تستفزنى قراءتنا اللاعقلانية للتاريخ، وأتصور أنها جزء من ثقافتنا الأحادية، الموغلة فى البداوة، الرافضة للمنطق، والتى تُقيد الفكر الدينى منذ عقود، وتمنعه من الانطلاق، وتكبحه عن الاجتهاد. إذا أردتم تصحيح مسار العقل العربى، فأعيدوا قراءة التاريخ بشكل واع وموضوعى، ولا تصنعوا من مجرمين أبطالا، ولا من طغاة عظماء. كتبت فى الاسبوع الماضى عن تلك الثقافة الشعبوية الساذجة التى حوّلت قاتل غادر هو الجندى سليمان خاطر الذى أطلق الرصاص على سُياح آمنين إلى بطل، ثُم شهيد يتم الاحتفاء به، والاحتفال بذكراه كل عام دون سبب سوى أن ضحاياه من الاسرائيليين. وقُلت إن مثل هذا الاحتفاء يروج لثقافة الارهاب لدى كُل عربى أو مسلم، لكن أستاذى العزيز الاستاذ حازم هاشم ذكرنى بأن معظم أبطالنا التاريخيين الذين صنعنا منهم أساطير وقديسين مُجرمون وقتلة. لا يقتصر الأمر على الشقى أدهم الشرقاوى الذى حوله اعلام ناصر إلى ملحمة وطنية باعتباره لصاً يستهدف الأغنياء ويوزع المسروقات على الفقراء، ولا على البلطجى ياسين الذى غنينا له الاوبريت الشهير «يا بهية وخبرينى على اللى قتل ياسين»، وإنما يمتد بطول التاريخ ليؤكد أننا نحتفى بالغدارين والساديين، ونتجاهل أهل العلم والعقل والحوار. راجعوا مثلا ما فعله حسين توفيق، الذى كتب عنه الأديب الراحل احسان عبد القدوس رواية «فى بيتنا رجل» لتكتشفوا كيف جعل الادب من قاتل مهووس بالدماء، والتخوين بطلا عظيما تعشقه النساء أينما حل! إن ما لم تذكره الذاكرة الشعبية أن ذلك البطل المزعوم هرب إلى سوريا، وحاول اغتيال أديب الشيشكلى وقبض عليه، ثم حُكم عليه بالاعدام، وأفُرج عنه بعد ذلك، ثُم عاد إلى مصر فأنشأ تنظيما جديدا لقلب نظام الحكم واغتيال عبد الناصر. ولا أدرى ما دعا واضعى مناهج التاريخ المدرسى لأن يُعظموا ارهابيا أجيرا مثل سُليمان الحلبى ويعتبرونه رمزا للمقاومة . لقد صُدمت عندما أُتيح لى أن اقرأ عجائب الآثار للجبرتى وأعرف أن ذلك البطل ما هو إلا «موتور من سفلة السفلة، يُكرى ليقتل» وأنه قبض ثمن قتله لسارى عسكر من حاكم عكا. ثُم تعالوا نُعيد النظر فى بطولات القائد الكرُدى صلاح الدين الأيوبى الذى ذبح فى ليلة واحدة عشرين ألفا من الشيعة وأحرقهم ،ثُم شنق شاعرا جميلا يقول فيه ما لا يعجبه هو الشاعر عمارة اليمنى وعلّق جثمانه على أبواب القاهرة . بل إنه أحرق مكتبة الحكمة وبها مليونا كتاب لأنها كتب الفاطميين، إن هذا الرجل الذى أظهره يوسف شاهين فى فيلمه الدعائى انسانا يُطبب أعداءه قتل المفكر والكاتب السهروردى الذى جمع من العلوم ما لا يُحصى لسبب وحيد هو أنه ما حاجج أحدا بالعقل الا غلبه. لقد منحنا القداسة والحصانة لبشر خطائين واعتبرناهم رموزا وأبطالا بينما نسينا أبطالا حقيقيين من العلماء والمفكرين مثل الفارابى، وابن رشد، وابن الهيثم، وابن سينا، والتوحيدى، والمعرى فلم نُقدم فيلما واحدا عن أى منهم، ولم نُعلّم أبناءنا ما فعلوا وقدموا. من هُنا يمكن معرفة لماذا انتهى بنا الحال إلى شرق عربى واسلامى يُصدّر العُنف، ويُصفق للقتلة، ولا يتقدم إلا تحت ظلال السيوف. والله أعلم.