ظهرت الآن.. نتيجة تنسيق رياض أطفال وأولى ابتدائي الأزهر| رابط مباشر    قافلة دعوية للواعظات في السويس للتوعية بمخاطر الغرم    مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح تتضمن التعاون العلمي والأكاديمي وتبادل الخبرات    اليوم.. البابا تواضروس يترأس قداس تدشين كنيسة القديس مارمينا العجائبي بالإسكندرية    «تعليم أسوان» تعلن عن فرص عمل للمعلمين بنظام الحصة.. الشروط والأوراق المطلوبة    مديرية الطب البيطري بدمياط تباشر أعمال المعاينة في مزرعة ملكوت للخيول    وزيرا الإنتاج الحربي والبترول يبحثان تعزيز التعاون لتنفيذ مشروعات قومية مشتركة    وزير العمل: وحدات تدريب متنقلة تجوب 100 قرية لتأهيل الشباب على مهن يحتاجها سوق العمل    الغربية: حملات نظافة مستمرة ليلا ونهارا في 12 مركزا ومدينة لضمان بيئة نظيفة وحضارية    إنفوجراف| أبرز ما جاء في بيان وزارة الخارجية المصرية بشأن ليبيا    وزير خارجية باكستان يبدأ زيارة إلى بنجلاديش    وزير تركي: سنعقد اجتماعا ثلاثيا مع سوريا والأردن بشأن النقل    مانشستر سيتي يتأخر أمام توتنهام في الشوط الأول    كمال شعيب: الزمالك صاحب حق في أرض أكتوبر..ونحترم مؤسسات الدولة    كهربا يقترب من الانتقال إلى القادسية الكويتي    ضبط صاحب مطبعة بحوزته 29 ألف كتاب خارجي بالمخالفة للقانون    طقس بالإسكندرية اليوم.. استمرار ارتفاع درجات الحرارة والمحسوسة تسجل 36 درجة    "سقط في الترعة".. مصرع شخص بحادث انقلاب دراجة بخارية ببني سويف    ضبط 382 قضية مخدرات و277 سلاحا ناريا وتنفيذ 84 ألف حكم قضائي خلال 24 ساعة    وزارة النقل تناشد المواطنين عدم اقتحام المزلقانات أو السير عكس الاتجاه أثناء غلقها    البيئة تعلن الانتهاء من احتواء بقعة زيتية خفيفة في نهر النيل    حسام حبيب يصعد الأزمة مع ياسر قنطوش    وفاة سهير مجدي .. وفيفي عبده تنعيها    قلق داخلي بشأن صديق بعيد.. برج الجدي اليوم 23 أغسطس    الاثنين المقبل.. قصر ثقافة الإسماعيلية يشهد أسبوعا تثقيفيا احتفالا باليوم العالمي للشباب    تم تصويره بالأهرامات.. قصة فيلم Fountain of Youth بعد ترشحه لجوائز LMGI 2025    لماذا شبه النبي المؤمن بالنخلة؟.. استاذ بالأزهر يجيب    نجاح أول عملية إصلاح انزلاق غضروفي بمفصل الفك السفلي في مستشفى دمياط العام    قافلة حياة كريمة تقدم خدماتها الطبية المجانية لأكثر من 1050 مواطنا بقرية عزاقة في المنيا    جامعة القاهرة تطلق قافلة تنموية شاملة لمدينة الحوامدية بالجيزة    الصحة: حملة «100 يوم صحة» قدّمت 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يوما    تحرير 125 مخالفة عدم الالتزام بغلق المحلات في مواعيدها    "اتحاد المقاولين" يطالب بوقف تصدير الأسمنت لإنقاذ قطاع المقاولات من التعثر    8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال ال24 ساعة الماضية    محاضرة فنية وتدريبات خططية في مران الأهلي استعدادًا للمحلة    نور القلوب يضىء المنصورة.. 