بتكلفة 13.2 مليار جنيه.. الصحة: إصدار 1.89 مليون قرار علاج على نفقة الدولة خلال النصف الأول من 2025    جلسة ختام أنشطة وحدات وزارة التضامن تستعرض مهارت يحتاجها سوق العمل    محافظ أسيوط يستقبل وزير الري ويتفقدان مشروع قناطر ديروط الجديدة بنسبة تنفيذ 87% ويطلقان إشارة مرور المياه من قنطرة حجز الإبراهيمية    التنمية المحلية: وحدات السكان تنفذ 1352 نشاطاً سكانياً فى 24 محافظة    استشهاد 18 فلسطينيا من منتظري المساعدات برصاص الاحتلال الإسرائيلي وسط غزة    98 شهيدا و1079 مصابا فى قصف إسرائيلى على غزة خلال 24 ساعة    الأورمان تستعد للمشاركة فى إطلاق قافلة المساعدات الغذائية إلى غزة    "الخارجية الفلسطينية" تدين الدعوات التحريضية لاقتحام المسجد الأقصى غدًا    بديل ايزاك في حال فشل ضمه.. خطة ليفربول واضحة    موعد مباراة روما ضد لانس الودية والقنوات الناقلة    فوز لاعبة معلمين بنى سويف والمنتخب ببرونزية دورة الألعاب الأفريقية لسلاح المبارزة بالجزائر    رئيس الوزراء يرحب برئيس الفيفا خلال تواجده فى مصر لقضاء عطلته    إصابة 8 أشخاص فى حادث تصادم سيارتين بطريق القاهرة الفيوم الصحراوى    الداخلية تضبط المتهمون بالتشاجر بأسلحة بيضاء فى الإسكندرية.. صور    رحمة حسن تتصدر التريند بعد حديثها حول إصابتها بالصلع من الجذور    نادية مصطفى تنعى عم أنغام بعد اكتشاف جثمانه داخل شقته عقب أيام من وفاته    بعد شائعة إبراهيم شيكا.. حقيقة مغادرة وفاء عامر البلاد    عبد الستار بركات: مشاركة ملحوظة للجالية بأثينا فى ثاني أيام انتخابات الشيوخ    وسط إقبال جماهيري.. انطلاق مهرجان «صيف بلدنا» برأس البر في دمياط    فرص جديدة واستقرار عاطفي.. اعرف حظ برج الثور في أغسطس 2025    متحدث «الصحة»: فحص 18.4 مليون مواطن ضمن المبادرة الرئاسية للكشف عن الأمراض المزمنة منذ سبتمبر 2021    منها مستشفيات المطرية وشبين الكوم.. حصول 3 وحدات سكتة دماغية على جوائز التميز    حكم بعدم دستورية قرار وزاري بإنهاء عقود الوكالة التجارية لمجاوزته حدود القانون    حكومة غزة: 73 شاحنة مساعدات دخلت القطاع يوم الجمعة ونهبت أغلبها    نقابة الموسيقيين تعلن دعمها الكامل للقيادة السياسية وتدين حملات التشويه ضد مصر    مهدد بالحبس.. القصة الكاملة لاتهام أشرف حكيمي بالاغتصاب خلال889 يوما    وزير الشباب والرياضة يفتتح ملعبًا بمركز شباب المعمورة - صور    تجهيز 476 لجنة انتخابية ل«الشيوخ».. 12 مرشحا يتنافسون على 5 مقاعد فردي بالمنيا    برلماني: المشاركة في انتخابات الشيوخ واجب وطني ورسالة لوحدة الصف    إيرادات الجمعة.. "روكي الغلابة" يتفوق على "الشاطر" ويفوز بالمركز الأول    رئيس جامعة بنها يصدر قرارات وتكليفات جديدة في وحدات ومراكز الجامعة    أفضل أدعية جلب الرزق وقضاء الديون وفقًا للكتاب والسنة    ما حكم الدعاء داخل الصلاة بقضاء حاجة دنيوية وهل تبطل الصلاة بذلك؟.. الإفتاء تجيب    صلاة الأوابين.. الأزهر للفتوى يوضح أهم أحكام صلاة الضحى    تراجع منخفض الهند «عملاق الصيف».. بيان مهم بشأن حالة الطقس الأسبوع الجاري    إصابة 9 أشخاص في حادث انقلاب ميكروباص بالشرقية    الصحة تُطلق منصة تفاعلية رقمية بمستشفيات أمانة المراكز الطبية المتخصصة    ولادة طفل من جنين مجمد منذ 30 عاما|القصة الكاملة    استجابة ل1190 استغاثة... رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر يوليو 2025    النقل: استمرار تلقي طلبات تأهيل سائقي الأتوبيسات والنقل