رغم وجود الإجراءات الوقائية فإن هناك من ضعاف الدين والأمانة من يعتدى على الأموال، وهنا يلاحقه النظام الإسلام بعديد من الإجراءات التي تعمل على كشف تصرفاته الفاسدة من خلال مسئوليات محددة وأساليب عديدة، وعند كشفه توقع عليه العقوبات الملائمة، وهذا ما سنحاول التعرف عليه في الفقرات التالية: أولاً: كشف الفساد: ويتم ذلك من خلال مستويات وأساليب عدة تنبنى على المسئولية الدينية، هذه المسئولية التي تنبع من واجب الرعاية بمستوياتها المتعددة التي حددها رسول اللَّه في قوله ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) ولذلك فإن كل شخص تحت مسئوليته وفي نطاق سلطاته مال معين فإن عليه مسئولية المحافظة عليه وحمايته من أي فساد، وعليه أن يتابع التصرفات في هذه الأموال أولاً بأول ويكشف أي انحراف في التصرف فيه، ومن هذا المنطلق نجد أن المسئولية عن كشف الفساد تتعدد بين أطراف عدة كل في مستواه وهم على الوجه التالي: أ -رئاسة الدولة، ويتم أداء مسئوليتها في ذلك بطريقتين هما: الطريقة الأولى: أن يكون له علم مباشر بما يجرى في الدولة خاصة التصرف في المال العام، وذلك من خلال وجود مفتشين ماليين تابعين له مباشرة فها هو عمر بن الخطاب: «لم يكن له في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي ولا أمير جيش إلا وعليه له عين لا يفارقه ما وجده» وأيضاً جاء في كتاب على بن أبى طالب للأشتر النخعي عندما ولاه مصر «ثم تفقد أعمالهم وأبعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم» وفي كتاب أخر «واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك أخبار عمالك ويكتب إليك بسيرتهم» كما أن هناك طريقة أخرى لكشف حال العمال ذكرها أبو يوسف بقوله «فلقد تقربت إلى اللَّه تعالى ياأمير المؤمنين بالجلوس لمظالم رعيتك في الشهر أو الشهرين مجلساً واحداً تسمع فيه من المظلوم وتنكر على الظالم». الطريقة الثانية: الإشراف المباشر بنفسه على الأعمال والأموال ولا يكتفى باستخلاف الأمناء فقط وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب «أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قد قضيت ما علىَّ؟ قالوا: نعم، قال: لا، حتى انظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا»وهو ما يؤصله الماوردي في اختصاصات رئيس الدولة بقوله: «والتاسع استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة، والعاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعوّل على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح». ب-الإدارة المباشرة: ومسئوليتها عن كشف الفساد بجانب الاعتماد على أجهزة الرقابة الداخلية والخارجية السابق ذكرها فإن ذلك يتم أيضاً من خلال الإشراف المباشر كما سبق القول. ج-المسلم ذاته: فبداية عليه حماية ماله والمحافظة عليه من اعتداء الآخرين، ولقد أباح له الشرع الدفاع عن ماله حتى الاستشهاد لقول الرسول «قاتل دون مالك حتى تحوز مالك أو تقتل فتكون من شهداء الآخرة». وعليه قبل ذلك حفظ أمواله في الأماكن الملائمة وهو ما يعبر عنه فقهاً بالحرز المناسب، ثم في مجال استخدامه لماله، عليه كسب المال من حله وإنفاقه في حقه قصداً واعتدالاً وعدم دفع ماله إلى من لا يحسن التصرف فيه، وفي المقابل عليه أن لا يعتدى على أموال الآخرين بأي صورة خاصة المؤتمن عليها لأنه يعد خائناً واللَّه لا يحب الخائنين، وليعلم المسلم أنه متى التزم بعمل ما يصبح مسئولاً أمام اللَّه تعالى عن أداء العمل بشكل سليم وعليه أن يراقب اللَّه في عمله