4 من ذوى البصيرة يبدعون فى مسابقة دولة التلاوة    ضبط وتحرير 18 محضرا فى حملة إشغالات بمركز البلينا فى سوهاج    ظهر أحد طرفيها عاريا.. النيابة تحقق في مشاجرة بمدينة نصر    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    رغم تبرئة ساحة ترامب جزئيا.. جارديان: تصريحات ماكسويل تفشل فى تهدئة مؤيديه    محافظ أسوان يتفقد مشروع مركز شباب النصراب والمركز التكنولوجى بالمحاميد    انتهاء المرحلة الثالثة من تقييم جائزة جدير للتميز والإبداع الإداري لكوادر الإدارة المحلية    لا دين ولا لغة عربية…التعليم الخاص تحول إلى كابوس لأولياء الأمور فى زمن الانقلاب    مصر تستضيف النسخة الأولى من قمة ومعرض "عالم الذكاء الاصطناعي" فبراير المقبل    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    محافظ الجيزة يشدد علي التعامل الفوري مع أي متغيرات مكانية يتم رصدها واتخاذ الإجراءات القانونية    تفاصيل وأسباب تفتيش منزل مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق جون بولتون    ما أسباب استجابة الدعاء؟.. واعظة بالأزهر تجيب    مستشفى الأهلى.. 6 لاعبين خارج الخدمة فى مباراة غزل المحلة بسبب الإصابة    ثلاثة أفلام جديدة فى الطريق.. سلمى أبو ضيف تنتعش سينمائيا    "يونيسيف" تطالب إسرائيل بالوفاء بالتزاماتها والسماح بدخول المساعدات بالكميات اللازمة لغزة    شباب في خدمة الوطن.. أندية التطوع والجوالة يعبرون رفح ويقدمون المساعدات لقطاع غزة    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    إعلام فلسطينى: مصابون من منتظرى المساعدات شمال رفح الفلسطينية    «الإفتاء» تستطلع هلال شهر ربيع الأول اليوم    موعد مباراة النصر ضد الأهلي اليوم في نهائي كأس السوبر السعودي والقنوات الناقلة    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«بطل» سلطان العميمي يتلصص من ثقب الباب على نفسه
نشر في صوت البلد يوم 08 - 05 - 2016

يخوض الكاتب سلطان العميمي في روايته الجديدة «غرفة واحدة لا تكفي» (منشورات ضفاف والاختلاف) موضوعة (تيمة) «القرين» جاعلاً بطله الذي هو الراوي نفسه ضحية «مؤامرة» تبدو شبه قدرية، خالقاً حالاً من التشويق يجعل القارئ يفتش مع البطل نفسه عن سر هذه «المؤامرة» التي رمته في السجن بلا تهمة. يجد البطل - الرواي نفسه صدفة أسيراً في غرفة لا يذكر من رماه فيها ولا كيف اقتيد إليها. يستيقظ من نومه ليكتشف هذا السجن «الانفرادي» الذي يقبع فيه، وآخر ما يذكره قبل «الحادثة» أنه كان يمشي في منتصف الليل في شارع يقع خلف الفندق الذي قرر أن يقضي فيه أيام إجازته، ثم حصل ما حصل مما يجهله. غرفة كأنها سجن فعلاً، لكن مع باب وثقب في الباب هو نافذته الوحيدة في هذا الفراغ. حمام وسرير ولوحة على الجدار ترتسم عليها غربان («غربان أنيقة» عنوان مجموعة قصصية للكاتب نفسه)، وثلاجة تضم ماءً وطعاماً (يتجدد في طريقة غرائبية) وطاولة وكتاب عنوانه «خيارات وحيدة» يكتشف أن غلافه يحمل اسمه مع أنه لم يكتب كتاباً بهذا العنوان. لا مرآة في الغرفة، ما يعني أن الراوي لن يتمكن من رؤية وجهه طوال الشهر الذي سيقضيه سجيناً. وعندما يفتح الكتاب يجد صفحاته التي تناهز الثلاث مئة وخمسين صفحة بيضاء، ما خلا مقدمة صغيرة تقول: «في غرفة صغيرة في مكان مجهول، ثمة شخص يتلصص من ثقب الباب على شخص كان يتلصص على شخص آخر في الغرفة المجاورة له. كانوا يتلصصون جميعاً على أشخاص آخرين من دون توقف. ولا يفعلون شيئاً سوى ذلك». هذه المقدمة الغامضة التي يحملها الكتاب الفارغ هي خير مدخل إلى الرواية نفسها أولاً، ثم إلى صميم اللعبة التي يجيد العميمي حبك خيوطها، جامعاً في آن واحد بين الحدث الغرائبي أو الفانتاستيكي والحدث العبثي والفانتازي الساخر. إنهما القطبان اللذان يتجاذبان الرواية ليجعلا منها راوية واقعية وغير واقعية، واقعية في شخصية البطل - الراوي، وغير واقعية في ما يواجه هذا البطل السلبي بامتياز، من أحداث ووقائع غريبة وغير متوقعة.
