ما أجمل أن تضع يدك في يد رجل مبروك.. وهكذا بدت لي مصافحة فضيلة الشيخ عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الشريف عندما كان يلقي محاضراته الطيبة في جامعة أم درمان الإسلامية التي كنت أقوم بالتدريس فيها في الستينيات.. وكانت مصادفة طيبة أن أراه أمامي بقامته الممشوقة، فسارعت إلي مصافحته مرحباً بحضوره لجامعة أم درمان الإسلامية.. ومنذ ذلك اليوم وأنا أتابع سيرته العطرة واستنارة بصيرته الصوفية مع رفيق دربه فضيلة الشيخ الشعراوي رحمهما الله. وكانت لنا في تلك الجامعة مصافحة طيبة مع فضيلة الشيخ المجدوب العميد والصوفي الكبير المبارك الذي أنشأ مع جماعة الصوفية أكثر من ألف زاوية للعلم والصلاة في مختلف ربوع السودان، خاصة ما كانت الوثنية سائدة فيها، وكان رحمه الله يتهلل بلقائي منادياً باسم الإمام الشافعي ويجلسني إلي جواره لتناول كوب الشاي بالنعناع متمتعاً بحديثه الطيب عن مسيرة الإسلام في الجنوب بصفة خاصة حيث كان الاستعمار البريطاني يقاوم تلك المسيرة بكل السبل. وناظر المدرسة العراقي الذي قابلناه صدفة في المدينةالمنورة وكان رفيق الصلاة في المسجد النبوي الشريف عام 1977 ثم رفيق جاء بالسيارة إلي المزارات المشهورة في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد تولي الناظر شرح تلك المزارات وكان يشرح في دلالاته وهو في غاية التأثر حتي إن دموعه كانت تسيل علي خده وكأنه يري سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام ببصيرته وأوشكنا أن نتمثل المشاهد التي يحكي عنها ونعايشها بأرواحنا مع حضرة الناظر العراقي المبارك. أما الذي تعايشت معه الذاكرة دون أن أصافحه فقد كان أحد الصوفيين المباركين بجوار سيدنا الحسين، وقد دعاه زوج أخته للحضور إلي الإسكندرية لشد أزره في قضية جنائية مظلوم فيها ورجاه أن يحضر معه جلسة المحاكمة في اليوم التالي وتركه لينام في الطابق الثاني فوقه.. وإذ به يشعر بحركة بعد صلاة الفجر كما لو كان الشيخ يُعد حقيبته للعودة إلي القاهرة، فصعد إليه المضيف وسأله في دهشة: لماذا تسافر للقاهرة وقد وعدتني بالحضور معي إلي جلسة المحاكمة؟.. فرد عليه بإجابة مقتضبة: انتهينا لقد قُضي الأمر.. كيف يا مولانا؟.. ستجد منطوق الحكم مكتوباً داخل مظروف في هذا المصحف، ومحظور عليك أن تفتحه قبل أن ينطق القاضي بحكمه.. وما إن نطق القاضي بحكمه حتي فتح الرجل المظروف فوجد الشيخ قد كتب منطوق حكم القاضي بالبراءة وسبحان من جلى بصيرته كما المؤمنين الصالحين من عباده. وبعد نشأة جامعة المنصورة عام 1973 ذهب رجل مبروك لرئيسها وتبرع بعشرة آلاف جنيه لإنشاء مسجد داخل حرم الجامعة، ورحب رئيس الجامعة وقرر تنفيذ رغبة الأستاذ ووضع لافتة كبيرة عند مدخل شارع الجلاء يعلن «هنا سيبني مسجد الجامعة»، وما أن خرج رئيس الجامعة للمعاش حتي جاء من جاء ورفع اللافتة معلناً عدم بناء المسجد في هذا المكان بين المدينة الطلابية ومساكن أعضاء هيئة التدريس خوفاً من أن يكون تجمعاً للجماعات الإسلامية المتشددة.. وطويت فكرة