجهة زيسكو    رئيس كوريا الجنوبية: أحب الحضارة المصرية وشعبنا يحبكم    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 20نوفمبر 2025 فى المنيا    الشيخ رمضان عبد المعز: العمل الصالح هو قرين الإيمان وبرهان صدقه    محافظ الفيوم يوجه بسرعة رفع مخلفات الطبقة الأسفلتية القديمة بشارع عدلي يكن لتيسير الحركة المرورية    محافظة الجيزة: غلق كلي بطريق امتداد محور 26 يوليو أمام جامعة النيل غدا الجمعة    مستشفى الناس تحتفل بتدشين أول وأكبر مركز مجاني لزراعة الكبد بالشرق الأوسط وتعلن تحولها لمدينة طبية    إيقاف بسمة وهبة وياسمين الخطيب.. الأعلى للإعلام يقرر    محافظ القليوبية يُهدي ماكينات خياطة ل 15 متدربة من خريجات دورات المهنة    الموسيقار عمر خيرت يتعافى ويغادر المستشفى    شركة مياه القليوبية ترفع درجة الاستعداد للمرحلة الثانية من انتخابات النواب    ارتفاع أسعار العملات العربية في ختام تعاملات اليوم 20 نوفمبر 2025    من زيورخ إلى المكسيك.. ملحق مونديال 2026 على الأبواب    النائب محمد إبراهيم موسى: تصنيف الإخوان إرهابية وCAIR خطوة حاسمة لمواجهة التطرف    محافظات المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب وعدد المترشحين بها    حل الأحزاب السياسية في مصر.. نظرة تاريخية    محافظ الأقصر يوجه بتحسين الخدمة بوحدة الغسيل الكلوى بمركزى طب أسرة الدير واصفون    أسهم الإسكندرية لتداول الحاويات تواصل الصعود وتقفز 7% بعد صفقة موانئ أبوظبي    حكم صلاة الجنازة والقيام بالدفن فى أوقات الكراهة.. دار الإفتاء توضح    رئيس أزهر سوهاج يتفقد فعاليات التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    الهلال الأحمر المصري يطلق «زاد العزة» ال77 محمّلة بأكثر من 11 ألف طن مساعدات    التضامن: نخطط لتحويل العاصمة الجديدة إلى مدينة صديقة للأطفال    إيقاف إبراهيم صلاح 8 مباريات    إيمان كريم: المجلس يضع حقوق الطفل ذوي الإعاقة في قلب برامجه وخطط عمله    تأثير الطقس البارد على الصحة النفسية وكيفية التكيف مع الشتاء    الرقابة المالية تصدر ضوابط عمل لجنة حماية المتعاملين وتسوية المنازعات في مجال التأمين    والده ل في الجول: أشرف داري لا يفكر في الرحيل عن الأهلي    جثة طائرة من السماء.. مصرع شاب عثروا عليه ملقى بشوارع الحلمية    تموين القليوبية: جنح ضد سوبر ماركت ومخالفي الأسعار    السبت المقبل.. «التضامن» تعلن أسعار برامج حج الجمعيات الأهلية    طقس الإسكندرية اليوم: ارتفاع تدريجي فى درجات الحرارة.. والعظمى 27 درجة مئوية    وزارة «التضامن» تقر قيد جمعيتين في محافظة الغربية    سبورت بيلد: صلاح هو المشكلة الأكبر أمام تألق فيرتز في ليفربول    مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى: سنفرض عقوبات على عدد من الجهات السودانية    د. شريف حلمى رئيس هيئة المحطات النووية فى حوار ل«روزاليوسف»: الضبعة توفر 7 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا والمحطة تنتقل إلى أهم مرحلة فى تاريخها    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذبحة الفلاسفة تروي فلسفة الشرق القديم
نشر في صوت البلد يوم 10 - 06 - 2016

بعيداً عن مألوف الرواية التاريخية، وعن التصنيفات و «التجنيس»، وبقدر كبير من الاحتفاء باللغة ومكوّناتها وجماليّاتها، خصوصاً ما يرتبط منها بالزمن الروائي وثقافته ومعطياته، يأخذنا الروائي تيسير خلف، مع روايته الجديدة «مذبحة الفلاسفة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) في رحلة شديدة الثراء والإمتاع، لنشهد مرحلة من التحوّلات في حياة مدينة تدمر، خصوصاً السنوات الأخيرة من تاريخ مدينة جسّدت «عاصمة إمبراطورية المشرق» في عصر الملك «أذينة وهب اللات»، ثم الملكة زنوبيا، وبحضور عدد كبير من الفلاسفة والحكماء، على رأسهم «قصيّ»، وهو محور أساس للرواية، يكاد يجسّد شخصيّة زعيم روحي بلا «مدوّنة»، ف «السلاميّون» الذين هو من أبرز رموزهم كانوا بلا «مدوّنات».