في هذه الغرفة - السجن لا يجد الراوي سوى ثقب الباب نافذة وحيدة، ولو أنها تطل على غرفة أخرى يقطنها شخص يكتشف الرواي فيه صورة أخرى له، أو شبيهه كما يقول، أو قرينه وفق المقولة الفلسفية والنفسانية. وهذا الثقب يجعل من الراوي شخصاً متلصصاً، لكنه يتلصص على نفسه. وهنا تكمن إحدى الأفكار البديعة التي تعالجها الرواية. شخص يتلصص على الآخر الذي ليس سوى نفسه، في شكله وسلوكه وعاداته وملابسه وكتبه، ولا يتوانى عن تسميته «الأنا»، ثم يطلق عليه اسمه الحقيقي «قرواش الرابع»، فهذا الاسم هو أولا اسم الجد وثانياً اسم الاب وثالثاً اسم الراوي. ومن اللقطات الجميلة في هذه اللعبة التوهيمية تلك اللقطة التي يكتشف الراوي جسده عبر جسد شبيهه الذي يتلصص عليه عندما يتعرى، فيصرخ :»هذا الجسد لي»، ويُصدم عندما يكتشف عيوب جسده في عيوب جسد القرين. أما السؤال الوجودي الذي يقلقه والذي سيظل بلا جواب حتى الصفحات الأخيرة التي يجد القارئ فيها مفاجأة غير منتظرة فهو: «كيف ينام شخص واحد في غرفتين منفصلتين في الوقت نفسه؟ والسؤال يؤدي إلى سؤال آخر فآخر، لأنّ لا يقين هنا بل ظن وشك: «هل ولدنا توأمين ثم تخلى عنا أهلنا؟»، «هل ستكون نهايتي في غرفة تلاصقها غرفة يسكنها شخص يشبهني تماماً؟».
يجد الراوي الذي هو كاتب وموظف مثل قرينه، أن لا سبيل إلى قتل الفراغ والوحشة إلا في الكتابة. لم يضع «السجان» (رمز القدر) في متناوله كتاباً أبيض الصفحات وقلماً عبثاً أو مصادفة، بل هو وضعه قسراً أمام فعل الكتابة بصفته فعل خلاص وإنقاذ، ولا يجد الراوي مهرباً من الكتابة. لكنه يسأل نفسه: «ماذا سأكتب؟ هل أكتب قصة حياتي التي لم أحقق فيها إنجازاً يُذكر حتى الآن؟ أم أكتب مذكرات حبسي في هذه الغرفة؟». وعندما يقرر بدء الكتابة يجعل الكتاب من جزءين، الأول سيكون بمثابة سيرة ذاتية بعنوان «نافذة على جذوري»، والثاني أشبه بيوميات داخل السجن بعنوان طريف جداً «حين راقبت نفسي». وانطلاقاً من هذا القرار يتمكن الراوي من إحداث كوّة، ولو متوهمة، يهرب عبرها إلى ماضيه الذي يبدأ بقصة جده الذي يحمل اسمه. واستعادة قصة الجد تفتح أمامه الباب واسعاً ليمعن في كتابة نص فانتاستيكي متخيل، تمتزج فيه الأسطورة والخرافة والتراث الشعبي الشفوي وظلال المخيلة البدائية. وينجح العميمي في كتابة نص رديف أو نص داخل نص معتمداً لعبة السرد المرآوي. فالرواي لا يسرد قصة جده الغرائبية إلا بحثاً عن تصور سحري أو غير واقعي يفسر له الحالة الغريبة التي يعيشها داخل السجن. فالجد الذي يدعى قرواش وهو «نوخذة» أي صياد في البحر وفق العبارة الشعبية في الإمارات، يختفي في ظروف غامضة ثم يظهر بعد إحدى عشرة سنة. لكنّ قصته تظل حتى بعد وفاته، لغزاً يحير الجميع والراوي نفسه.
