بقلم: د. بطرس دلة *عندما قرأت هذه المجموعة القصصية للكاتبة ميسون أسدي، بدت المؤلفة أمامي إنسانة شقية، بمعنى أنها تتفنن في اخذ القارئ يجري خلفها وراء صور إنسانية تبتدعها له في كل قصة وتتركه يلهث وراء المضامين بأسلوب يبدو بسيطا ولكن بدون أبعاد فنية ولغوية معقدة. فمعظم مواضيع قصصها مأخوذة من طبيعة عملها كعاملة اجتماعية من هنا فأن بعض قصصها أتت وصفا دقيقا لواقع حقيقي مع تدخل بسيط وذلك من اجل إقناعنا كقراء بوجهة نظرها، فهي مطلعة أي اطلاع على خفايا الحياة الزوجية بشكل خاص ولذلك نجدها تشرح مواقف بطلاتها وأبطالها حتى الخصوصيات الحميمة. ومع أنها بين الحين والآخر تقع في تعميم استنتاجاتها عن كل الرجال أو كل النساء، إلا أنها لا تصر على هذا التعميم وتعود لتلتزم بانفرادية الفرد بطلا كان أم بطلة والمهم أن تقنعنا بقبول موقفها في هذه القضية أو أية قضية أخرى. إنها تبحث في هموم وأوجاع أبطالها من المجتمع الذي تعايش أحداثه عن كثب وتشخص أمراض هذا المجتمع الحضارية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص ولكن دون أن ترسم لنا الطريق أو الطرق للخروج بهذا المجتمع من الفكر التقليدي إلى الفكر التقدمي الحر والمتحضر.. نقول أبطالها ونعني بذلك شخوص قصصها! وإذا كان أنطوان تشيخوف قد قال في إحدى مقالاته إن القصة القصيرة هي كذبة متفق عليها بين القاص والمتلقي فإن الكاتبة ميسون، إنما تجسد الحقائق في قصصها وتعترف كما ذكرت في لقاء أجريته معها بعد قراءة هذه المجموعة ، حيث قالت: إن معظم قصص هذه المجموعة حقيقية وكانت شاهدة عليها عند حدوثها.. من هنا فإن معظم قصص هذه المجموعة تتمحور حول بعض الأمور التي أهمها: 1- إظهار الظلم الواقع على المرأة بشكل عام. 2- كشف دور الرجل اليهودي في علاقته مع العامل العربي. 3- التأكيد على الانتماء والهوية الفلسطينية. 4- كشف الكبت العاطفي الذي تعيشه المرأة الفلسطينية. 5- تصوير المجتمع العربي والصراعات القائمة فيه، خاصة اللقاء مع المجتمع اليهودي المتعجرف وكشف سلبيات هذا المجتمع بشقيه. 6- قضايا المرأة في المجتمع العربي الذكوري. 7- رسم صور لأنماط مختلفة من الرجال والنساء. هنا ظهرت الكاتبة ميسون أسدي كاتبة و"مرآة" رأت فيها نفسها أولا كإنسانة مطلعة على ما يدور حولها من بؤس وحرمان للمرأة العربية، فنبشت في قرارة نفسها ما يمكن تطبيقه على مجتمعها الذي تعيش فيه. لأن تصوير الواقع دون الالتفات إلى ما في هذا الواقع من أمور مغيبة يتحول إلى عمل يشبه كثيرا آلة التصوير فقط، أي نظرة إلى الواقع بالعين الفوتوغرافية! كنت أريد منها البحث في أبعاد هذا الواقع وتقديم العلاج السحري الذي قد يغير هذا الواقع! لأن هذه هي مهمة الأديب، ولأنه من أجل مثل هذه المهمة يكتب كل أديب. فالأدب ليس للتسلية في الصالونات وإنما يجب أن يخدم الفكر أولاً وقبل كل شيء كما يجب أن يكون موجها، فهذا هو دور الأديب الواعي والمثقف! إن مجتمعنا العربي يعيش في حالة لا يحسد عليها، فالتطورات الاجتماعية تأخذه إلى البعيد أحياناً وتعود به وتوقعه في مأزق التأقلم إلى كل جديد.. من هنا فإن مجموعة القيم التي كان مجتمعنا يؤمن بها قبل وحتى بعد قيام الدولة وإلى منتصف الستينات قد تغيرت بعد التأثر بعيد المدى بالقيم الشائعة في المجتمع الإسرائيلي، هذا اللقاء بين الحضارتين العربية والإسرائيلية ترك أثراً بعيدا لدى المجموعتين، ليس بالتساوي، لأن العربي أخذ عن