تنتمي رواية خلف هذه، أساساً، إلى عالم تاريخ الفلسفة، وآفاق هذا العالم المتشعّبة، سواء على المستوى النظريّ للفلسفة، أم في حضورها ضمن الأطر الدينية والتاريخية والسياسية والاقتصادية، من خلال مزجها هذه العناصر كلّها في عمل إبداعيّ مبتكَر ومتميّز، وشديد التعقيد، خصوصاً لجهة كثرة الأسماء، أسماء الفلاسفة والحكماء والحكّام تحديداً، كما لجهة المقولات الفلسفية التي تتحاور هنا، فضلاً عن نصوص ذات طبيعة شعرية/ دينية وإنشادية. وهي بذلك كله، تضعنا في قلب عالم متعدّد الأبعاد، عالم قلّما ولجته الرواية العربية بمثل هذا الجهد، بحثاً وتفكيكاً وإعادة تركيب.
في الهامش الأخير الملحق بالرواية، وقد يُعدّ جزءاً من بِنْيتها، نتعرف إلى باحث أكاديميّ، يسعى لنيل الدكتوراه، من إحدى الجامعات السويسرية، عن بحث في «ديانة العرب قبل الإسلام». فيحضر السؤال عن حجم التاريخيّ الحقيقيّ، وحجم المتخيّل في هذه الرواية، ولا إجابة محددة، إذ إننا أمام قائمة من المراجع التاريخية، من جهة، وحيال بحث ميدانيّ في الأمكنة، من جهة ثانية، وأمام أسماء حقيقية وأخرى روائية، من جهة ثالثة، ما يجعل الإجابة تقتصر على تناول لأبرز محاور هذا العمل.
أسئلة كثيرة تضعنا الرواية أمامها، وأمام اختبار حقيقيّ لرواية (الراوي) حنبل بن جرم اللات، (يظهر في الهوامش الأخيرة في الرواية باسم «أنيبالوس بن غيراموس»)، فهو من يروي ويكتب سيرة قصيّ بن كلاب «الأفكل: كبير الكهنة في مدينة تدمر السوريّة»، قصيّ الذي جاء إلى تدمر وهو دون العشرين من عمره، جاءها من مكّة، مع والدته، وعاش فيها وعايش حكّامها، من «أذينة» وصولاً إلى الملكة زنوبيا، ورحل عنها قبل المعركة الأخيرة لهذه الملكة، التي أسفرت عن هزيمتها في مواجهة إمبراطور روما أورليانوس.
على إثر هذه الهزيمة، يسوق الإمبراطور الملكة وأبناءها وبناتها وحاشيتها، بمن فيهم كبير كهنة تدمر «حنبل» نفسه، إلى السجن في روما. السجن هو أحد القصور الثلاثين التي تشكل المجمّع الإمبراطوري الكبير المسمّى «فيلا هدريانا»، قصر «بناه رئيس مجلس شيوخ تدمر الهدريانية «بونا بن خيران» تقديراً لما فعله الإمبراطور الصالح هادريانوس من أجل تدمر وشعبها»، قصر يصلح «لاستجمام الملوك»، لا لسَجنهم، فهو المنتجع الذي أراده الإمبراطور هدريانوس «مدينة فاضلة، فيها نماذج مصغّرة من أكاديميّة أفلاطون، ولوفيون أرسطو، واستوا زينون»، وفيه تشرع زنوبيا في وضع أطروحة فلسفية حول «التربية الأفلاطونية»، لكنها تموت بداء الوساوس السّود، بعد عام ونصف العام من السجن في هذا «القصر الملعون».
