كانت لنا انتقادات كثيرة للمادة 126 من قانون العقوبات الخاصة بالتعذيب في أقسام الشرطة والسجون والمعتقلات، وقد نشرنا تلك الانتقادات في عدد من المقالات الصحفية ومؤلفاتنا عن حقوق الإنسان، ثم دعونا المحامي الكبير وعضو مجلس الشعب الأستاذ عادل عيد لان يقدم اقتراحاً مكتوباً لرئيس مجلس الشعب بطلب تعديل تلك المادة لكي تتفق مع صور التعذيب المنصوص عليها في اتفاقية منع التعذيب الصادرة عن الاممالمتحدة عام 1984 والتي وافقت عليها مصر ونشرتها في الجريدة الرسمية لتصبح قانونا مصريا طبقا لنص المادة 151 من الدستور. - ولكن الطلب الذي تقدم به عضو مجلس الشعب الأسبق - رحمه الله - كان نصيبه الإهمال وعدم السماح بمناقشته، ثم تقدم الأستاذ منير فخري عبدالنور نائب رئيس حزب الوفد وعضو مجلس الشعب بنفس الطلب في مذكرة لرئيس مجلس الشعب فتم أيضا تجاهله وبقيت المادة 126 عقوبات علي عوارها القانوني الذي يفتح أبواباً يتهرب منها مجرمو التعذيب بحجة أن الذين وضعوا نص المادة قصدوا قصر جناية التعذيب علي ثلاثة عناصر أولها الموظف الرسمي الذي قام أو أمر به، وثانيها متهم في الجناية، وثالثها ان يكون القصد من التعذيب استخلاص الاعتراف من المتهم وذلك طبقا لصريح النص الذي يقول (كل موظف أو مستخدم عمومي أمر بتعذيب متهم أو فعل ذلك بنفسه لحمله علي الاعتراف يُعاقب بالأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلي عشر، وإذا مات المجني عليه يُحكم بالعقوبة المقررة للقتل عمداً). - وكان ذلك قصوراً شديداً في تعريف التعذيب وظلماً بيّناً للكثير من ضحايا التعذيب وتهريب مُعذبيهم من العقوبة، فقد يكون هؤلاء الضحايا غير متهمين بالجريمة وليس مطلوباً منهم الاعتراف بها كمن يتصلون بالمتهم بصلة الفراق مثل أمه وأبيه وزوجته وبنيه من أجل الانتقام من المتهم أو الضغط عليه للاعتراف أو للعدول عن نشاطه السياسي المعارض لنظام الحكم أو لفرض شهادة مزورة وتقديمها للمحكمة دليلاً للإدانة وصدور حكم المحكمة بالعقوبة بناءً علي تلك الشهادة المنتزعة بالتعذيب. - ولم تكن هذه الصور من التعذيب خافية علي كبار رجال القانون في الأممالمتحدة وخبراتهم المتراكمة عن ممارسات جرائم التعذيب في نظم الحكم الاستبدادية وتطور فنون وأساليب التعذيب الحديثة مما دفعهم لصياغة نص المادة الأولي من الاتفاقية الدولية لمنع التعذيب علي النحو التالي: لأغراض هذه الاتفاقية يُقصد بالتعذيب أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا يلحق عمداً بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، علي معلومات أو علي اعتراف أو معاقبة علي عمل ارتكبه أو يُشتبه في انه ارتكبه، هو أو شخص ثالث، أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم علي التمييز أيَّا كان نوعه، أو يُحرِّض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها. - وقد وافقت مصر علي هذه الاتفاقية الدولية وصدر بها قرار رئيس الجمهورية 154 لسنة 1984 ونُشر بالجريدة الرسمية بالعدد الأول في يناير 1988 ويُعمل بها قانونا للبلاد اعتباراً من 25 يوليو 1986 (أي بأثر رجعي لأن الحكومة كانت كارهة أصلاً لإثارة موضوع التعذيب وحاولت تعطيل نشر الاتفاقية في الجريدة الرسمية حتي نشرنا مقالا بجريدة الوفد بالعدد 207 في 18 فبراير 1988 بعنوان «ما هذه الفوضي يا وزارة الخارجية» فسارع وزير الخارجية لنشرها والنص علي العمل بها بأثر رجعي). - المهم ان الاتفاقية أصبحت قانونا مصريا طبقا لنص المادة 151 من دستور 1971 وكان يجب تطبيقها بتعديل المادة 126 من قانون العقوبات لتشمل كل صور التعذيب السابق بيانها. - ولكن الحكومة لم تفعل لأن المسئولية عن التعديب لم تعد مقصورة علي الضابط أو الجندي الذي مارس التعذيب وإنما أصبحت المسئولية علي نظام الحكم كله صعوداً من الذي مارس التعديب ورئيسه الذي أمر به وذلك الذي وافق عليه والذي علم به وسكت وكان من سلطته إيقافه مثل الوزير المسئول ورئيس الحكومة بل ورئيس الجمهورية ذاته في نظام الحكم الرئاسي الذي يمارس فيه الرئيس سلطات تنفيذية واسعة.. وكان ذلك يعني أن الرئيس مبارك شخصيا يكون مسئولا عن ممارسات التعذيب في أقسام الشرطة والسجون والمعتقلات ومعسكرات الأمن المركزي ما دام علم بها من وسائل الإعلام ونشرات منظمات حقوق الإنسان ومقالاتنا وغيرنا من المظلومين والمدافعين عن حقوق الإنسان حتي وصلنا لمجلس الشعب بطلبات رسمية بتعديل قانون العقوبات ولكنه لم يفعل لإيقاف سبل التعذيب والمعاقبة عليه. - إلي ان صدر دستور 2014 ونص في المادة 52 علي ان «التعذيب بجميع صوره وأشكاله جريمة لا تسقط بالتقادم» ونصت المادة 55 علي أن: كل من يُقبض عليه أو يُحبس أو تُقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيا أو معنويا، ولا يكون حجزه أو حبسه إلا في أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانيا وصحيا، وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة، ومخالفة شيء من ذلك جريمة يُعاقب مرتكبها وفقا للقانون، وللمتهم حق الصمت. وكل قول يثبت أنه صدر من محتجز تحت وطأة شيء مما تقدم، أو التهديد بشيء منه يُهدر ولا يُعول عليه». - وهكذا أفلح واضعو دستور مصر عام 2014 فيما فشلنا في تحقيقه عشرات السنين الماضية وأصبح حتميا علي المشرع تعديل المادة 126 من قانون العقوبات لتشمل كل صور التعذيب التي وردت في اتفاقية عام 1984 وكررها دستورنا الأخير في الباب الثالث عن الحقوق والحريات والواجبات العامة. - ويمكن الطعن، بعدم دستورية المادة المذكورة أمام المحكمة الدستورية العليا إن لم يُعجل المشرع الحالي أو مجلس النواب القادم بالتعديل المطلوب (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) الأحزاب: 4.