تدور أحداث رواية "دعاء الكروان" لعميد الأدب العربي، طه حسين، حول شخصية " آمنة" التي قُتلت أختها "هنادي" على يد خالها بعد أن اكتشف حملها سفاحا "ليغسل عاره بيده"، كما يقول فى الرواية. آمنت آمنة أن الجاني ومستحق العقاب الحقيقي هو المهندس الزراعي الذى غرر بأختها وأن أختها ضحية. رغم مرور عقود على صدور هذه الرواية عام 1934، لا تزال النساء يدفعن ثمن ما تسمى بجرائم الشرف، وقتلهن وحده هو ما يحفظ "شرف" العائلة. فالأردنية أحلام وقبلها آيات والفلسطينية إسراء غريب واليمينة مآب وسميحة الأسدي والكويتية هاجرالعاصي، وغيرهن الآلاف، تنقل وسائل الإعلام خبر مقتلهن سنويا على يد أحد أفراد عوائلهن فيما يُتعقد أنه "دفاعا عن الشرف". وعادة في هذه الحوادث، إذا ما وصلت للقضاء، تُذبح الضحية مرتين، مرة بالقتل ومرة بالتستر على المجرم وتبرئته اجتماعيا و قانونيا. لكن الغالبية العظمى من هذه الحوادث تبقى طي الكتمان وقد تُدفن الحقيقة فيها مع الضحايا كتلك الشابة الثلاثينية التي عُثر على جثتها في بئر بمدينة الخليل في الأراضي الفلسطينية قبل أيام، بعد 9 سنوات من قتلها وسط شكوك بأنها قتلت في جريمة شرف. قبور بلا شواهد وبحسب ناشطة كويتية فضلت عدم ذكر اسمها، تُرتكب عشرات الجرائم وتُدفن الجثث في الصحراء ويُزعم أن الفتاة تزوجت أو سافرت، وأحيانا تستقر رصاصة طائشة من سلاح أحد ذكور العائلة في صدر إحدى فتياتها "دون قصد" ولا أحد يعرف عن الجريمة شيئا، الأمر الذي يجعل أمر إحصاء الظاهرة مستحيلًا. وتقول المحامية ورئيس مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، انتصار السعيد، إن "الأرقام الحقيقة للظاهرة مرعبة، وغالبا لا يجري الإبلاغ عنها للتستر على الجاني وحمايته، ولا سيما أنه أحد أفراد العائلة. وأحيانًا يتم التذرع بحماية سمعة القتيلة أو خصوصيتها، في ظل قبول الأطراف والجهات المختلفة للعنف الموجه نحو النساء ضمنيًّا وعلنيًّا". وتكمن الخطورة الأكبر في استمرار دائرة القتل واتساعها دون أن يدري أحد عنها شيئًا، ودون ردع يُذكر. ف"تراخي القوانين" في العالم العربي يسمح بتزايد هذا النوع من الجرائم، إذ "توحي الأحكام المخففة بأنه بإمكان أي رجل أن يقتل ابنته أواخته أو زوجته "دون عقوبة" كما تقول بنان أبو زين الدين الناشطة النسوية الأردنية. إسقاط الحق الشخصي .. الضحية والجلاد معًا ينص قانون العقوبات الأردني على أنه "يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بثورة غضب شديد"، وبناء عليه لا تتجاوز مدة العقوبة ثلاث سنوات ولا تقل عن سنة واحدة. والقانون نفسه يجيز لأهل الضحية "إسقاط الحق الشخصي" أى حقهم في القصاص لابنتهم أو أختهم مما يخفض الحكم المخفف بالأساس إلى النصف. وتؤكد أبو زين الدين أن هاتين المادتين من القانون تطبقان في غالبية القضايا لأن الأهالي يريدون حماية "الجاني" والذي يكون أحد أفراد العائلة مما يسمح له فى النهاية بالإفلات من العقوبة، وأحيانًا تُستغل الأحداث من أبناء العائلة لتنفيذ الجريمة وبالتالي يخضعون لعقوبات مخففة للغاية. كما أن القانون الأردني، بحسب مسؤولة دراسات المرأة