زنوبيا، هي إحدى الشخصيّات الأساسية في الرواية، يقدّمها الراوي على نحو يقارب «الأسطوريّ»، فهي التي عزّزت «مملكة الفضيلة»، بمن جلبتهم من فلاسفة، لكن الأبرز هو صورتها في نهاياتها، حيث «خاضت حربها مع أورليانوس بكل شرف وإقدام، على عكس ما فعل هو، إذ لم يترك خديعة أو خيانة إلا ولجأ إليها»، وهي التي «لم تكن ترغب في الحرب، ولم تسعَ إليها..»، بل كانت تدافع عن مملكتها «الفاضلة» المهددة بالسحق والزوال، وحتى حين استسلمت، «بعد أن انكسر السيف بيدها وهي تدافع عن نفسها.. استسلمت وهي شامخة الرأس».
بعد هزيمة تدمر، يعقد أورليانوس المحكمة في حمص، يقوم بتوجيه الاتهامات إلى الملكة زنوبيا ومن معها من فلاسفة، بخيانة روما، ويحكم بالصلب على كل من «كاسيوس لونجينوس الحمصيّ، وجنتليانوس أميليوس الأثرويّ، وبوسانياس الدمشقيّ، وكليكراتس الصوريّ، ونيوكوماخوس الجراسيّ، وفيليب السيثوبوليتيّ، ويعفو عن الملكة وابنها القاصر وهب اللاتوس، وعن كاهن تدمر الأكبر أنيابالوس جيراموس..» (حنبل). فتصرخ الملكة «هذا ظلم، أصلبونا جميعا، لا ذنب لهم، أنا الملكة وصاحبة القرار الأول والأخير».
هكذا كانت «مذبحة للفلاسفة» إذن، وقد «أراد أورليانوس أن تصل أصداؤها إلى أقصى أطراف الإمبراطورية لغاية في نفسه». وفي الأثناء نقرأ خبراً عن أن قصيّ الذي وصل العربية السعيدة قد «بنى مسجداً في قرية بين يثرب ونجران.. وتحلّق حوله كثير من المؤمنين بكرامته..»، أي أنّه «بنى مدينته الفاضلة». وحنبل يكتب «سيرة حياة هذا الرجل الاستثنائيّ في كلّ شيء».
ومن خلال سيرة حياة قصيّ هذا، يقدّم لنا حنبل سيرة حياة تدمر والتدمريّين، ويتجاوزها إلى عرض طروحات الفلاسفة والكهنة والديانات المنتشرة والفاعلة آنذاك. ووسط طغيان الهمّ الفلسفيّ/ الدينيّ خصوصاً، ومعالجة هذا الجانب بقدر كبير من التفاصيل، إلى حدّ يبدو معه الدخول في الحلقات الفلسفية الضيّقة، فائضاً عمّا تحتمل الرواية، فهو شأن المختصين به، وسط هذا البحر الفلسفي نسي الكاتب، أو تناسى وأهمل تفاصيل من الحياة اليوميّة للتدمريّين، الحياة بعيداً عن القصور وعن الفلاسفة، أي حياة الأسواق والحمّامات الفاخرة التي أشار إليها.
يتّخذ الراوي (حنبل) من قصيّ هذا قاعدة ارتكاز وانطلاق نحو الزهد والفضيلة، بدءاً من كونه نباتيّاً، لا يأكل اللحوم، ولا يشرب الخمور، وذلك ضمن «فلسفة» خاصة به، إذ يميّز بين النبات واللحم قائلاً، بل «رائيا» أن «اللحم مستودع الخبائث، وما نشمّه ونراه من الجيفة، إلا الخبائث الكامنة في أصلها. أما النبات، فحين يموت يجفّ ويبقى طاهراً، مهما مضى عليه الوقت، وحين نزرعه في باطن الأرض، تعود له الحياة، ويعطي ثمراً طيّبا طاهراً، فهل تشبه طهارة هذا نجاسة ذاك؟!»، وفي ما يتعلّق بالخمر فهو يرى أن «الخمر خِمار سميك يحجب العقل، والمخمور أشبه بالدّابة منه بالإنسيّ...»