الثقيل    الاستعلامات: 86 مؤسسة إعلامية عالمية تشارك في تغطية انتخابات الشيوخ 2025    المصريون في الرياض يشاركون في انتخابات مجلس الشيوخ 2025    طعنة غادرة أنهت حياته.. مقتل نجار دفاعًا عن ابنتيه في كفر الشيخ    تعاون بين «الجمارك وتجارية القاهرة».. لتيسير الإجراءات الجمركية    المصريون بالسعودية يواصلون التصويت في انتخابات «الشيوخ»    انطلاق قمة «ستارت» لختام أنشطة وحدات التضامن الاجتماعي بالجامعات    «بيت الزكاة والصدقات»: غدًا صرف إعانة شهر أغسطس للمستحقين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ عالم أزهري يجيب    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب قبالة سواحل مدينة "كوشيرو" اليابانية    أيمن يونس: شيكابالا سيتجه للإعلام.. وعبد الشافي سيكون بعيدا عن مجال كرة القدم    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    ترامب يخطو الخطوة الأولى في «سلم التصعيد النووي»    تعرف على أسعار اللحوم اليوم السبت 2 أغسطس 2025    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    سعر الذهب اليوم السبت 2 أغسطس 2025 يقفز لأعلى مستوياته في أسبوع    الصفاقسي التونسي يكشف تفاصيل التعاقد مع علي معلول    مشاجرة بين عمال محال تجارية بشرق سوهاج.. والمحافظ يتخذ إجراءات رادعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«بطل» سلطان العميمي يتلصص من ثقب الباب على نفسه
نشر في صوت البلد يوم 08 - 05 - 2016

يخوض الكاتب سلطان العميمي في روايته الجديدة «غرفة واحدة لا تكفي» (منشورات ضفاف والاختلاف) موضوعة (تيمة) «القرين» جاعلاً بطله الذي هو الراوي نفسه ضحية «مؤامرة» تبدو شبه قدرية، خالقاً حالاً من التشويق يجعل القارئ يفتش مع البطل نفسه عن سر هذه «المؤامرة» التي رمته في السجن بلا تهمة. يجد البطل - الرواي نفسه صدفة أسيراً في غرفة لا يذكر من رماه فيها ولا كيف اقتيد إليها. يستيقظ من نومه ليكتشف هذا السجن «الانفرادي» الذي يقبع فيه، وآخر ما يذكره قبل «الحادثة» أنه كان يمشي في منتصف الليل في شارع يقع خلف الفندق الذي قرر أن يقضي فيه أيام إجازته، ثم حصل ما حصل مما يجهله. غرفة كأنها سجن فعلاً، لكن مع باب وثقب في الباب هو نافذته الوحيدة في هذا الفراغ. حمام وسرير ولوحة على الجدار ترتسم عليها غربان («غربان أنيقة» عنوان مجموعة قصصية للكاتب نفسه)، وثلاجة تضم ماءً وطعاماً (يتجدد في طريقة غرائبية) وطاولة وكتاب عنوانه «خيارات وحيدة» يكتشف أن غلافه يحمل اسمه مع أنه لم يكتب كتاباً بهذا العنوان. لا مرآة في الغرفة، ما يعني أن الراوي لن يتمكن من رؤية وجهه طوال الشهر الذي سيقضيه سجيناً. وعندما يفتح الكتاب يجد صفحاته التي تناهز الثلاث مئة وخمسين صفحة بيضاء، ما خلا مقدمة صغيرة تقول: «في غرفة صغيرة في مكان مجهول، ثمة شخص يتلصص من ثقب الباب على شخص كان يتلصص على شخص آخر في الغرفة المجاورة له. كانوا يتلصصون جميعاً على أشخاص آخرين من دون توقف. ولا يفعلون شيئاً سوى ذلك». هذه المقدمة الغامضة التي يحملها الكتاب الفارغ هي خير مدخل إلى الرواية نفسها أولاً، ثم إلى صميم اللعبة التي يجيد العميمي حبك خيوطها، جامعاً في آن واحد بين الحدث الغرائبي أو الفانتاستيكي والحدث العبثي والفانتازي الساخر. إنهما القطبان اللذان يتجاذبان الرواية ليجعلا منها راوية واقعية وغير واقعية، واقعية في شخصية البطل - الراوي، وغير واقعية في ما يواجه هذا البطل السلبي بامتياز، من أحداث ووقائع غريبة وغير متوقعة.