في الجامعة القانونية بالأردن، عبير الدبابنة، "يكيل بمكيالين إذ يشترط لاعتبار القضية بداعي الشرف، إذا كان الجاني امرأة، أن تضبط زوجها في فراش الزوجية"، وذلك لأن المشرع أخذ بعين الاعتبار موضوع تعدد الزوجات، في حين تعتبر أن الجريمة "قتل بداعي الشرف" إذا كان الجاني رجلًا، وضبط المرأة في أي مكان عام، وهو أمر تعتبره الدبابنة منافيًا للدستور وللدين الذي يساوي بين الرجل والمرأة في عقوبة "الزنا". ويشجع هذا التمييز والأعذار المخففة في القانون على استمرار ارتكاب جرائم قتل بدعوى الدفاع عن "الشرف". وبحسب جمعية "معهد تضامن النساء الأردني" الحقوقية، سُجلت تسع جرائم قتل أسرية بحق النساء في الأردن منذ بداية عام 2020 ، كما رُصدت 21 جريمة من النوع نفسه خلال عام 2019 و 60 في المئة من هذه الجرائم وقعت بحق شابات تتراوح أعمارهن بين ال 18 و 37 عاما. ويكون السبب الحقيقي وراء كثير من هذه الجرائم خلافات اجتماعية كإرغام الفتاة على الزواج، أو زواجها من شخص من دين أو قومية مغايرة، أوالدخول في علاقة عاطفية مع شخص ترفضه العائلة، أوطلب الطلاق، وقد يكون القتل بسبب خلافات مالية كخلاف على الميراث مثلا، إلا أن مرتكبيها يستغلون "الشرف" للتنصل من العقوبة أولتخفيفها. ووفقًا للفحوص الشرعية يتبين أن غالبية الفتيات اللواتي قتلن "دفاعًا عن الشرف" كن عذارى، كما تؤكد أبوزين من الأردن والسعيد من مصر. كذلك قد يكون القتل بدافع التغطية على جريمة أخرى كسفاح القربى مثلًا أو استسهال اللجوء إلى العنف وذلك فى إطار انتشار "ثقافة العنف" وبخاصة ضد الإناث في العالم العربي، أو الشعور بالأحقية في تحجيم اختيارات المرأة ومن ثم "تقويم سلوكها" كما يؤكد الدكتور هاني المصري الحقوقي الفلسطيني. الأردن ليس استثناءً وفق تقرير مكتب الأممالمتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، أكثر من نصف ضحايا جرائم القتل لعام 2018 في جميع أنحاء العالم قُتلن على يد شركاء حياتهن أو أقارب، معظمهن في أفريقيا، تليها الأمريكيتان، ثم أوروبا. بالطبع لم يقتلن جميعًا "دفاعًا عن الشرف"، لكن الأرقام تشير لفشل جهود مواجهة "قتل الشرف" بحسب التقرير. والخلل القانوني الذي يعاني منه الأردن هو نفسه في مصر وعدد من الدول العربية الأخرى، كما تؤكد انتصار السعيد، فالقانون المصري بحسب السعيد يسمح "للجاني أن يسير في جنازة ضحيته"، وهو ما يحدث في كثير من الحالات. فقانون العقوبات المصري يخفف عقوبة الزوج الذي "فاجأ زوجته حال تلبسها بالزنا وقتلها في الحال.. بالحبس من 24 ساعة إلى ثلاث سنوات". وتقول السعيد إنه لا يتم تخفيف الحكم على الزوجة إن قتلت زوجها للسبب نفسه، كما أن هذه المادة هي الوحيدة في القانون المصري التي تنص على عقوبة مخففة في جريمة القتل. ورغم وضوح النص كما تقول السعيد إلا أنه يتم الالتفاف عليه في التطبيق، فالفيصل فى تخفيف العقوبة هنا هو عنصر المفاجأة وهو ما لا يتحقق في معظم الأحيان. وغالبًا تكون الإشاعات أو مرض نفسي للزوج أو الاتهامات الكيدية هي دوافع الجريمة ورغم ذلك يتم تخفيف العقوبة. وأجرى المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر دراسة عام 2015 أفادت بأن 70 في المئة من جرائم الشرف لم تقع في حالة تلبس وإنما اعتمد مرتكبيها على الشائعات. وأوضحت الدراسة أن تحرِيات جهات التحقيق في 60 في المئة من هذه الجرائم أكدت سوء ظن الجاني بالضحية والتربص بها. وبالنظر لقوانين العقوبات فى دول عربية أخرى، نكتشف أن نفس الأعذار المخففة تقريبًا تظهر في معظمها مع اختلافات طفيفة. فمثلًا فى المادة 153 من "قانون الجزاء" الكويتي تمييز فى العقوبة بين الرجل والمرأة في حالة الإقدام على قتل "الشرف"، كما هو الحال في القانونين المصري والأردني، إلا أن القانون الكويتي يسمح أيضًا بمعاقبة القاتل بالغرامة فقط وليس الحبس بالضرورة. وتنص المادة على معاقبة من يقتل زوجته أو ابنته أو أمه أو أخته "حال تلبسها بمواقعة رجل لها" بالحبس مدة لا تجاوز 3 سنوات أو بغرامة لا تتجاوز 45 دولاراً، أوبكلتا العقوبتين. وقد أثارت هذه المادة كثيرًا من الجدل وسط دعوات بإلغائها منذ سنوات، إلا أنها لاتزال قيد المناقشات في مجلس الأمة منذ عام 2017 إذ تقف بعض القوى الإجتماعية وراء الإبقاء عليها. وتقول أستاذة القانون الخاص في كلية الحقوق بجامعة الكويت، مشاعل الهاجري، إن "الإبقاء على هذه النصوص جريمة تبيح القتل بلا عقاب، وبرغم تحديد النص لحالة التلبس، إلا أنه فى ظل غياب التعريفات القانونية الواضحة فإن كل ما تفعله المرأة يمكن أن يعتبر تهديدا لشرف الرجل ككشف شعرها أو الخروج من البيت، أو استخدام مواقع التواصل الاجتماعي للمحادثة أو لنشر صور". ويشترط قانون العقوبات السوري أيضًا عنصر المفاجأة كالقانون الكويتي والمصري والأردني لتخفيف الحكم في حالة القتل. إلا أن العقوبة المنصوص عليها في قانون العقوبات السوري أشد من القوانين الأخرى، إذ تنص المادة 548 منه "تكون العقوبة الحبسَ من خمس إلى سبع سنوات". هذا التعديل فى القانون السوري شدد العقوبة التي كانت سابقاً سنتين فقط، لكنه لم يقدم تعريفا محددا لجرائم الشرف كحال معظم قوانين العقوبات، الأمر الذي يسمح باستمرار الظاهرة كما تقول المحامية المصرية انتصار السعيد. ووصل عدد النساء اللواتي قتلن بداعي "الشرف" إلى 200 امرأة عام 2011 حسب مرصد نساء سوريا. وتطالب الناشطات والحقوقيات في معظم الدول العربية بتعديل منظومة القوانين بحيث تشدد العقوبة لتتناسب مع الجرم المرتكب و معاملته كأي جريمة قتل. وهى الخطوة التي أقدمت عليها تونس ولبنان حين ألغتا المادة الخاصة ب "جرائم الشرف". كما ألُغيت الأعذار المخففة في قانون العقوبات المعمول به في الأراضي الفلسطينية في مايو/ أيار عام 2014 . القبول الاجتماعي و أجهزة الدولة إلى جانب القوانين، يعد "القتل دفاعًا عن الشرف" أمرًا مقبولًا اجتماعيًّا في عدد من الدول العربية وغير العربية. ففى أكبر استطلاع للرأي شارك فيه أكثر من 25 ألفًا من عشر دول عربية أجرته شبكة البارومتر العربي البحثية المستقلة في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لصالح بي بي سي عربي، سألنا المشاركين عن مدى قبولهم " للقتل غسلًا للعار" فكانت الدولة الأعلى عربيًّا