تتيح الرواية، في بعض مفاصلها، إمكان إجراء مقاربات بين حوادث يسردها الراوي من ذلك التاريخ البعيد، وحوادث حصلت في التاريخ الحديث والمعاصر. وفي الإمكان التوقّف على الأقل عند حدثين معاصرين، يبدو الشبه شديداً بينهما وبين حدثين من ذلك التاريخ. الحدث الأوّل يتعلّق بسقوط روما تحت ضربات الفرس والبرابرة، وكأنه سقوط الدولة العثمانية أمام أوروبا الحديثة. بينما يتعلّق الأمر الثاني بالتشابه بين سقوط بغداد 2003، على نحو شكّل صدمة للعالم، وبين السقوط المدوّي لتدمر.
يلجأ المؤلف إلى لغات وأساليب، تراوح بين السرد الوصفي والتصوير والواقعي وبين التخييل والتصوير الفنتازيّ لبعض مشاهده. ففي ما يتعلق بالمعركة الأخيرة لتدمر، على سبيل المثال، يحضر الحسّ الغيبيّ بقوّة، فنقرأ هذا المشهد الخُرافيّ «إن المقاتلين حين سقطوا منهكين، وهلكت أجسادهم، واصلت أرواحهم القتال، لثلاثة أيام بلياليها... أرواح فرسان على حُصُنهم يكرّون، ويُغير بعضهم على بعض، وتصدر عن غاراتهم أصوات صاخبة، يمكن سماعها من مسافات بعيدة!».
بعيداً عن مألوف الرواية التاريخية، وعن التصنيفات و «التجنيس»، وبقدر كبير من الاحتفاء باللغة ومكوّناتها وجماليّاتها، خصوصاً ما يرتبط منها بالزمن الروائي وثقافته ومعطياته، يأخذنا الروائي تيسير خلف، مع روايته الجديدة «مذبحة الفلاسفة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) في رحلة شديدة الثراء والإمتاع، لنشهد مرحلة من التحوّلات في حياة مدينة تدمر، خصوصاً السنوات الأخيرة من تاريخ مدينة جسّدت «عاصمة إمبراطورية المشرق» في عصر الملك «أذينة وهب اللات»، ثم الملكة زنوبيا، وبحضور عدد كبير من الفلاسفة والحكماء، على رأسهم «قصيّ»، وهو محور أساس للرواية، يكاد يجسّد شخصيّة زعيم روحي بلا «مدوّنة»، ف «السلاميّون» الذين هو من أبرز رموزهم كانوا بلا «مدوّنات».
تنتمي رواية خلف هذه، أساساً، إلى عالم تاريخ الفلسفة، وآفاق هذا العالم المتشعّبة، سواء على المستوى النظريّ للفلسفة، أم في حضورها ضمن الأطر الدينية والتاريخية والسياسية والاقتصادية، من خلال مزجها هذه العناصر كلّها في عمل إبداعيّ مبتكَر ومتميّز، وشديد التعقيد، خصوصاً لجهة كثرة الأسماء، أسماء الفلاسفة والحكماء والحكّام تحديداً، كما لجهة المقولات الفلسفية التي تتحاور هنا، فضلاً عن نصوص ذات طبيعة شعرية/ دينية وإنشادية. وهي بذلك كله، تضعنا في قلب عالم متعدّد الأبعاد، عالم قلّما ولجته الرواية العربية بمثل هذا الجهد، بحثاً وتفكيكاً وإعادة تركيب.