في هذه الغرفة - السجن لا يجد الراوي سوى ثقب الباب نافذة وحيدة، ولو أنها تطل على غرفة أخرى يقطنها شخص يكتشف الرواي فيه صورة أخرى له، أو شبيهه كما يقول، أو قرينه وفق المقولة الفلسفية والنفسانية. وهذا الثقب يجعل من الراوي شخصاً متلصصاً، لكنه يتلصص على نفسه. وهنا تكمن إحدى الأفكار البديعة التي تعالجها الرواية. شخص يتلصص على الآخر الذي ليس سوى نفسه، في شكله وسلوكه وعاداته وملابسه وكتبه، ولا يتوانى عن تسميته «الأنا»، ثم يطلق عليه اسمه الحقيقي «قرواش الرابع»، فهذا الاسم هو أولا اسم الجد وثانياً اسم الاب وثالثاً اسم الراوي. ومن اللقطات الجميلة في هذه اللعبة التوهيمية تلك اللقطة التي يكتشف الراوي جسده عبر جسد شبيهه الذي يتلصص عليه عندما يتعرى، فيصرخ :»هذا الجسد لي»، ويُصدم عندما يكتشف عيوب جسده في عيوب جسد القرين. أما السؤال الوجودي الذي يقلقه والذي سيظل بلا جواب حتى الصفحات الأخيرة التي يجد القارئ فيها مفاجأة غير منتظرة فهو: «كيف ينام شخص واحد في غرفتين منفصلتين في الوقت نفسه؟ والسؤال يؤدي إلى سؤال آخر فآخر، لأنّ لا يقين هنا بل ظن وشك: «هل ولدنا توأمين ثم تخلى عنا أهلنا؟»، «هل ستكون نهايتي في غرفة تلاصقها غرفة يسكنها شخص يشبهني تماماً؟».
يجد الراوي الذي هو كاتب وموظف مثل قرينه، أن لا سبيل إلى قتل الفراغ والوحشة إلا في الكتابة. لم يضع «السجان» (رمز القدر) في متناوله كتاباً أبيض الصفحات وقلماً عبثاً أو مصادفة، بل هو وضعه قسراً أمام فعل الكتابة بصفته فعل خلاص وإنقاذ، ولا يجد الراوي مهرباً من الكتابة. لكنه يسأل نفسه: «ماذا سأكتب؟ هل أكتب قصة حياتي التي لم أحقق فيها إنجازاً يُذكر حتى الآن؟ أم أكتب مذكرات حبسي في هذه الغرفة؟». وعندما يقرر بدء الكتابة يجعل الكتاب من جزءين، الأول سيكون بمثابة سيرة ذاتية بعنوان «نافذة على جذوري»، والثاني أشبه بيوميات داخل السجن بعنوان طريف جداً «حين راقبت نفسي». وانطلاقاً من هذا القرار يتمكن الراوي من إحداث كوّة، ولو متوهمة، يهرب عبرها إلى ماضيه الذي يبدأ بقصة جده الذي يحمل اسمه. واستعادة قصة الجد تفتح أمامه الباب واسعاً ليمعن في كتابة نص فانتاستيكي متخيل، تمتزج فيه الأسطورة والخرافة والتراث الشعبي الشفوي وظلال المخيلة البدائية. وينجح العميمي في كتابة نص رديف أو نص داخل نص معتمداً لعبة السرد المرآوي. فالرواي لا يسرد قصة جده الغرائبية إلا بحثاً عن تصور سحري أو غير واقعي يفسر له الحالة الغريبة التي يعيشها داخل السجن. فالجد الذي يدعى قرواش وهو «نوخذة» أي صياد في البحر وفق العبارة الشعبية في الإمارات، يختفي في ظروف غامضة ثم يظهر بعد إحدى عشرة سنة. لكنّ قصته تظل حتى بعد وفاته، لغزاً يحير الجميع والراوي نفسه.