ولا يرتكب فساداً. د -جمهور المسلمين: إذا كانت الدراسات المعاصرة حول الفساد تركز حول ضرورة تفعيل دور المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية في كشف الفساد وهو ما بدأ تطبيقه فعلاً في بعض الدول مثل سنغافورة، فإن نظام مشاركة الجمهور في كشف الانحرافات نظام أصيل في الإسلام يبنى على قاعدة أساسية وهى ((الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر)) تلك القاعدة التي أهملها المسلمون وصار البعض يطبقها بطريقة غير سليمة، فإذا كان الفساد من المنكرات وأن النهى عن المنكر فرض عين على كل مسلم أو فرض كفاية تقوم به مجموعة من المسلمين في رأى آخر، وأن نطاق الإنكار يتسع ليشمل كل ما يضر بالمصالح العامة ومنه صور الفساد خاصة الفساد السياسي، فإنه يمكن أن يكون في إحياء هذه الفريضة فرصة رائعة لمكافحة الفساد في الدولة الإسلامية عن طريق إما قيام المنظمات غير الحكومية مثل الجمعيات الأهلية بإنشاء شعبة فيها لمكافحة الفساد، أو إنشاء منظمة أهلية لها أعضاء في كل أنحاء البلاد وفي كل المصالح الحكومية ومؤسسات الأعمال والأسواق لترصد حالات الفساد في عهدها وتسجل في سجل خاص وتبلغ عنها الأجهزة الرقابية في الدولة، وبذلك يحمى المسلمون أموالهم ويقوموا بفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وهكذا نجد أن النظام الإسلامي يحاصر الفساد بعيون مفتوحة وعلى كل المستويات لكشفه وتقديم المفسدين لينالوا عقابهم الملائم وهو ما نختتم به هذه الدراسة في الفقرة التالية. ثانياً: العقوبات على ارتكاب الفساد: طبقاً لنظام الجزاء الإسلامي السابق ذكره فإن العقوبات على الفساد تتعدد بشكل يؤدى إلى جبر ما وقع من فساد وردع من تسول له نفسه ارتكابه وذلك على الوجه التالي: أ -العقوبات الذاتية: إن المسئول المسلم إذا صحت عقيدته فإنه يراعى رقابة اللَّه عليه ولا يرتكب إثماً أو فساداً، فإذا ضعف ضميره أحياناً وارتكب ذلك فإنه يحس بالذنب ثقلاً كما يقول الرسول ((إن المؤمن يرى ذنبه فوقه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مرَّ على أنفه فأطاره)) واللَّه سبحانه فتح الباب أمامه للتوبة التي تقتضي رد المظالم والعزم على عدم العودة إلى الذنب. ب-العقوبات الشرعية: ممثلة في الحدود والتعازير أي العقوبات التقديرية التي شرعها اللَّه ورسوله ومن هذه الحدود والتعازير قطع يد السارق، والحجر على المسرف والمبذر وحبس خائن الأمانة والمحتكر مع إلزامه بإنهاء حالة احتكاره وبيع بضاعته بسعر المثل، والضرب والجلد والإخراج من السوق لمرتكب الغش. وإلى جانب ذلك فإنه يحكم على مرتكب الفساد برد ما أخذه أو تعويض ما أتلفه أو استفاد به. ومن المهم الاشارة إلى أن كثيراً من قضايا الفساد يتم التصرف فيها فوراً خاصة إذا اكتشفها المحتسب أو وإلى المظالم والذين لديهم قدره شرعية على إزالة الأخطاء فوراً وبالقوة، إضافة إلى اختصاص والى المظالم بتنفيذ أحكام القضاء التي يعجز عن تنفيذها القضاة. ومن المهم الإشارة إلى أن الحدود المشروعة على مرتكبي الفساد بجانب أنها تنفيذ لشرع اللَّه عزوجل، فإن فيها صلاحاً كما يقول أبو يوسف ((إن الأجر في إقامة الحدود عظيم والصلاح فيه لأهل الأرض كثير)) ويقول أيضاً ((فلو أمرت بإقامة الحدود لقلَّ أهل الحبس ولخاف أهل الفسق والدعارة، ولتناهوا عما هم عليه)) وذلك لمناسبة العقوبات المقررة شرعاً مع حجم الجرائم وليس كما يشير تقرير البنك الدولي السابق الإشارة إليه من أن ضعف العقوبة مقارنة بما يرتكب من فساد من أهم أسباب انتشاره، هذا فضلاً