يستعيد إذاً «قرواش» الحفيد قصة جده وفق حكايات عدة رويت عنه وكل واحدة تختلف عن الثانية إلى حد التناقض في أحيان. أحدهم (عيسوب) روى أنه شاهده يرمي بنفسه عن ظهر المركب في الماء، وآخر يقول إن ساحراً مسخه ثوراً ثم حماراً ثم بعيراً ... وآخر يعترف أنه رآه يطير وآخر يفيد بأنه اختفى في طريقه من أبوظبي إلى الشارقة مروراً بدبي... أما أطرف الحكايات فتلك التي ترويها امرأة ومفادها أنه أغرم بفتاة وهام على وجهه يبحث عنها حتى بلغ زنجبار. أما قصة هذه الفتاة فلا تقل غرابة عن قصة الجد، فهي كانت شاباً يدعى هلال ثم انقلبت بسحر ساحر إلى فتاة: «نظر قرواش في وجه من أيقظه بذهول، كانت فتاة فاتنة طويلة الشعر، تلبس قميصا رجالياً خفيفاً وإزاراً. جفل في البداية خشية أن تكون جنية من جنيات البحر». لكنّ الجد الذي قال أحدهم إنه وجِد تحت شجرة الغافة ونفى أحدهم هذه المعلومة، ما لبث أن توفي بعد عام على عودته جراء نوبات صرع قضت عليه. إنها الخرافة الشعبية يعيد الروائي صوغها وسبكها، محاولاً سبر المخيلة الغرائبية الفردية والجماعية. لكنه يعتمد ما يشبه صدمة الوعي من خلال شخصية صالح العالم النفساني (غير المعلن) الذي يربط السحر والتوهيم بما يسميه «اضطراباً نفسياً» و»انفصاماً»، مفسراً الظواهر الغرائبية تفسيراً «مرضياً». ولعل لجوء الراوي إلى هذه الشخصية يدل على حاجته الى تفسير ما يحدث له من أمور لا يمكنه تفسيرها. إلا أن النهاية المفاجئة والجميلة ستحمل معها تفسيراً للغز رئيسي، لغز الراوي نفسه وقرينه ولغز أسره في الغرفة وتلصصه على شبيهه الذي هو نفسه. إنها المفاجأة التي تضفي على الرواية بعداً فانتازياً يكشف الحيلة الذكية التي اعتمدها العميمي ليجعل من روايته رواية داخل رواية، لكن في المعنى المفتوح والذي لا نهاية له.
واللافت في رواية «غرفة واحدة لا تكفي» أن الراوي نفسه (شبيه الكاتب أخيراً) لا يخفي هوسه الروائي، سواء عبره هو شخصياً أم عبر القرين الذي يملك في الغرفة الأخرى مكتبة تضم كتب الرواي. وهو إذ يمضي في لعبة القرين السردية يسترجع مثلاً رواية الكاتب البرتغالي الكبير جوزيه ساراماغو «الآخر مثلي» وفيها يسرد حكاية شخص رأى شبيهه المطابق له تماماً يؤدي دوراً في فيلم عادي شاهده، فيبحث عنه ويجده ويواجهه جهاراً. ولا تغيب الروايات عن رواية العميمي ما يمنحها المزيد من الطرافة والتفرد. فهو عندما يسرد على لسان الرواي قصة مسخ الجد إلى ثور وحمار يتذكر رواية «الحمار الذهبي»، وهي أقدم رواية في تاريخ الأدب العالمي وترجع إلى القرن الثاني بعد الميلاد، وصاحبها يدعى لوكيوس ابوليوس. ثم يتذكر رواية «المسخ» لكافكا التي يُمسخ فيها بطلها غريغور سامسا إلى حشرة. وفي خضم الصمت القاتل أو الخرس المطبق الذي يعيشه والذي لا يكسره سوى كلامه اللامجدي مع الآخر الأصم وصراخه، يتذكر الراوي كتاب «عربة المجانين» الذي يحكي فيه صاحبه كارولس ليسكانو كيف تحول إلى كاتب خلال السنوات التي سجن فيها. ويتذكر الراوي أيضاً رواية كواباتا «الجميلات النائمات» ورواية عتيق رحيمي «حجر الصبر». ولا تغيب الأفلام عن ذاكرة السجين، ومن الأفلام التي يستعيدها في أوج صمته القاتل فيلم «سيكرت إن ذير ايز» وفيه تأسر شرطية قاتل ابنتها ومغتصبها، ثلاثة عشر عاما في مخبأ داخل بيتها معاقبة إياه بالصمت، أي رامية إياه في سجن الصمت. إلا أن الراوي كان يسمع في ساعات صمته الطويل صوت مهرة حبيبته تناديه، وكذلك صوت أمه آتياً من الماضي الجميل.