يستعيد إذاً «قرواش» الحفيد قصة جده وفق حكايات عدة رويت عنه وكل واحدة تختلف عن الثانية إلى حد التناقض في أحيان. أحدهم (عيسوب) روى أنه شاهده يرمي بنفسه عن ظهر المركب في الماء، وآخر يقول إن ساحراً مسخه ثوراً ثم حماراً ثم بعيراً ... وآخر يعترف أنه رآه يطير وآخر يفيد بأنه اختفى في طريقه من أبوظبي إلى الشارقة مروراً بدبي... أما أطرف الحكايات فتلك التي ترويها امرأة ومفادها أنه أغرم بفتاة وهام على وجهه يبحث عنها حتى بلغ زنجبار. أما قصة هذه الفتاة فلا تقل غرابة عن قصة الجد، فهي كانت شاباً يدعى هلال ثم انقلبت بسحر ساحر إلى فتاة: «نظر قرواش في وجه من أيقظه بذهول، كانت فتاة فاتنة طويلة الشعر، تلبس قميصا رجالياً خفيفاً وإزاراً. جفل في البداية خشية أن تكون جنية من جنيات البحر». لكنّ الجد الذي قال أحدهم إنه وجِد تحت شجرة الغافة ونفى أحدهم هذه المعلومة، ما لبث أن توفي بعد عام على عودته جراء نوبات صرع قضت عليه. إنها الخرافة الشعبية يعيد الروائي صوغها وسبكها، محاولاً سبر المخيلة الغرائبية الفردية والجماعية. لكنه يعتمد ما يشبه صدمة الوعي من خلال شخصية صالح العالم النفساني (غير المعلن) الذي يربط السحر والتوهيم بما يسميه «اضطراباً نفسياً» و»انفصاماً»، مفسراً الظواهر الغرائبية تفسيراً «مرضياً». ولعل لجوء الراوي إلى هذه الشخصية يدل على حاجته الى تفسير ما يحدث له من أمور لا يمكنه تفسيرها. إلا أن النهاية المفاجئة والجميلة ستحمل معها تفسيراً للغز رئيسي، لغز الراوي نفسه وقرينه ولغز أسره في الغرفة وتلصصه على شبيهه الذي هو نفسه. إنها المفاجأة التي تضفي على الرواية بعداً فانتازياً يكشف الحيلة الذكية التي اعتمدها العميمي ليجعل من روايته رواية داخل رواية، لكن في المعنى المفتوح والذي لا نهاية له.
واللافت في رواية «غرفة واحدة لا تكفي» أن الراوي نفسه (شبيه الكاتب أخيراً) لا يخفي هوسه الروائي، سواء عبره هو شخصياً أم عبر القرين الذي يملك في الغرفة الأخرى مكتبة تضم كتب الرواي. وهو إذ يمضي في لعبة القرين السردية يسترجع مثلاً رواية الكاتب البرتغالي الكبير جوزيه ساراماغو «الآخر مثلي» وفيها يسرد حكاية شخص رأى شبيهه المطابق له تماماً يؤدي دوراً في فيلم عادي شاهده، فيبحث عنه ويجده ويواجهه جهاراً. ولا تغيب الروايات عن رواية العميمي ما يمنحها المزيد من الطرافة والتفرد. فهو عندما يسرد على لسان الرواي قصة مسخ الجد إلى ثور وحمار يتذكر رواية «الحمار الذهبي»، وهي أقدم رواية في تاريخ الأدب العالمي وترجع إلى القرن الثاني بعد الميلاد، وصاحبها يدعى لوكيوس ابوليوس. ثم يتذكر رواية «المسخ» لكافكا التي يُمسخ فيها بطلها غريغور سامسا إلى حشرة. وفي خضم الصمت القاتل أو الخرس المطبق الذي يعيشه والذي لا يكسره سوى كلامه اللامجدي مع الآخر الأصم وصراخه، يتذكر الراوي كتاب «عربة المجانين» الذي يحكي فيه صاحبه كارولس ليسكانو كيف تحول إلى كاتب خلال السنوات التي سجن فيها. ويتذكر الراوي أيضاً رواية كواباتا «الجميلات النائمات» ورواية عتيق رحيمي «حجر الصبر». ولا تغيب الأفلام عن ذاكرة السجين، ومن الأفلام التي يستعيدها في أوج صمته القاتل فيلم «سيكرت إن ذير ايز» وفيه تأسر شرطية قاتل ابنتها ومغتصبها، ثلاثة عشر عاما في مخبأ داخل بيتها معاقبة إياه بالصمت، أي رامية إياه في سجن الصمت. إلا أن الراوي كان يسمع في ساعات صمته الطويل صوت مهرة حبيبته تناديه، وكذلك صوت أمه آتياً من الماضي الجميل.