في الهامش الأخير الملحق بالرواية، وقد يُعدّ جزءاً من بِنْيتها، نتعرف إلى باحث أكاديميّ، يسعى لنيل الدكتوراه، من إحدى الجامعات السويسرية، عن بحث في «ديانة العرب قبل الإسلام». فيحضر السؤال عن حجم التاريخيّ الحقيقيّ، وحجم المتخيّل في هذه الرواية، ولا إجابة محددة، إذ إننا أمام قائمة من المراجع التاريخية، من جهة، وحيال بحث ميدانيّ في الأمكنة، من جهة ثانية، وأمام أسماء حقيقية وأخرى روائية، من جهة ثالثة، ما يجعل الإجابة تقتصر على تناول لأبرز محاور هذا العمل.
أسئلة كثيرة تضعنا الرواية أمامها، وأمام اختبار حقيقيّ لرواية (الراوي) حنبل بن جرم اللات، (يظهر في الهوامش الأخيرة في الرواية باسم «أنيبالوس بن غيراموس»)، فهو من يروي ويكتب سيرة قصيّ بن كلاب «الأفكل: كبير الكهنة في مدينة تدمر السوريّة»، قصيّ الذي جاء إلى تدمر وهو دون العشرين من عمره، جاءها من مكّة، مع والدته، وعاش فيها وعايش حكّامها، من «أذينة» وصولاً إلى الملكة زنوبيا، ورحل عنها قبل المعركة الأخيرة لهذه الملكة، التي أسفرت عن هزيمتها في مواجهة إمبراطور روما أورليانوس.
على إثر هذه الهزيمة، يسوق الإمبراطور الملكة وأبناءها وبناتها وحاشيتها، بمن فيهم كبير كهنة تدمر «حنبل» نفسه، إلى السجن في روما. السجن هو أحد القصور الثلاثين التي تشكل المجمّع الإمبراطوري الكبير المسمّى «فيلا هدريانا»، قصر «بناه رئيس مجلس شيوخ تدمر الهدريانية «بونا بن خيران» تقديراً لما فعله الإمبراطور الصالح هادريانوس من أجل تدمر وشعبها»، قصر يصلح «لاستجمام الملوك»، لا لسَجنهم، فهو المنتجع الذي أراده الإمبراطور هدريانوس «مدينة فاضلة، فيها نماذج مصغّرة من أكاديميّة أفلاطون، ولوفيون أرسطو، واستوا زينون»، وفيه تشرع زنوبيا في وضع أطروحة فلسفية حول «التربية الأفلاطونية»، لكنها تموت بداء الوساوس السّود، بعد عام ونصف العام من السجن في هذا «القصر الملعون».
زنوبيا، هي إحدى الشخصيّات الأساسية في الرواية، يقدّمها الراوي على نحو يقارب «الأسطوريّ»، فهي التي عزّزت «مملكة الفضيلة»، بمن جلبتهم من فلاسفة، لكن الأبرز هو صورتها في نهاياتها، حيث «خاضت حربها مع أورليانوس بكل شرف وإقدام، على عكس ما فعل هو، إذ لم يترك خديعة أو خيانة إلا ولجأ إليها»، وهي التي «لم تكن ترغب في الحرب، ولم تسعَ إليها..»، بل كانت تدافع عن مملكتها «الفاضلة» المهددة بالسحق والزوال، وحتى حين استسلمت، «بعد أن انكسر السيف بيدها وهي تدافع عن نفسها.. استسلمت وهي شامخة الرأس».
بعد هزيمة تدمر، يعقد أورليانوس المحكمة في حمص، يقوم بتوجيه الاتهامات إلى الملكة زنوبيا ومن معها من فلاسفة، بخيانة روما، ويحكم بالصلب على كل من «كاسيوس لونجينوس الحمصيّ، وجنتليانوس أميليوس الأثرويّ، وبوسانياس الدمشقيّ، وكليكراتس الصوريّ، ونيوكوماخوس الجراسيّ، وفيليب السيثوبوليتيّ، ويعفو عن الملكة وابنها القاصر وهب اللاتوس، وعن كاهن تدمر الأكبر أنيابالوس جيراموس..» (حنبل). فتصرخ الملكة «هذا ظلم، أصلبونا جميعا، لا ذنب لهم، أنا الملكة وصاحبة القرار الأول والأخير».