رواية داخل رواية، بل حكايات داخل رواية، وبطل مأسور في غرفة يتلصص على نفسه في الغرفة الأخرى التي يقطنها بصفته الشبيه. أما النهاية التي يجب عدم إفشاء سرها فتعلن أن المؤلف أغلق باب الغرفة الملاصقة لغرفته ثم عاد إلى الكتابة ليبتدع سجناً جديداً وبطلاً جديداً. وهنا تكمن فرادة هذه الرواية التي لا نهاية لها.
يخوض الكاتب سلطان العميمي في روايته الجديدة «غرفة واحدة لا تكفي» (منشورات ضفاف والاختلاف) موضوعة (تيمة) «القرين» جاعلاً بطله الذي هو الراوي نفسه ضحية «مؤامرة» تبدو شبه قدرية، خالقاً حالاً من التشويق يجعل القارئ يفتش مع البطل نفسه عن سر هذه «المؤامرة» التي رمته في السجن بلا تهمة. يجد البطل - الرواي نفسه صدفة أسيراً في غرفة لا يذكر من رماه فيها ولا كيف اقتيد إليها. يستيقظ من نومه ليكتشف هذا السجن «الانفرادي» الذي يقبع فيه، وآخر ما يذكره قبل «الحادثة» أنه كان يمشي في منتصف الليل في شارع يقع خلف الفندق الذي قرر أن يقضي فيه أيام إجازته، ثم حصل ما حصل مما يجهله. غرفة كأنها سجن فعلاً، لكن مع باب وثقب في الباب هو نافذته الوحيدة في هذا الفراغ. حمام وسرير ولوحة على الجدار ترتسم عليها غربان («غربان أنيقة» عنوان مجموعة قصصية للكاتب نفسه)، وثلاجة تضم ماءً وطعاماً (يتجدد في طريقة غرائبية) وطاولة وكتاب عنوانه «خيارات وحيدة» يكتشف أن غلافه يحمل اسمه مع أنه لم يكتب كتاباً بهذا العنوان. لا مرآة في الغرفة، ما يعني أن الراوي لن يتمكن من رؤية وجهه طوال الشهر الذي سيقضيه سجيناً. وعندما يفتح الكتاب يجد صفحاته التي تناهز الثلاث مئة وخمسين صفحة بيضاء، ما خلا مقدمة صغيرة تقول: «في غرفة صغيرة في مكان مجهول، ثمة شخص يتلصص من ثقب الباب على شخص كان يتلصص على شخص آخر في الغرفة المجاورة له. كانوا يتلصصون جميعاً على أشخاص آخرين من دون توقف. ولا يفعلون شيئاً سوى ذلك». هذه المقدمة الغامضة التي يحملها الكتاب الفارغ هي خير مدخل إلى الرواية نفسها أولاً، ثم إلى صميم اللعبة التي يجيد العميمي حبك خيوطها، جامعاً في آن واحد بين الحدث الغرائبي أو الفانتاستيكي والحدث العبثي والفانتازي الساخر. إنهما القطبان اللذان يتجاذبان الرواية ليجعلا منها راوية واقعية وغير واقعية، واقعية في شخصية البطل - الراوي، وغير واقعية في ما يواجه هذا البطل السلبي بامتياز، من أحداث ووقائع غريبة وغير متوقعة.