رواية داخل رواية، بل حكايات داخل رواية، وبطل مأسور في غرفة يتلصص على نفسه في الغرفة الأخرى التي يقطنها بصفته الشبيه. أما النهاية التي يجب عدم إفشاء سرها فتعلن أن المؤلف أغلق باب الغرفة الملاصقة لغرفته ثم عاد إلى الكتابة ليبتدع سجناً جديداً وبطلاً جديداً. وهنا تكمن فرادة هذه الرواية التي لا نهاية لها.
يخوض الكاتب سلطان العميمي في روايته الجديدة «غرفة واحدة لا تكفي» (منشورات ضفاف والاختلاف) موضوعة (تيمة) «القرين» جاعلاً بطله الذي هو الراوي نفسه ضحية «مؤامرة» تبدو شبه قدرية، خالقاً حالاً من التشويق يجعل القارئ يفتش مع البطل نفسه عن سر هذه «المؤامرة» التي رمته في السجن بلا تهمة. يجد البطل - الرواي نفسه صدفة أسيراً في غرفة لا يذكر من رماه فيها ولا كيف اقتيد إليها. يستيقظ من نومه ليكتشف هذا السجن «الانفرادي» الذي يقبع فيه، وآخر ما يذكره قبل «الحادثة» أنه كان يمشي في منتصف الليل في شارع يقع خلف الفندق الذي قرر أن يقضي فيه أيام إجازته، ثم حصل ما حصل مما يجهله. غرفة كأنها سجن فعلاً، لكن مع باب وثقب في الباب هو نافذته الوحيدة في هذا الفراغ. حمام وسرير ولوحة على الجدار ترتسم عليها غربان («غربان أنيقة» عنوان مجموعة قصصية للكاتب نفسه)، وثلاجة تضم ماءً وطعاماً (يتجدد في طريقة غرائبية) وطاولة وكتاب عنوانه «خيارات وحيدة» يكتشف أن غلافه يحمل اسمه مع أنه لم يكتب كتاباً بهذا العنوان. لا مرآة في الغرفة، ما يعني أن الراوي لن يتمكن من رؤية وجهه طوال الشهر الذي سيقضيه سجيناً. وعندما يفتح الكتاب يجد صفحاته التي تناهز الثلاث مئة وخمسين صفحة بيضاء، ما خلا مقدمة صغيرة تقول: «في غرفة صغيرة في مكان مجهول، ثمة شخص يتلصص من ثقب الباب على شخص كان يتلصص على شخص آخر في الغرفة المجاورة له. كانوا يتلصصون جميعاً على أشخاص آخرين من دون توقف. ولا يفعلون شيئاً سوى ذلك». هذه المقدمة الغامضة التي يحملها الكتاب الفارغ هي خير مدخل إلى الرواية نفسها أولاً، ثم إلى صميم اللعبة التي يجيد العميمي حبك خيوطها، جامعاً في آن واحد بين الحدث الغرائبي أو الفانتاستيكي والحدث العبثي والفانتازي الساخر. إنهما القطبان اللذان يتجاذبان الرواية ليجعلا منها راوية واقعية وغير واقعية، واقعية في شخصية البطل - الراوي، وغير واقعية في ما يواجه هذا البطل السلبي بامتياز، من أحداث ووقائع غريبة وغير متوقعة.