الجزائر بنسبة 27 % تليها المغرب بنسبة 25 % ثم الأردن بنسبة 21%. وأجري هذا الاستطلاع، في أواخر عام 2018 وربيع عام 2019 على مبحوثين من تونس والمغرب والجزائر والعراق والأردن ولبنان ومصر وليبيا واليمن والسودان بالإضافة إلى الأراضي الفلسطينية. هذا القبول يمتد أيضًا ليشمل أجهزة الدولة كما تؤكد انتصار السعيد. فأجهزة الشرطة لا تتعامل مع البلاغات بالجدية المطلوبة، كما يتم الاكتفاء بتعهد من جانب الأسرة في حالة الشكوى من العنف الأسري الأمر الذى غالبا ما يتطور لاحقا إلى القتل. كذلك تتكتم أجهزة التحقيق أحيانًا على تفاصيل القضية، كما حدث في حالة الفلسطينية إسراء غريب التي نفى النائب العام شبهة "قتل الشرف" في قضيتها وتحفظ على التفاصيل "احترامًا لخصوصية القتيلة" كما ورد في بيان النيابة. والبرلمانات تبحث عن تأييد من الناخبين، فلا تتحرك لإقرار قوانين أكثر إنصافًا. فمثلًا أقر البرلمان اللبناني قانونًا موحدًا للعنف ضد المرأة في 2014، إلا أنه ما زال قانونًا باهتًا ولم يتم مناقشته بالقدر الكافي. كما رفض البرلمان الأردني مرتين تعديل المواد المتعلقة بقتل الشرف. وما زال البرلمان الكويتي عاجزًا عن إسقاط الأعذار المخففة لقتل الشرف منذ سنوات. الحل ليس في القوانين وحدها وبالرغم من أهمية مراجعة القوانين لتحقيق الردع كما تقول الناشطة النسوية الأردنية، بنان أبو زين الدين، إلا أنها وحدها غير كافية لمواجهة الظاهرة المنتشرة في عدد من الدول وعلى رأسها الأردن. فمثلًا في الأراضي الفلسطينية لم يسهم تعديل القانون في تراجع حالات قتل النساء. ففي عام 2016، رصد مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي، 23 حالة وفاة لسيدات في ظروف غامضة وهو ما رجح المركز أنه قد يكون قتل تم تحت اسم "الشرف". وتؤكد بنان أبو زين الدين، أن تغيير الثقافة التي تدين الضحية هو أول طريق الحل، فهناك حاجة لتغيير المفاهيم المجتمعية التي تربط الشرف والعيب بسلوك المرأة، و"تُطّبع العنف تجاهها" لوقف هذه الممارسات. وهذا التغيير سيسهم أيضًا في بناء قاعدة شعبية تضغط من أجل تعديل التشريعات المعطّلة في البرلمانات. وتضيف الناشطة النسوية أن حالة الطوارئ قد أعلنت بعد وفاة 11 أردنيًّا بسبب تفشي فيروس كورونا، وبالمقارنة مع ذلك يتطلب مقتل 10 نساء منذ مطلع العام في حوادث "شرف" تحركًا سريعًا على المستوى الوطني وتعاونًا بين المشرعين والمجتمع المدني والإعلام. وتضيف السعيد من مصر أن هذا التغيير في القبول الاجتماعي للعنف والقتل بحق النساء يتطلب تكثيف حملات التوعية وعدم ربطها بحادثة محددة. كما يتطلب التركيز على التربية، فبعض النساء شريكات في القمع الذي يقع عليهن ويعدن إنتاجه. ويتطلب أيضًا التحرر من ثقافة الصمت إزاء العنف وتطوير مؤسسات الرقابة والرصد سواء التابعة للدولة أو للمجتمع المدني لوضع الاستراتيجيات الدقيقة والفعالة لمنع هذه الجرائم أو الحد منها. وينبغي أيضًا تشجيع مؤسسات الدولة على أخذ شكاوى العنف ضد النساء على محمل الجد، وإتخاذ التدابير المناسبة لضمان حصول الناجيات من العنف الأسري على مأوى دون المساس بحريتهن. تدور