إنشاء المسجد حتي خرجنا في بعثة الحج عام 1978، وكانت بعثة مبروكة بكل المعاني حتي إنها وفرت مبلغاً لبناء المسجد بجوار نادي أعضاء هيئة التدريس وظهرت في الأفق معارضة شديدة لبناء المسجد، ولكن جبهة أعضاء هيئة التدريس القوية أنفذت أمرها وارتفعت أعمدة المسجد، فجاء الأمر المشدد بعدم بناء المئذنة العالية وأرسلوا مراسيلهم لقطع أسياخ الحديد فوق سطح المسجد، ونصحت الرجل المبروك الشيخ محمد العجوز بألا نعاند السلطات ونترك مسألة بناء المئذنة حتي يأمر الله ببنائها.. وقد جاء أمر ربنا بعد عدة سنوات ليتبرع المباركون ببناء المئذنة علي نفقتهم عالية جميلة مضيئة يشع نورها في أرجاء الجامعة وتقام فيها صلاة الجماعة للطلاب علي مدار ساعات اليوم. «والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون» صدق الله العظيم. أما إمام المسجد في نيجيريا، فقد بحث عن مكان للصلاة في الروضة الشريفة بمسجد سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام فلم يجد للزحام الشديد مما اضطره لحشر جسده بيننا وبين المجاور لنا والذي تضايق منه بشدة فأوسعت له المكان وتجاذبت معه الحديث بعد الصلاة فكان في غاية السعادة وهو يتكلم مع حاج من بلد الأزهر الشريف الذي يحلم بزيارته مع إظهار سعادته لنشر الإسلام في نيجيريا ودوره وغيره من المشايخ في ذلك البلد الأفريقي الذي ترتفع فيه مآذن الإسلام مثل البلد الإسلامي الآخر الذي كان أسير الشيوعية الملحدة في الاتحاد السوفيتي، وسمي الرجل ابنه عند الولادة باسم «كريم الله حاج عبدالخالق» ورفضت السلطات الشيوعية تسجيله بذلك الاسم واستبدلت به اسم كاريمولو خاليكوف، مثلما استبدلت المتاحف بالمساجد وألغتها تماماً حتي شاء ربنا سبحانه وتعالي أن تنهار الشيوعية في قلعتها السوفيتية عام 1992 ويُعاد افتتاح وبناء المساجد في دولة داغستان، ويأتينا رئيس قسم اللغة العربية بجامعتها لعقد اتفاقيات تعاون بين جامعتنا والجامعة المنتسب إليها التي فرحنا بها وبه وشكرنا ربنا سبحانه وتعالي أن صافحنا يد المسلم الداغستاني المبارك الذي نصره الله بعد ثمانين سنة من الثورة واسترد اسمه الإسلامي وصدق ربنا سبحانه وتعالي «وكان حقاً علينا نصر المؤمنين». أما مولانا الشيخ محمد الغزالي فقد كنا نصافحه بقلوبنا وأعيننا وأسماعنا وهو يتحدث بصوته الحنون في الإذاعة أو في الندوة الشهيرة المنعقدة بالقاهرة عن «مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية» التي كان لنا نصيب تكملتها بنقابة المهندسين بالإسكندرية في حوار عظيم يدور بين فرج فودة ود. فؤاد زكريا من جانب العلمانية والدكتور محمد عمارة ومحمد سليم العوا من جانب المدافعين عن الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع وتابعنا مولانا الشيخ الغزالي عندما سافر للسعودية وشاء ربنا سبحانه وتعالي أن يُسلم الروح هناك ويدفن في الأرض المباركة، أرض رسولنا عليه الصلاة والسلام ونقرأ له الفاتحة في الذهاب والإياب من الكعبة المشرفة والمدينةالمنورة و«تبارك الله رب العالمين».