في هذه الغرفة - السجن لا يجد الراوي سوى ثقب الباب نافذة وحيدة، ولو أنها تطل على غرفة أخرى يقطنها شخص يكتشف الرواي فيه صورة أخرى له، أو شبيهه كما يقول، أو قرينه وفق المقولة الفلسفية والنفسانية. وهذا الثقب يجعل من الراوي شخصاً متلصصاً، لكنه يتلصص على نفسه. وهنا تكمن إحدى الأفكار البديعة التي تعالجها الرواية. شخص يتلصص على الآخر الذي ليس سوى نفسه، في شكله وسلوكه وعاداته وملابسه وكتبه، ولا يتوانى عن تسميته «الأنا»، ثم يطلق عليه اسمه الحقيقي «قرواش الرابع»، فهذا الاسم هو أولا اسم الجد وثانياً اسم الاب وثالثاً اسم الراوي. ومن اللقطات الجميلة في هذه اللعبة التوهيمية تلك اللقطة التي يكتشف الراوي جسده عبر جسد شبيهه الذي يتلصص عليه عندما يتعرى، فيصرخ :»هذا الجسد لي»، ويُصدم عندما يكتشف عيوب جسده في عيوب جسد القرين. أما السؤال الوجودي الذي يقلقه والذي سيظل بلا جواب حتى الصفحات الأخيرة التي يجد القارئ فيها مفاجأة غير منتظرة فهو: «كيف ينام شخص واحد في غرفتين منفصلتين في الوقت نفسه؟ والسؤال يؤدي إلى سؤال آخر فآخر، لأنّ لا يقين هنا بل ظن وشك: «هل ولدنا توأمين ثم تخلى عنا أهلنا؟»، «هل ستكون نهايتي في غرفة تلاصقها غرفة يسكنها شخص يشبهني تماماً؟».
يجد الراوي الذي هو كاتب وموظف مثل قرينه، أن لا سبيل إلى قتل الفراغ والوحشة إلا في الكتابة. لم يضع «السجان» (رمز القدر) في متناوله كتاباً أبيض الصفحات وقلماً عبثاً أو مصادفة، بل هو وضعه قسراً أمام فعل الكتابة بصفته فعل خلاص وإنقاذ، ولا يجد الراوي مهرباً من الكتابة. لكنه يسأل نفسه: «ماذا سأكتب؟ هل أكتب قصة حياتي التي لم أحقق فيها إنجازاً يُذكر حتى الآن؟ أم أكتب مذكرات حبسي في هذه الغرفة؟». وعندما يقرر بدء الكتابة يجعل الكتاب من جزءين، الأول سيكون بمثابة سيرة ذاتية بعنوان «نافذة على جذوري»، والثاني أشبه بيوميات داخل السجن بعنوان طريف جداً «حين راقبت نفسي». وانطلاقاً من هذا القرار يتمكن الراوي من إحداث كوّة، ولو متوهمة، يهرب عبرها إلى ماضيه الذي يبدأ بقصة جده الذي يحمل اسمه. واستعادة قصة الجد تفتح أمامه الباب واسعاً ليمعن في كتابة نص فانتاستيكي متخيل، تمتزج فيه الأسطورة والخرافة والتراث الشعبي الشفوي وظلال المخيلة البدائية. وينجح العميمي في كتابة نص رديف أو نص داخل نص معتمداً لعبة السرد المرآوي. فالرواي لا يسرد قصة جده الغرائبية إلا بحثاً عن تصور سحري أو غير واقعي يفسر له الحالة الغريبة التي يعيشها داخل السجن. فالجد الذي يدعى قرواش وهو «نوخذة» أي صياد في البحر وفق العبارة الشعبية في الإمارات، يختفي في ظروف غامضة ثم يظهر بعد إحدى عشرة سنة. لكنّ قصته تظل حتى بعد وفاته، لغزاً يحير الجميع والراوي نفسه.