في هذه الغرفة - السجن لا يجد الراوي سوى ثقب الباب نافذة وحيدة، ولو أنها تطل على غرفة أخرى يقطنها شخص يكتشف الرواي فيه صورة أخرى له، أو شبيهه كما يقول، أو قرينه وفق المقولة الفلسفية والنفسانية. وهذا الثقب يجعل من الراوي شخصاً متلصصاً، لكنه يتلصص على نفسه. وهنا تكمن إحدى الأفكار البديعة التي تعالجها الرواية. شخص يتلصص على الآخر الذي ليس سوى نفسه، في شكله وسلوكه وعاداته وملابسه وكتبه، ولا يتوانى عن تسميته «الأنا»، ثم يطلق عليه اسمه الحقيقي «قرواش الرابع»، فهذا الاسم هو أولا اسم الجد وثانياً اسم الاب وثالثاً اسم الراوي. ومن اللقطات الجميلة في هذه اللعبة التوهيمية تلك اللقطة التي يكتشف الراوي جسده عبر جسد شبيهه الذي يتلصص عليه عندما يتعرى، فيصرخ :»هذا الجسد لي»، ويُصدم عندما يكتشف عيوب جسده في عيوب جسد القرين. أما السؤال الوجودي الذي يقلقه والذي سيظل بلا جواب حتى الصفحات الأخيرة التي يجد القارئ فيها مفاجأة غير منتظرة فهو: «كيف ينام شخص واحد في غرفتين منفصلتين في الوقت نفسه؟ والسؤال يؤدي إلى سؤال آخر فآخر، لأنّ لا يقين هنا بل ظن وشك: «هل ولدنا توأمين ثم تخلى عنا أهلنا؟»، «هل ستكون نهايتي في غرفة تلاصقها غرفة يسكنها شخص يشبهني تماماً؟».
يجد الراوي الذي هو كاتب وموظف مثل قرينه، أن لا سبيل إلى قتل الفراغ والوحشة إلا في الكتابة. لم يضع «السجان» (رمز القدر) في متناوله كتاباً أبيض الصفحات وقلماً عبثاً أو مصادفة، بل هو وضعه قسراً أمام فعل الكتابة بصفته فعل خلاص وإنقاذ، ولا يجد الراوي مهرباً من الكتابة. لكنه يسأل نفسه: «ماذا سأكتب؟ هل أكتب قصة حياتي التي لم أحقق فيها إنجازاً يُذكر حتى الآن؟ أم أكتب مذكرات حبسي في هذه الغرفة؟». وعندما يقرر بدء الكتابة يجعل الكتاب من جزءين، الأول سيكون بمثابة سيرة ذاتية بعنوان «نافذة على جذوري»، والثاني أشبه بيوميات داخل السجن بعنوان طريف جداً «حين راقبت نفسي». وانطلاقاً من هذا القرار يتمكن الراوي من إحداث كوّة، ولو متوهمة، يهرب عبرها إلى ماضيه الذي يبدأ بقصة جده الذي يحمل اسمه. واستعادة قصة الجد تفتح أمامه الباب واسعاً ليمعن في كتابة نص فانتاستيكي متخيل، تمتزج فيه الأسطورة والخرافة والتراث الشعبي الشفوي وظلال المخيلة البدائية. وينجح العميمي في كتابة نص رديف أو نص داخل نص معتمداً لعبة السرد المرآوي. فالرواي لا يسرد قصة جده الغرائبية إلا بحثاً عن تصور سحري أو غير واقعي يفسر له الحالة الغريبة التي يعيشها داخل السجن. فالجد الذي يدعى قرواش وهو «نوخذة» أي صياد في البحر وفق العبارة الشعبية في الإمارات، يختفي في ظروف غامضة ثم يظهر بعد إحدى عشرة سنة. لكنّ قصته تظل حتى بعد وفاته، لغزاً يحير الجميع والراوي نفسه.