أحداث رواية "دعاء الكروان" لعميد الأدب العربي، طه حسين، حول شخصية " آمنة" التي قُتلت أختها "هنادي" على يد خالها بعد أن اكتشف حملها سفاحا "ليغسل عاره بيده"، كما يقول فى الرواية. آمنت آمنة أن الجاني ومستحق العقاب الحقيقي هو المهندس الزراعي الذى غرر بأختها وأن أختها ضحية. رغم مرور عقود على صدور هذه الرواية عام 1934، لا تزال النساء يدفعن ثمن ما تسمى بجرائم الشرف، وقتلهن وحده هو ما يحفظ "شرف" العائلة. فالأردنية أحلام وقبلها آيات والفلسطينية إسراء غريب واليمينة مآب وسميحة الأسدي والكويتية هاجرالعاصي، وغيرهن الآلاف، تنقل وسائل الإعلام خبر مقتلهن سنويا على يد أحد أفراد عوائلهن فيما يُتعقد أنه "دفاعا عن الشرف". وعادة في هذه الحوادث، إذا ما وصلت للقضاء، تُذبح الضحية مرتين، مرة بالقتل ومرة بالتستر على المجرم وتبرئته اجتماعيا و قانونيا. لكن الغالبية العظمى من هذه الحوادث تبقى طي الكتمان وقد تُدفن الحقيقة فيها مع الضحايا كتلك الشابة الثلاثينية التي عُثر على جثتها في بئر بمدينة الخليل في الأراضي الفلسطينية قبل أيام، بعد 9 سنوات من قتلها وسط شكوك بأنها قتلت في جريمة شرف. قبور بلا شواهد وبحسب ناشطة كويتية فضلت عدم ذكر اسمها، تُرتكب عشرات الجرائم وتُدفن الجثث في الصحراء ويُزعم أن الفتاة تزوجت أو سافرت، وأحيانا تستقر رصاصة طائشة من سلاح أحد ذكور العائلة في صدر إحدى فتياتها "دون قصد" ولا أحد يعرف عن الجريمة شيئا، الأمر الذي يجعل أمر إحصاء الظاهرة مستحيلًا. وتقول المحامية ورئيس مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، انتصار السعيد، إن "الأرقام الحقيقة للظاهرة مرعبة، وغالبا لا يجري الإبلاغ عنها للتستر على الجاني وحمايته، ولا سيما أنه أحد أفراد العائلة. وأحيانًا يتم التذرع بحماية سمعة القتيلة أو خصوصيتها، في ظل قبول الأطراف والجهات المختلفة للعنف الموجه نحو النساء ضمنيًّا وعلنيًّا". وتكمن الخطورة الأكبر في استمرار دائرة القتل واتساعها دون أن يدري أحد عنها شيئًا، ودون ردع يُذكر. ف"تراخي القوانين" في العالم العربي يسمح بتزايد هذا النوع من الجرائم، إذ "توحي الأحكام المخففة بأنه بإمكان أي رجل أن يقتل ابنته أواخته أو زوجته "دون عقوبة" كما تقول بنان أبو زين الدين الناشطة النسوية الأردنية. إسقاط الحق الشخصي .. الضحية والجلاد معًا ينص قانون العقوبات الأردني على أنه "يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بثورة غضب شديد"، وبناء عليه لا تتجاوز مدة العقوبة ثلاث سنوات ولا تقل عن سنة واحدة. والقانون نفسه يجيز لأهل الضحية "إسقاط الحق الشخصي" أى حقهم في القصاص لابنتهم أو أختهم مما يخفض الحكم المخفف بالأساس إلى النصف. وتؤكد أبو زين الدين أن هاتين المادتين من القانون تطبقان في غالبية القضايا لأن الأهالي يريدون حماية "الجاني" والذي يكون أحد أفراد العائلة مما يسمح له فى النهاية بالإفلات من العقوبة، وأحيانًا تُستغل الأحداث من أبناء العائلة لتنفيذ الجريمة وبالتالي يخضعون لعقوبات مخففة للغاية. كما أن القانون الأردني، بحسب مسؤولة دراسات المرأة