اليهودي أكثر مما أعطاه! إن المعطيات الجديدة جاءت غزيرة ومكثفة ومناقضة في الكثير من الحالات إلى ما هو موروث ومقدس أحيانا. لذلك فإن قصص ميسون أسدي فيها تفجير لبعض المفاهيم القديمة وفيها لغة بسيطة ولكن بعيدة عن لغة الصحافة الإخبارية. ما قامت به الكاتبة في هذه القصص جاء ليفضح الظلم والظلام اللذين تعيشهما المرأة الفلسطينية والإشارة إلى مصادر هذا الظلم والظلام ولكنها لم تشر ولو من طرف خفي إلى طرق الخروج من هذا المأزق والكاتب المبدع لا يكتفي بحمل آلة التصوير بل يجب أن ينتقل بها إلى طرق معايشة ومقاومة ما تراه العين الفوتوغرافية. صحيح أن الكاتبة منحازة بشكل كبير إلى فقراء شعبنا وإلى معاناة المرأة بشكل خاص ولكن عليها أن تأخذ بهذه المرأة من يدها لتخرجها من الظلمات إلى النور، فهي كما فهمت منها لا تؤمن بمبدأ الفن للفن، ومن هنا فأنها قد خرجت بلغتها على بساطتها من لغة المعاجم والشعارات والخطابة والمواعظ إلى لغة منفتحة انطلقت فيها إلى ما هو عملي وقريب من مفاهيم عامة الناس. **الجنس في هذه المجموعة: العنوان الثاني لهذه المداخلة يتحدث عن ميسون أسدي الشقية فهي في هذه المجموعة القصصية تتحدث في عدّة قصص وبشكل صريح للغاية عن المشاكل الجنسية التي تعاني منها المرأة العربية في بلادنا. ففي قصتها "أبو حمامة" تتحدث عن بطل غير عربي ذي ملامح شقراء وعيون زرقاء وتخلص في النهاية إلى أن فلانة قد ولدت طفلاً أشقر أزرق العينين وأخرى كذلك وغيرهما خاصة بعد موت "أبي حمامة'", وأبو حمامة، كما بينت هو ذلك الغريب الذي يتمتع بعضو ذكري كبير , وتوضح أن بعض القرى تطلق على العضو الذكري لدى الرجل اسم "الحمامة". كذلك في قصتها "أنا كلب" تقول ان الذكور يطلقون على المرأة التي تحب ممارسة الجنس مع أكثر من شخص لقب "كلبة". وفي قصة "عصفور باليد" تبحث البطلة عن الجنس لدى عشيقها لأنها أرملة وحتى ولو لم تحصل على اكتفاء جنسي في جماعها للعشيق إلا أنها تلاحقه وتمارس الجنس معه علّ وعسى! أما قصتها كلمات متقاطعة فتظهر الزوجين بمظهر من يبحث عن الخيانة الزوجية كأن هذه الخيانة هي أمر طبيعي وأن ممارستها ليست غريبة في مجتمعنا! في هذه القصص يخلص القارئ باستنتاج واحد مفاده أن هناك تسيبا في مجتمعنا العربي وأن الزواج يأتي للتغطية على هذا التسيب! فما هي الحقيقة؟! هل تستطيع المرأة من باب حرية التصرف التي تطالب بها- أن تتغيب عن بيتها طلباً للشهوة الجنسية والحصول على النشوة التي لا تجدها عند زوجها؟! فمنيرة بطلة قصة "باليد حيلة" تترك البيت لمدة وتختفي ولا يعرف أهلها مصيرها! فأين هي الحيلة؟! هل الهرب من البيت والبحث عن العشيق هو الحيلة المطلوبة؟! **العلاقات اليهودية العربية تختار الكاتبة بعض الشخصيات اليهودية وتعري نظرتها الاستغلالية تجاه العرب وهذا ما بدا واضحا في قصتها "نفس يعقوب" فالمؤلفة في هذه القصة تخرج عن كل المسلمات لتأتي بشي جديد فيه تراخ بعد تأزم الموقف، تراخ من التوتر الذي نسجته من خلال عملية السرّد القوي. في هذه القصة تتطرق إلى الصراع العربي الإسرائيلي ونظرة الاستعلاء التي يمارسها اليهودي تجاه الإنسان العربي، فالبطلة "سلام" تتصل بزوجة "ياكوف" لتطمئن على صحته فيكون الجواب:" توفى "ياكوف" قبل عدة أيام. أي أن المؤلفة أرادت قتله لتكون هذه النهاية مرضية للشرف العربي، فالموت هو المصير المتربص لكل من يعتدي على الشرف العربي! أي حل مصطنع هذا؟! لو كانت الكاتبة