على أن العمل بحدود اللَّه وعدم تعطيلها كما هو حادث الآن يؤدى إلى الخير في الدنيا ولذا يقول الرسول ((حدٌّ يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحاً))( ). ج-العقوبات الإلهية والتي يتولاها رب العزة دنيا وأخرى، ففي الدنيا فإنه إذا كان الفساد محرماً فارتكابه ذنباً يحرم اللَّه سبحانه وتعالى بسببه العبد من الرزق كما يقول الرسول ((إن العبد ليحرم الرزق بذنب يصيبه)) وفي تحديد أكثر يقول الرسول ((الأمانة تجلب الرزق والخيانة تجلب الفقر)) وفي ذلك إفساد لما يعتقده خائن الأمانة من أنه باختلاسه الأموال والاستيلاء عليها ستزيد أمواله. وبالجملة فإن مرتكب الفساد بأي صورة كانت مستحقاً لغضب اللَّه سبحانه وعدم حبه لمرتكبه ولعنه من اللَّه وأنه من المنافقين وفي حرب مع اللَّه ورسوله وكلها توجب عليه العقوبات الإلهية في الدنيا والآخرة بل إنه إذا انتشر الفساد في مجتمع ولم يؤدوا واجبهم في الانكار على المفسدين ومنعهم يستحق المجتمع كله العقاب الإلهي دنيا وأخرى. وفي ذلك آيات وأحاديث عدة منها: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ ، ومن أقوال الرسول في ذلك «من آذى الناس في طريقهم وجبت عليه لعنتهم» وقوله صلى اللَّه عليه وسلم «ملعون من ضار مؤمناً أو مكر به وقوله صلى اللَّه عليه وسلم «لعن اللَّه الراشى والمرتشى والرائش» وقوله صلى اللَّه عليه وسلم «من بعثناه على عمل فليبح بقليله وبكثيره فمن خان خيطاً فما سواه فإنما هو غلول يأتي به يوم القيامة وقوله صلى اللَّه عليه وسلم «المحتكر ملعون» وقوله صلى اللَّه عليه وسلم «الربا وإن كثر فإن عاقبته قصير إلى قل» وقوله صلى اللَّه عليه وسلم «لعن اللَّه آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده» وقوله صلى اللَّه عليه وسلم «ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم اللَّه بالسنين» أي القحط والمجاعة. وهكذا نجد أن العقاب الإلهي للمفسدين سيطولهم دنيا وأخرى. وفي الختام نصل إلى ما يلي: 1-أن النظام الإسلامي في نظرته للفساد لا يفرق بين فساد سياسي وإداري وفساد كبير وفساد صغير فإن كل التصرفات التي تمثل اعتداء على الأموال تمثل فساداً وهي محرمة. 2-أن من أهم أسباب الفساد انعدام الأخلاق لدى المفسدين وقلة الإيمان لديهم ثم انتشار الفقر خاصة لدى صغار الموظفين وهو ما عالجه النظام الإسلامي. 3-أن واقع الفساد في العالم المعاصر كبير ويتزايد بسرعة وينخرط فيه كبار المسئولين وصغارهم، كما تنتشر الممارسات غير الأخلاقية في الأسواق ويتوقع أن يزيد ذلك في ظل العولمة وما تحمله من فساد مستورد ولكل ذلك آثار سيئة على مجمل الحياة، الأمر الذي يجب على المسلمين وقد جربوا أفكار وسياسات مستوردة ولم تفلح في كبح جماح الفساد، أن يرجعوا إلى دينهم الذي يوفر البيئة الصالحة لتجفيف منابع الفساد. 4-أن منابع الفساد تتمثل في عدة عوامل يجب العمل على الوقاية منها بحسن اختيار العاملين من ذوي الدين والصلاح وتحسين أحوالهم المعيشية، ثم وضع القواعد التي تحدد صور الفساد وكيفية البعد عنها، إضافة إلى رفع كفاءة الأجهزة الرقابية ووجود نظام محكم للعقوبات، وهو ما يتوفر في النظام الإسلامي بصورة محكمة. 5-أن مسئولية كشف الفساد واجب على كل المستويات سواء على مستوى الفرد ذاته صاحب مال أو مرتكب للفساد، أو رئيس دولة أو كبار المسئولين أو جمهور المسلمين. 6-أنه يجب إعمال الإجراءات الإسلامية لمكافحة الفساد خاصة في مجال العقوبات الإسلامية من الحدود والتعازير وتقوية الوعي الديني لدى جمهور المسلمين.