في الجامعة القانونية بالأردن، عبير الدبابنة، "يكيل بمكيالين إذ يشترط لاعتبار القضية بداعي الشرف، إذا كان الجاني امرأة، أن تضبط زوجها في فراش الزوجية"، وذلك لأن المشرع أخذ بعين الاعتبار موضوع تعدد الزوجات، في حين تعتبر أن الجريمة "قتل بداعي الشرف" إذا كان الجاني رجلًا، وضبط المرأة في أي مكان عام، وهو أمر تعتبره الدبابنة منافيًا للدستور وللدين الذي يساوي بين الرجل والمرأة في عقوبة "الزنا". ويشجع هذا التمييز والأعذار المخففة في القانون على استمرار ارتكاب جرائم قتل بدعوى الدفاع عن "الشرف". وبحسب جمعية "معهد تضامن النساء الأردني" الحقوقية، سُجلت تسع جرائم قتل أسرية بحق النساء في الأردن منذ بداية عام 2020 ، كما رُصدت 21 جريمة من النوع نفسه خلال عام 2019 و 60 في المئة من هذه الجرائم وقعت بحق شابات تتراوح أعمارهن بين ال 18 و 37 عاما. ويكون السبب الحقيقي وراء كثير من هذه الجرائم خلافات اجتماعية كإرغام الفتاة على الزواج، أو زواجها من شخص من دين أو قومية مغايرة، أوالدخول في علاقة عاطفية مع شخص ترفضه العائلة، أوطلب الطلاق، وقد يكون القتل بسبب خلافات مالية كخلاف على الميراث مثلا، إلا أن مرتكبيها يستغلون "الشرف" للتنصل من العقوبة أولتخفيفها. ووفقًا للفحوص الشرعية يتبين أن غالبية الفتيات اللواتي قتلن "دفاعًا عن الشرف" كن عذارى، كما تؤكد أبوزين من الأردن والسعيد من مصر. كذلك قد يكون القتل بدافع التغطية على جريمة أخرى كسفاح القربى مثلًا أو استسهال اللجوء إلى العنف وذلك فى إطار انتشار "ثقافة العنف" وبخاصة ضد الإناث في العالم العربي، أو الشعور بالأحقية في تحجيم اختيارات المرأة ومن ثم "تقويم سلوكها" كما يؤكد الدكتور هاني المصري الحقوقي الفلسطيني. الأردن ليس استثناءً وفق تقرير مكتب الأممالمتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، أكثر من نصف ضحايا جرائم القتل لعام 2018 في جميع أنحاء العالم قُتلن على يد شركاء حياتهن أو أقارب، معظمهن في أفريقيا، تليها الأمريكيتان، ثم أوروبا. بالطبع لم يقتلن جميعًا "دفاعًا عن الشرف"، لكن الأرقام تشير لفشل جهود مواجهة "قتل الشرف" بحسب التقرير. والخلل القانوني الذي يعاني منه الأردن هو نفسه في مصر وعدد من الدول العربية الأخرى، كما تؤكد انتصار السعيد، فالقانون المصري بحسب السعيد يسمح "للجاني أن يسير في جنازة ضحيته"، وهو ما يحدث في كثير من الحالات. فقانون العقوبات المصري يخفف عقوبة الزوج الذي "فاجأ زوجته حال تلبسها بالزنا وقتلها في الحال.. بالحبس من 24 ساعة إلى ثلاث سنوات". وتقول السعيد إنه لا يتم تخفيف الحكم على الزوجة إن قتلت زوجها للسبب نفسه، كما أن هذه المادة هي الوحيدة في القانون المصري التي تنص على عقوبة مخففة في جريمة القتل. ورغم وضوح النص كما تقول السعيد إلا أنه يتم الالتفاف عليه في التطبيق، فالفيصل فى تخفيف العقوبة هنا هو عنصر المفاجأة وهو ما لا يتحقق في معظم الأحيان. وغالبًا تكون الإشاعات أو مرض نفسي للزوج أو الاتهامات الكيدية هي دوافع الجريمة ورغم ذلك يتم تخفيف العقوبة. وأجرى المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر دراسة عام 2015 أفادت بأن 70 في المئة من جرائم الشرف لم تقع في حالة تلبس وإنما اعتمد مرتكبيها على الشائعات. وأوضحت الدراسة أن تحرِيات جهات التحقيق في 60 في المئة من هذه الجرائم أكدت سوء ظن الجاني بالضحية والتربص بها. وبالنظر لقوانين العقوبات فى دول عربية أخرى، نكتشف أن نفس الأعذار المخففة تقريبًا تظهر في معظمها مع اختلافات طفيفة. فمثلًا فى المادة 153 من "قانون الجزاء" الكويتي تمييز فى العقوبة بين الرجل والمرأة في حالة الإقدام على قتل "الشرف"، كما هو الحال في القانونين المصري والأردني، إلا أن القانون الكويتي يسمح أيضًا بمعاقبة القاتل بالغرامة فقط وليس الحبس بالضرورة. وتنص المادة على معاقبة من يقتل زوجته أو ابنته أو أمه أو أخته "حال تلبسها بمواقعة رجل لها" بالحبس مدة لا تجاوز 3 سنوات أو بغرامة لا تتجاوز 45 دولاراً، أوبكلتا العقوبتين. وقد أثارت هذه المادة كثيرًا من الجدل وسط دعوات بإلغائها منذ سنوات، إلا أنها لاتزال قيد المناقشات في مجلس الأمة منذ عام 2017 إذ تقف بعض القوى الإجتماعية وراء الإبقاء عليها. وتقول أستاذة القانون الخاص في كلية الحقوق بجامعة الكويت، مشاعل الهاجري، إن "الإبقاء على هذه النصوص جريمة تبيح القتل بلا عقاب، وبرغم تحديد النص لحالة التلبس، إلا أنه فى ظل غياب التعريفات القانونية الواضحة فإن كل ما تفعله المرأة يمكن أن يعتبر تهديدا لشرف الرجل ككشف شعرها أو الخروج من البيت، أو استخدام مواقع التواصل الاجتماعي للمحادثة أو لنشر صور". ويشترط قانون العقوبات السوري أيضًا عنصر المفاجأة كالقانون الكويتي والمصري والأردني لتخفيف الحكم في حالة القتل. إلا أن العقوبة المنصوص عليها في قانون العقوبات السوري أشد من القوانين الأخرى، إذ تنص المادة 548 منه "تكون العقوبة الحبسَ من خمس إلى سبع سنوات". هذا التعديل فى القانون السوري شدد العقوبة التي كانت سابقاً سنتين فقط، لكنه لم يقدم تعريفا محددا لجرائم الشرف كحال معظم قوانين العقوبات، الأمر الذي يسمح باستمرار الظاهرة كما تقول المحامية المصرية انتصار السعيد. ووصل عدد النساء اللواتي قتلن بداعي "الشرف" إلى 200 امرأة عام 2011 حسب مرصد نساء سوريا. وتطالب الناشطات والحقوقيات في معظم الدول العربية بتعديل منظومة القوانين بحيث تشدد العقوبة لتتناسب مع الجرم المرتكب و معاملته كأي جريمة قتل. وهى الخطوة التي أقدمت عليها تونس ولبنان حين ألغتا المادة الخاصة ب "جرائم الشرف". كما ألُغيت الأعذار المخففة في قانون العقوبات المعمول به في الأراضي الفلسطينية في مايو/ أيار عام 2014 . القبول الاجتماعي و أجهزة الدولة إلى جانب القوانين، يعد "القتل دفاعًا عن الشرف" أمرًا مقبولًا اجتماعيًّا في عدد من الدول العربية وغير العربية. ففى أكبر استطلاع للرأي شارك فيه أكثر من 25 ألفًا من عشر دول عربية أجرته شبكة البارومتر العربي البحثية المستقلة في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لصالح بي بي سي عربي، سألنا المشاركين عن مدى قبولهم " للقتل غسلًا للعار" فكانت الدولة الأعلى عربيًّا