في عهد مبارك عشنا سيركاً سياسياً من نوع فريد، فالسيرك المعتاد تتنوع فقراته ومن بينها فقرة المهرج الذي يظهر في ملابس واسعة ويطلي وجهة بالمساحيق ويقوم بحركات ضاحكة نابعة من مواقف ساذجة تسبب له المشاكل التي يحاول حلها فيزيدها تعقيداً.. أما سيرك النظام السابق فلم يكن يقدم غير فقرة واحدة علي امتداد السنوات الطوال التي حكم فيها مصر وحولها إلي ساحة مولد كبيرة يتزاحم الناس فيها علي رؤية ما يعرضه عليهم أرجوزات النظام الذين تتغير مواقعهم، ولكن الفقرة التي يقدمونها واحدة لا تتغير، وذهب عهد مبارك وظننا أن السيرك السياسي قد ولي إلي غير رجعة لكي يحل محله عمل سياسي جاد تقوم به قوي سياسية واعية لها قضية تؤمن بها وأهداف عليا تسعي لتحقيقها لمصلحة الوطن حتي لو كان ذلك علي حساب مصالح أيديولوجية أو شخصية قد تتعارض وتتداخل وتتصارع مع الهدف الأسمي من العمل السياسي. صاحب السيرك في عهد مبارك كان معروفاً، وكان من مصلحته أن ينضم تحت جناحه كيانات أصغر تقنع بدور المهرجين يلهون الناس عن مطالبهم المشروعة في حكم رشيد ومشاركة في الحكم وديمقراطية حقة وليست مجرد واجهة لتجميل وجه النظام تخفي وراءها مسالخ ومعتقلات وسجوناً يزج فيها بكل من يجرؤ علي المعارضة الحقيقية أو يعلو صوته علي صوت الحزب الأوحد أو يلمع في الشارع بما يهدد خطط التوريث وإعداد ولي عهد الأسرة الحاكمة لتولي الحكم خلفاً للإمبراطور والتي كانت الشغل الشاغل لكل أجهزة الدولة، المشكلة أن السيرك الأم حين أغلقت ثورة 25 يناير أبوابه لايزال له فروع منتشرة في كل مكان بأسماء مستعارة يسمونها أحزاباً وأحياناً تحالفات أو ائتلافات وتنتشر في كل محافظات مصر بفرق مؤهلة من محترفي التهريج السياسي يروجون لبرامج متنوعة ومختلفة عما كان يقدمه «السيرك الوطني» ويطمعون في أن ينجذب إليهم البسطاء وحسنو النية من الناس الذين تداعب أحلامهم البيانات العنترية التي تصدر بمعدل بيان كل ساعة وتلهفهم علي مشاهدة «شجيع السيما» وهو يقهر عشرات الأعداء في حركات بهلوانية تنافس حركات «جاكي شان» في السينما الأمريكية. الأحزاب التي أقصدها هي التي يتنقل فيها «مطاريد» الحزب الوطني من «جوعي» السلطة الذين يأكلون علي كل الموائد لا ولاء لهم إلا لمصالحهم يتهافتون علي المناصب ليس بغرض الخدمة والصالح العام ولكن لزوم الوجاهة الاجتماعية، يجيدون تدليك الذات ويحيطون بصاحب القرار يسمعونه ما يحب ويوغرون صدره علي كل صاحب كفاءة لأنه يمثل تهديداً لهم ويتحالفون معاً في كيان طحلبي متسلق يمنع عنه الشمس والهواء وينتهي به وبهم إلي قرارات طائشة غير مدروسة تطيح بهم معاً بعد حين لتبدأ الدورة من جديد.. رؤساء الأحزاب الذين يقعون في حبائل هؤلاء يخطئون الحساب ويظنون أنهم بكثرة عددهم تزداد «العزوة» التي تحيط بهم ومن ثم يزداد رصيدهم لدي الشارع، بينما هم في واقع الأمر أصفار علي الشمال عديمة القيمة لا يمثل مجموعها واحداً صحيح.. مجرد حاملي شنط وكتبة أو «كدابين زفة» كان الأتراك يسمونهم «المهمندار» وهم من يسبق الوالي يعلن قدومه ويوسع له الطريق، وهم أناس لا يسلكون أي رؤية أو فكر، مصابون بمرض «نقص المناعة السياسية» الذي قضي علي نظام مبارك وحزبه الأوحد الهش وأطاح بسدنته خلال أيام وانتشرت جحافلهم بمسميات مختلفة وأقنعة تخفي وجوهاً كريهة في كل الأحزاب والكيانات الموجودة علي الساحة الآن يبحثون عن دور ويخربون الحياة السياسية ينقلون فيروس المرض من خلال علاقات سياسية غير مشروعة ويعرضون صحة الوطن ومصالحه وأمنه لمخاطر جسيمة.. لقد حول نظام مبارك مصر كلها إلي «مشحتة» كبيرة بما في ذلك المناصب السياسية وخلق طبقة من السياسيين يسمونهم في الخارج «المتشردين» carbet baggers وهؤلاء هم مستحقو الصدقة السياسية ممن تمتلئ بهم كثير من الأحزاب الموجودة علي الساحة الآن. لا سبيل لتطهير الأحزاب من هؤلاء إلا بأن تتحول الأحزاب الكبري في مصر بشكل جاد وليس كلاماً إلي أحزاب مؤسسية تعتمد علي الإدارة الرشيدة وليس مجرد العمل التلقائي وردود الفعل والقرارات الوقتية غير المدروسة، إدارة الفرد ليس من العمل السياسي في شيء، والعمل المؤسسي لا يعني كثرة اللجان ولا التنظيمات ولا المكاتب المنتشرة في طول البلاد وعرضها وإنما بتفعيل كل ذلك في عمل منظم يدر عائداً مجتمعياً يسهم في تنمية مصر، ويستغل قدرات الكوارد المؤهلة صاحبة الرصيد الغني من الخبرات القادرة علي العطاء، الوفية لوطن يستحقهم واستبعاد جحافل المرتزقة من تلك الأحزاب.. وأتساءل: إذا لم تكن الأحزاب في مصر قد قامت من أجل عبدالعاطي صائد الدبابات ومحمد العباسي الذي رفع العلم علي خط بارليف بعد أن داسته أقدام جنود مصر وأحمد الشحات الذي لم يفكر لحظة في تسلق واحد وعشرين طابقاً لكي ينزل العلم الإسرائيلي ويعود به إلي الثوار لكي يحرقوه ويضع علم مصر بدلاً منه؟.. أقول إذا لم تكن الأحزاب قد قامت لكي تستوعب أحلام هؤلاء ومطالبهم المشروعة فلماذا هي موجودة أصلاً؟.. اسألوا أياً من هؤلاء الأبطال البسطاء من أبناء مصر: أي الأحزاب يحبون أن ينضموا إليه لو عرض عليهم ذلك؟.. وسوف يكون ردهم جميعاً قاطعاً: ولا حزب.. وفي ذلك أبلغ دليل علي حجم وقيمة الأحزاب القائمة المنشغلة بالصراعات والتكالب علي المناصب وطبول الدعاية التي أصبحت تمثل تلوثاً سمعياً يحتاج أن يتوقف فوراً.