يستعيد إذاً «قرواش» الحفيد قصة جده وفق حكايات عدة رويت عنه وكل واحدة تختلف عن الثانية إلى حد التناقض في أحيان. أحدهم (عيسوب) روى أنه شاهده يرمي بنفسه عن ظهر المركب في الماء، وآخر يقول إن ساحراً مسخه ثوراً ثم حماراً ثم بعيراً ... وآخر يعترف أنه رآه يطير وآخر يفيد بأنه اختفى في طريقه من أبوظبي إلى الشارقة مروراً بدبي... أما أطرف الحكايات فتلك التي ترويها امرأة ومفادها أنه أغرم بفتاة وهام على وجهه يبحث عنها حتى بلغ زنجبار. أما قصة هذه الفتاة فلا تقل غرابة عن قصة الجد، فهي كانت شاباً يدعى هلال ثم انقلبت بسحر ساحر إلى فتاة: «نظر قرواش في وجه من أيقظه بذهول، كانت فتاة فاتنة طويلة الشعر، تلبس قميصا رجالياً خفيفاً وإزاراً. جفل في البداية خشية أن تكون جنية من جنيات البحر». لكنّ الجد الذي قال أحدهم إنه وجِد تحت شجرة الغافة ونفى أحدهم هذه المعلومة، ما لبث أن توفي بعد عام على عودته جراء نوبات صرع قضت عليه. إنها الخرافة الشعبية يعيد الروائي صوغها وسبكها، محاولاً سبر المخيلة الغرائبية الفردية والجماعية. لكنه يعتمد ما يشبه صدمة الوعي من خلال شخصية صالح العالم النفساني (غير المعلن) الذي يربط السحر والتوهيم بما يسميه «اضطراباً نفسياً» و»انفصاماً»، مفسراً الظواهر الغرائبية تفسيراً «مرضياً». ولعل لجوء الراوي إلى هذه الشخصية يدل على حاجته الى تفسير ما يحدث له من أمور لا يمكنه تفسيرها. إلا أن النهاية المفاجئة والجميلة ستحمل معها تفسيراً للغز رئيسي، لغز الراوي نفسه وقرينه ولغز أسره في الغرفة وتلصصه على شبيهه الذي هو نفسه. إنها المفاجأة التي تضفي على الرواية بعداً فانتازياً يكشف الحيلة الذكية التي اعتمدها العميمي ليجعل من روايته رواية داخل رواية، لكن في المعنى المفتوح والذي لا نهاية له.
واللافت في رواية «غرفة واحدة لا تكفي» أن الراوي نفسه (شبيه الكاتب أخيراً) لا يخفي هوسه الروائي، سواء عبره هو شخصياً أم عبر القرين الذي يملك في الغرفة الأخرى مكتبة تضم كتب الرواي. وهو إذ يمضي في لعبة القرين السردية يسترجع مثلاً رواية الكاتب البرتغالي الكبير جوزيه ساراماغو «الآخر مثلي» وفيها يسرد حكاية شخص رأى شبيهه المطابق له تماماً يؤدي دوراً في فيلم عادي شاهده، فيبحث عنه ويجده ويواجهه جهاراً. ولا تغيب الروايات عن رواية العميمي ما يمنحها المزيد من الطرافة والتفرد. فهو عندما يسرد على لسان الرواي قصة مسخ الجد إلى ثور وحمار يتذكر رواية «الحمار الذهبي»، وهي أقدم رواية في تاريخ الأدب العالمي وترجع إلى القرن الثاني بعد الميلاد، وصاحبها يدعى لوكيوس ابوليوس. ثم يتذكر رواية «المسخ» لكافكا التي يُمسخ فيها بطلها غريغور سامسا إلى حشرة. وفي خضم الصمت القاتل أو الخرس المطبق الذي يعيشه والذي لا يكسره سوى كلامه اللامجدي مع الآخر الأصم وصراخه، يتذكر الراوي كتاب «عربة المجانين» الذي يحكي فيه صاحبه كارولس ليسكانو كيف تحول إلى كاتب خلال السنوات التي سجن فيها. ويتذكر الراوي أيضاً رواية كواباتا «الجميلات النائمات» ورواية عتيق رحيمي «حجر الصبر». ولا تغيب الأفلام عن ذاكرة السجين، ومن الأفلام التي يستعيدها في أوج صمته القاتل فيلم «سيكرت إن ذير ايز» وفيه تأسر شرطية قاتل ابنتها ومغتصبها، ثلاثة عشر عاما في مخبأ داخل بيتها معاقبة إياه بالصمت، أي رامية إياه في سجن الصمت. إلا أن الراوي كان يسمع في ساعات صمته الطويل صوت مهرة حبيبته تناديه، وكذلك صوت أمه آتياً من الماضي الجميل.
رواية داخل رواية، بل حكايات داخل رواية، وبطل مأسور في غرفة يتلصص على نفسه في الغرفة الأخرى التي يقطنها بصفته الشبيه. أما النهاية التي يجب عدم إفشاء سرها فتعلن أن المؤلف أغلق باب الغرفة الملاصقة لغرفته ثم عاد إلى الكتابة ليبتدع سجناً جديداً وبطلاً جديداً. وهنا تكمن فرادة هذه الرواية التي لا نهاية لها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.