الجزائر بنسبة 27 % تليها المغرب بنسبة 25 % ثم الأردن بنسبة 21%. وأجري هذا الاستطلاع، في أواخر عام 2018 وربيع عام 2019 على مبحوثين من تونس والمغرب والجزائر والعراق والأردن ولبنان ومصر وليبيا واليمن والسودان بالإضافة إلى الأراضي الفلسطينية. هذا القبول يمتد أيضًا ليشمل أجهزة الدولة كما تؤكد انتصار السعيد. فأجهزة الشرطة لا تتعامل مع البلاغات بالجدية المطلوبة، كما يتم الاكتفاء بتعهد من جانب الأسرة في حالة الشكوى من العنف الأسري الأمر الذى غالبا ما يتطور لاحقا إلى القتل. كذلك تتكتم أجهزة التحقيق أحيانًا على تفاصيل القضية، كما حدث في حالة الفلسطينية إسراء غريب التي نفى النائب العام شبهة "قتل الشرف" في قضيتها وتحفظ على التفاصيل "احترامًا لخصوصية القتيلة" كما ورد في بيان النيابة. والبرلمانات تبحث عن تأييد من الناخبين، فلا تتحرك لإقرار قوانين أكثر إنصافًا. فمثلًا أقر البرلمان اللبناني قانونًا موحدًا للعنف ضد المرأة في 2014، إلا أنه ما زال قانونًا باهتًا ولم يتم مناقشته بالقدر الكافي. كما رفض البرلمان الأردني مرتين تعديل المواد المتعلقة بقتل الشرف. وما زال البرلمان الكويتي عاجزًا عن إسقاط الأعذار المخففة لقتل الشرف منذ سنوات. الحل ليس في القوانين وحدها وبالرغم من أهمية مراجعة القوانين لتحقيق الردع كما تقول الناشطة النسوية الأردنية، بنان أبو زين الدين، إلا أنها وحدها غير كافية لمواجهة الظاهرة المنتشرة في عدد من الدول وعلى رأسها الأردن. فمثلًا في الأراضي الفلسطينية لم يسهم تعديل القانون في تراجع حالات قتل النساء. ففي عام 2016، رصد مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي، 23 حالة وفاة لسيدات في ظروف غامضة وهو ما رجح المركز أنه قد يكون قتل تم تحت اسم "الشرف". وتؤكد بنان أبو زين الدين، أن تغيير الثقافة التي تدين الضحية هو أول طريق الحل، فهناك حاجة لتغيير المفاهيم المجتمعية التي تربط الشرف والعيب بسلوك المرأة، و"تُطّبع العنف تجاهها" لوقف هذه الممارسات. وهذا التغيير سيسهم أيضًا في بناء قاعدة شعبية تضغط من أجل تعديل التشريعات المعطّلة في البرلمانات. وتضيف الناشطة النسوية أن حالة الطوارئ قد أعلنت بعد وفاة 11 أردنيًّا بسبب تفشي فيروس كورونا، وبالمقارنة مع ذلك يتطلب مقتل 10 نساء منذ مطلع العام في حوادث "شرف" تحركًا سريعًا على المستوى الوطني وتعاونًا بين المشرعين والمجتمع المدني والإعلام. وتضيف السعيد من مصر أن هذا التغيير في القبول الاجتماعي للعنف والقتل بحق النساء يتطلب تكثيف حملات التوعية وعدم ربطها بحادثة محددة. كما يتطلب التركيز على التربية، فبعض النساء شريكات في القمع الذي يقع عليهن ويعدن إنتاجه. ويتطلب أيضًا التحرر من ثقافة الصمت إزاء العنف وتطوير مؤسسات الرقابة والرصد سواء التابعة للدولة أو للمجتمع المدني لوضع الاستراتيجيات الدقيقة والفعالة لمنع هذه الجرائم أو الحد منها. وينبغي أيضًا تشجيع مؤسسات الدولة على أخذ شكاوى العنف ضد النساء على محمل الجد، وإتخاذ التدابير المناسبة لضمان حصول الناجيات من العنف الأسري على مأوى دون المساس بحريتهن.