قد بحثت عن حل أخر يقتنع به "ياكوف" ويغير نظرته الاستعلائية تجاه الإنسان العربي لكانت بذلك قد وضعت النقاط على الحروف وكفتنا مهمة البحث عن الحل لهذا الإشكال وهو كثير ويصادف العربي في كل مكان! ولكنها تظهر شلومو اليهودي الذي بحث عن العربي الذي عمل عنده منذ أمد بعيد ولم يوفه حقه، جاء يبحث عنه بعد أن علم بأنه أصيب بمرض خطير وأيامه باتت معدودة، فهو يمثل شخصية اليهودي الأمين عندما يصحو ضميره. ميسون ألعاملة الاجتماعية المؤلفة ميسون أسدي تعمل في قسم الرفاه الاجتماعي وتقيم في مدينة حيفا مع إنها من مواليد قرية دير الأسد! ولذلك وبحكم وظيفتها هذه تتصل بالكثيرات من النساء المعنفات وهي إذ تعالج مشاكل هؤلاء النسوة فإنها تطلع وتتعرف على الكثير من التفاصيل حتى الحميمة وعلاقة المرأة بالزوج أو حالات الخيانات الزوجية، أو العشق خارج مؤسسات الزواج. قلت في بداية هذا الحديث أن الكاتبة ميسون أسدي كاتبة شقية فقد استنتجت ذلك من كثرة حديثها في العديد من القصص عن مثل هذه القضايا كما ذكرنا. من هنا فقد وجدنا أن لها موقفا خاصا في كل ما يتعلق بالعلاقات الزوجية والخلافات بين الرجل والمرأة وذلك لأنها مكلفة في البحث عن أسباب أي خلاف قد ينشأ بين الزوجين والاستعانة بالأخصائيين النفسيين. انها تبحث عن الحلول المناسبة وتدعم كافة الحالات الاجتماعية المعقدة بحلول مرضية. إلا أنها مع ذلك لا تكشف عن أسماء شخوص قصصها من النسوة اللواتي تعالج مشاكلهن وذلك من باب احترام خصوصية الإنسان. في حديث مباشر مع المؤلفة اتضح لنا أنها إنسانة ذات روح مرحة وعاطفةٍ جياشةٍ وأنها تعيش مشاكل كل النسوة اللواتي يقعن تحت عنايتها ومسؤوليتها. فتظلّ تفكر بكل واحدةٍ كما لو كانت مُتَبَنّيَة ً لمشكلتها. هذا الوضع الخاص يشهد على أنها إنسانة مخلصة في عملها وتحاول جاهدة تقديم كل مساعدة ممكنة كي تجنب النسوة المتمشكلات نتائج هذه الإشكالات بتوفير الحلول الأنسب. هذا الدور الإنساني ترك أثره في نفسيتها ولذلك تجدها تعيش كل مشكلة كما لو كانت تُذوّتُهاَ بغض النظر عن علاقتها بصاحبة المشكلة من قريب أو بعيد. النهايات والأسلوب ان كاتب القصة القصيرة لا يهتم بسرد حياة شخوص كاملة بل يكتفي بالكشف عن زوايا معينة تخص الحدث الواحد الذي تدور حوله القصة القصيرة. من هنا فان إنهاء أية قصة يكتسب أهمية خاصة بحيث يكتسب الحدث معناه المحدد الذي يريد الكاتب إيصاله إلى المتلقي. هذا ما نسميه باسم لحظة التنوير! ان الاهتمام بلحظة التنوير لا يقل أهمية عن السرد وإبانة تفاصيل الحدث: وبعد قراءة هذه المجموعة وجدنا أن الكاتبة قد نجحت في الكثير من هذه القصص في لفت انتباه المتلقين إلى قدرتها على إنهاء القصة في لحظة التراخي المناسبة وبأسلوب مشوّق ومثير للغاية. ولنأخذ نموذجا لما قلناه قصة "قهوة بطعم الصراصير", بطلة هذه القصة يحيط بها أبطال ثانويون هم أخوة صديقتها "منى" ولما نوت الانتقام من الأخوين اللذين كانا قد أهاناها وعلى مرأى من أهل الحي لذلك قررت أن تقدم لهما قهوة سقط فيها صراصير ولم تكتشفهم إلا بعد أن كانت قد شربت من هذه القهوة الصراصيرية. وهنا يقف الشابان مصرين على أن تشرب القهوة معهما! وزأر احدهما بكل قوته: أشربي معنا لأن صديقة منى هي صديقتنا! إن لحظة التنوير هذه بإجبار بطلتها على شرب قهوة الصراصير فيها قوة وخفة ظل. ففي قصتها "عن بنات أفكاري" والتي منها أخذت عنوان هذه المجموعة، جعلت البطل مكيد