يستعيد إذاً «قرواش» الحفيد قصة جده وفق حكايات عدة رويت عنه وكل واحدة تختلف عن الثانية إلى حد التناقض في أحيان. أحدهم (عيسوب) روى أنه شاهده يرمي بنفسه عن ظهر المركب في الماء، وآخر يقول إن ساحراً مسخه ثوراً ثم حماراً ثم بعيراً ... وآخر يعترف أنه رآه يطير وآخر يفيد بأنه اختفى في طريقه من أبوظبي إلى الشارقة مروراً بدبي... أما أطرف الحكايات فتلك التي ترويها امرأة ومفادها أنه أغرم بفتاة وهام على وجهه يبحث عنها حتى بلغ زنجبار. أما قصة هذه الفتاة فلا تقل غرابة عن قصة الجد، فهي كانت شاباً يدعى هلال ثم انقلبت بسحر ساحر إلى فتاة: «نظر قرواش في وجه من أيقظه بذهول، كانت فتاة فاتنة طويلة الشعر، تلبس قميصا رجالياً خفيفاً وإزاراً. جفل في البداية خشية أن تكون جنية من جنيات البحر». لكنّ الجد الذي قال أحدهم إنه وجِد تحت شجرة الغافة ونفى أحدهم هذه المعلومة، ما لبث أن توفي بعد عام على عودته جراء نوبات صرع قضت عليه. إنها الخرافة الشعبية يعيد الروائي صوغها وسبكها، محاولاً سبر المخيلة الغرائبية الفردية والجماعية. لكنه يعتمد ما يشبه صدمة الوعي من خلال شخصية صالح العالم النفساني (غير المعلن) الذي يربط السحر والتوهيم بما يسميه «اضطراباً نفسياً» و»انفصاماً»، مفسراً الظواهر الغرائبية تفسيراً «مرضياً». ولعل لجوء الراوي إلى هذه الشخصية يدل على حاجته الى تفسير ما يحدث له من أمور لا يمكنه تفسيرها. إلا أن النهاية المفاجئة والجميلة ستحمل معها تفسيراً للغز رئيسي، لغز الراوي نفسه وقرينه ولغز أسره في الغرفة وتلصصه على شبيهه الذي هو نفسه. إنها المفاجأة التي تضفي على الرواية بعداً فانتازياً يكشف الحيلة الذكية التي اعتمدها العميمي ليجعل من روايته رواية داخل رواية، لكن في المعنى المفتوح والذي لا نهاية له.
واللافت في رواية «غرفة واحدة لا تكفي» أن الراوي نفسه (شبيه الكاتب أخيراً) لا يخفي هوسه الروائي، سواء عبره هو شخصياً أم عبر القرين الذي يملك في الغرفة الأخرى مكتبة تضم كتب الرواي. وهو إذ يمضي في لعبة القرين السردية يسترجع مثلاً رواية الكاتب البرتغالي الكبير جوزيه ساراماغو «الآخر مثلي» وفيها يسرد حكاية شخص رأى شبيهه المطابق له تماماً يؤدي دوراً في فيلم عادي شاهده، فيبحث عنه ويجده ويواجهه جهاراً. ولا تغيب الروايات عن رواية العميمي ما يمنحها المزيد من الطرافة والتفرد. فهو عندما يسرد على لسان الرواي قصة مسخ الجد إلى ثور وحمار يتذكر رواية «الحمار الذهبي»، وهي أقدم رواية في تاريخ الأدب العالمي وترجع إلى القرن الثاني بعد الميلاد، وصاحبها يدعى لوكيوس ابوليوس. ثم يتذكر رواية «المسخ» لكافكا التي يُمسخ فيها بطلها غريغور سامسا إلى حشرة. وفي خضم الصمت القاتل أو الخرس المطبق الذي يعيشه والذي لا يكسره سوى كلامه اللامجدي مع الآخر الأصم وصراخه، يتذكر الراوي كتاب «عربة المجانين» الذي يحكي فيه صاحبه كارولس ليسكانو كيف تحول إلى كاتب خلال السنوات التي سجن فيها. ويتذكر الراوي أيضاً رواية كواباتا «الجميلات النائمات» ورواية عتيق رحيمي «حجر الصبر». ولا تغيب الأفلام عن ذاكرة السجين، ومن الأفلام التي يستعيدها في أوج صمته القاتل فيلم «سيكرت إن ذير ايز» وفيه تأسر شرطية قاتل ابنتها ومغتصبها، ثلاثة عشر عاما في مخبأ داخل بيتها معاقبة إياه بالصمت، أي رامية إياه في سجن الصمت. إلا أن الراوي كان يسمع في ساعات صمته الطويل صوت مهرة حبيبته تناديه، وكذلك صوت أمه آتياً من الماضي الجميل.
رواية داخل رواية، بل حكايات داخل رواية، وبطل مأسور في غرفة يتلصص على نفسه في الغرفة الأخرى التي يقطنها بصفته الشبيه. أما النهاية التي يجب عدم إفشاء سرها فتعلن أن المؤلف أغلق باب الغرفة الملاصقة لغرفته ثم عاد إلى الكتابة ليبتدع سجناً جديداً وبطلاً جديداً. وهنا تكمن فرادة هذه الرواية التي لا نهاية لها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.