هكذا كانت «مذبحة للفلاسفة» إذن، وقد «أراد أورليانوس أن تصل أصداؤها إلى أقصى أطراف الإمبراطورية لغاية في نفسه». وفي الأثناء نقرأ خبراً عن أن قصيّ الذي وصل العربية السعيدة قد «بنى مسجداً في قرية بين يثرب ونجران.. وتحلّق حوله كثير من المؤمنين بكرامته..»، أي أنّه «بنى مدينته الفاضلة». وحنبل يكتب «سيرة حياة هذا الرجل الاستثنائيّ في كلّ شيء».
ومن خلال سيرة حياة قصيّ هذا، يقدّم لنا حنبل سيرة حياة تدمر والتدمريّين، ويتجاوزها إلى عرض طروحات الفلاسفة والكهنة والديانات المنتشرة والفاعلة آنذاك. ووسط طغيان الهمّ الفلسفيّ/ الدينيّ خصوصاً، ومعالجة هذا الجانب بقدر كبير من التفاصيل، إلى حدّ يبدو معه الدخول في الحلقات الفلسفية الضيّقة، فائضاً عمّا تحتمل الرواية، فهو شأن المختصين به، وسط هذا البحر الفلسفي نسي الكاتب، أو تناسى وأهمل تفاصيل من الحياة اليوميّة للتدمريّين، الحياة بعيداً عن القصور وعن الفلاسفة، أي حياة الأسواق والحمّامات الفاخرة التي أشار إليها.
يتّخذ الراوي (حنبل) من قصيّ هذا قاعدة ارتكاز وانطلاق نحو الزهد والفضيلة، بدءاً من كونه نباتيّاً، لا يأكل اللحوم، ولا يشرب الخمور، وذلك ضمن «فلسفة» خاصة به، إذ يميّز بين النبات واللحم قائلاً، بل «رائيا» أن «اللحم مستودع الخبائث، وما نشمّه ونراه من الجيفة، إلا الخبائث الكامنة في أصلها. أما النبات، فحين يموت يجفّ ويبقى طاهراً، مهما مضى عليه الوقت، وحين نزرعه في باطن الأرض، تعود له الحياة، ويعطي ثمراً طيّبا طاهراً، فهل تشبه طهارة هذا نجاسة ذاك؟!»، وفي ما يتعلّق بالخمر فهو يرى أن «الخمر خِمار سميك يحجب العقل، والمخمور أشبه بالدّابة منه بالإنسيّ...»
تتيح الرواية، في بعض مفاصلها، إمكان إجراء مقاربات بين حوادث يسردها الراوي من ذلك التاريخ البعيد، وحوادث حصلت في التاريخ الحديث والمعاصر. وفي الإمكان التوقّف على الأقل عند حدثين معاصرين، يبدو الشبه شديداً بينهما وبين حدثين من ذلك التاريخ. الحدث الأوّل يتعلّق بسقوط روما تحت ضربات الفرس والبرابرة، وكأنه سقوط الدولة العثمانية أمام أوروبا الحديثة. بينما يتعلّق الأمر الثاني بالتشابه بين سقوط بغداد 2003، على نحو شكّل صدمة للعالم، وبين السقوط المدوّي لتدمر.
يلجأ المؤلف إلى لغات وأساليب، تراوح بين السرد الوصفي والتصوير والواقعي وبين التخييل والتصوير الفنتازيّ لبعض مشاهده. ففي ما يتعلق بالمعركة الأخيرة لتدمر، على سبيل المثال، يحضر الحسّ الغيبيّ بقوّة، فنقرأ هذا المشهد الخُرافيّ «إن المقاتلين حين سقطوا منهكين، وهلكت أجسادهم، واصلت أرواحهم القتال، لثلاثة أيام بلياليها... أرواح فرسان على حُصُنهم يكرّون، ويُغير بعضهم على بعض، وتصدر عن غاراتهم أصوات صاخبة، يمكن سماعها من مسافات بعيدة!».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.