وأحدى الفتيات "وجيهة الكريهة" يتزوجان مع أن وجيهة هذه ليست أجمل الفتيات ولا أكثرهن قربا من مكيد وقد صرحت الكاتبة في بداية القصة إن الكثير من الفتيات يجرين وراء مكيد هذا لغرض الزواج! فكيف توصلت إلى هذه النتيجة المفاجئة؟! لذلك نقول وأن نهايات معظم هذه القصص تحمل عناصر المفاجأة بسبب خروجها عن النهايات المألوفة لدى الكثيرين من الكتاب! اما قصة "رحلة الصيف والشقاء" فقد أنهتها بالتوجه إلى قرائها بصراحة قائلة: (ص -88): لم ادر ما حصل بعد ذلك من أحداث وقد رويت لكم كل ما أعلم، لكنني تخيلت أكثر من نهاية، إما أن لا تصل الطائرة أو أن تصاب بحادث، أو أنها تعرج على معلمها، وتكيل له الصاع صاعين كما وعدت نفسها.. تخيلت أيضا أنها وصلت كما قالت فيرا ومشهد الذهول في أعين الطلاب، ثم تملقهم لها... ولكني لم افلح في خلق نهاية تليق بهذه القصة فتركت الأمر لكم لتفعلوا ذلك بدلا مني.. لعل مخيلتكم أفضل من مخيلتي! هذه إذن نهاية مقترحة ولكنها لا تُكوّنُ نهاية! لأن الكاتبة تركت النهاية لعبقرية القارئ يقرر ما يشاء وقد تختلف هذه النهاية من قارئ لآخر وفي هذا التوجه احترام كبير لمشيئة جمهور القراء على تباين مشاربهم. أن قيمة القصة الناجحة تكون كبيرة بمقدار ما فيها من الحياة الخام المعروضة وبما فيها من الفنية، فنية السبك والتعابير، فالحياة هنا تعني المجتمع بأوسع معانيه وموضوعيته. الكاتبة مثقلة بهموم مجتمعها ، لذلك نجدها في كل قصة من قصص هذه المجموعة مثقلة بهم هذا البطل أو هم تلك البطلة أو حتى هموم الكثيرين من أبطالها فلا تجد حلا لمشاكل أي منهم سوى بالكتابة وبهذه الطريقة فان هم الأفراد هنا هو هاجس المؤلفة الذي يقض مضجعها ليل نهار ولذلك فان عملية الألم ومخاض الولادة تتلبس المؤلفة ولا تدعها حتى تفرغ ما بجعبتها حبرا على الورق ومع ذلك فهي إذ تجد أنها تخلصت من معاناة فانها لا تعود لمراجعة ما كتبت لأنها ستكون قد بدأت الإحساس بمعاناة الأخريات والآخرين! ما لاحظناه في هذه المجموعة أن المؤلفة لم تفقد هدفها من الكتابة بالرغم من المواقف الحساسة التي كتبت معبرة عنها ولم تقع في براثن الأكليشيهات الجاهزة أو الجمل الطنانة كما لم تلجأ إلى لغة الوعظ الممجوجة. ولما كان معين المؤلفة من القصص واسعا وكبيرا فقد ابتعدت قصصها عن التوسع واللغو الفارغ إلى لغة مكثفة غير مستفيضة كما لو كانت تبحث بسرعة عن الحل لكل موقف متأزم في هذه القصة أو تلك. هذا الأمر هو ما يميز القصة القصيرة عن الرواية التي تحتمل التوسع وفضفضة الكلام! ان شخصيات أبطالها ليست جامدة بل فيها الكثير من الحركة التي تضفي على السرد رونقا خاصا يضاف إلى ذلك أنها لم تلجأ إلى أسلوب الحوار إلا لماما، فالسرد العادي أسهل من الحوار وأكثر جدوى في بلوغ الهدف ولما كانت تكتب بسرعة فقد أثرت هذه السرعة على فنّيّة اللغة كما ذكرنا. وهكذا نستنتج أن المؤلفة ركزت همها في مضامين القصص على حساب الشكل الفنّيّ! هكذا توصلنا إلى القول أن معظم قصص هذه المجموعة المستقاة من واقع المؤلفة يغلب عليها الواقع الاجتماعي والفوارق الاجتماعية وظلم المرأة في المجتمع الذكوري الذي لا يحفل ولا يهتم بعواطف هذه المرأة الأنثى! كذلك لم نجد لديها لغة تقريرية أو إخبارية جافة بل بدأ عنصر التشويق الذي يكتنف القصة قويا بما فيه الكفاية لجعل القارئ يتابع القراءة حتى الانتهاء من قراءة المجموعة كاملة! فيا أيتها الكاتبة المبدعة لك الحياة!