الطبيب توما ورِثَ المهنة عن أبيه الذي كان حكيما ماهراً، وللأسف لم يكن الابن في مهارة أبيه، ولكن احتفظ بلقب الحكيم رغم جهله، وقلة علمه، وانعدام حكمته، إلى درجة أن حماره ثار عليه، وطالب بأن يركبه، لا أن يكون ركوبته: قال حمار الحكيم توما... لو أنصف الدهر كنت أركب فأنا جاهل بسيط.... وراكبي جاهل مركب ومصر في هذه الأيام تعيش حالةً مثل حالة حمار الحكيم توما، فكل شىء فيها يؤكد وجود حالة مستقرة من الجهل، بل إن هناك تقدماً في مضمار الجهل، وتصاعدنا على درجاته، وانتقال من الجهل البسيط إلى الجهل المركب، وأصبح أكثر المصريين جهلا هم صناع الفكر والثقافة، وقادة الرأي، ونجوم الفضائيات، الذين يحددون لنا من هم الخبراء، والمحللون السياسيون، والوعاظ، والفقهاء، فقد أصبحت الفضائيات هي من تمنح الدرجات العلمية، وليس الجامعات كما كان في الماضي، فالتركيز على مدرس فقه مبتدئ، كان بالأمس لا يعرف من دينه إلا أحكام الحيض، والنفاس، أصبح اليوم يناطح العلماء، ويعترض على من هو أعلم منه؛ دون أن يعلم ما قال، فقط لأنه نجم في الفضائيات، كذلك من يخرج علينا بتحليلات اقتصادية حول مشروع قناة السويس الجديدة، وهو لا يعرف من الاقتصاد قواعده، أو تعريفه، أومن يطل بطلعته البهية كل يوم يبدي رأيا في كل شئ، وهو للأسف لا يحيط علماً بشىء.. فقط لأنه يملك برنامجا لصناعة الجهل المركب. ولكن ما الفارق بين الجهل البسيط والجهل المركب؟ يجيبنا إمام الحرمين أبو المعالي الجويني المتوفى 480 هجرية، في كتابه المختصر جداً «الورقات في أصول الفقه»، فيقول «الجهل البسيط هو إدراك الشىء على غير حقيقته، والجهل المركب هو إدراك الشىء على غير حقيقته، مع اعتقاد المدرِك أنه يدركه على حقيقته»، أي أن ترى الإرهابَ جهاداً، فهذا جهل بسيط، أما أن تعتقد أنك الوحيد صاحب الرأي الصحيح، وتدافع عنه، وتتهم من يخالفه، فهذا هو الجهل المركب، فالجهل البسيط، يمكن العلاج منه، والتخلص من تبعاته، ولكن الجهل المركب، مرض عضّال، لأن الجهل في هذه الحالة يتحول إلى عقيدة، يستميت صاحبها في الدفاع عنها، ولا يقبل أي علاج، بل على العكس، يرى الأصحاء مرضى، والمرضى أصحاء. لقد عانت مجتمعاتنا قروناً من هذا المرض، ومازالت تعاني حتى اليوم، بل إن المعاناة اليوم أشد مع انتشار وسائل الإعلام الجماهيري، والتواصل الاجتماعي التي تحولت إلى أدوات ناجحة في نشر الجهل المركب بين الناس، فكل من مَلَكَ ساعة في قناة فضائية، أو حسابا على الفيس بوك، أو التويتر أصبح عالما، وخبيرا، ومصدرا للمعرفة، وكل من استطاع الفهم يظن أنه مفكر، يجب على الآخرين التعلم منه واتباعه، حالة مأساوية من الجهل المركب، تتمدد، وتتسع، وتنتشر بين الناس؛ يختلط فيها الجاهل بنصف العالم بالعالم، والكل سواء، لأنه كلام في مواجهة كلام. في ظل هذه الحالة لا تكاد توجد قضية واحدة في بر مصر واضحة، وفيها حقائق واقعية، كل شئ أصبح فيه رأيان، أو ثلاثة، أو مائة رأي، لان كل شئ أصبح خاضعا للتذوق الشخصي، أو لمعايير، ومتطلبات الجهل البسيط، والجهل المركب، ولا يستطيع الإنسان أن يقول قولا محددا في أي شئ، الأبيض عند البعض، هو في نفس الوقت أسود عند آخرين، ولا يوجد معيار محايد، أو رأي مرجعي يفصل بين المختلفين، الكل علماء، والكل فقهاء، والكل سياسيون، أو اقتصاديون.. إلخ، لاشىء حقيقي على الإطلاق، كلها آراء وتذوقات شخصية، افتقدنا النقطة المرجعية، فلا يوجد لدينا نقطة صفر، ولا أرض نقف عليها، وفي ظل كل ذلك يصبح كل شئ مباحا، وكل شىء غير مباح، المهم إنت مع أي جانب تقف. وأصل هذا النوع من الجهل بشقيه البسيط، والمركب في عقول الناس يأتي من القائمين على المنظومة الأخلاقية للمجتمع، من يحددون الصواب من الخطأ، والصحيح من غير الصحيح، والمقبول من المرفوض، وفي القلب من هؤلاء علماء الدين، والمعلمون، وأساتذة الجامعات، والمثقفون، وكل من ينظر إليه الناس على أنه قدوة، ومثل أعلى، إذا افتقدت هذه الطبقة المثقفة المعايير، وتحولت إلى تبرير كل شئ طبقا للمصالح، والمنافع، والتحيزات الإيديولوجية؛ فإن المجتمع في عمومه يفقد المعيار، ويدخل في مرحلة التيه، والتوهان الأخلاقي، والمعرفي، والقيمي، والثقافي، ويصبح الحق باطلاً، والباطل حقاً، والخير شراً، والشر خيراً، وتضيع البوصلة ويتشتت الناس، ويفتقد المجتمع وجهته، ولا يعرف إلى أين يسير، إلى الماضي، أم إلى المستقبل. وقفت كثيراً عند قول الله سبحانه وتعالى «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى» أمر إلهي بألا تدفعنا كراهية الآخرين على عدم العدل معهم، وإنكار جهودهم، وتشويه إنجازاتهم، أو مواقفهم، أو سلب حقوقهم، فبرغم كراهيتنا لهم، لابد من العدل معهم، لأن ذلك أقرب للتقوى، حالة يصبح معها الجهل مستحيلاً.. لانه قد تم تحييد الهوى، والتحيزات الشخصية، وأصبح هناك معيار خارج حدود مصالح الإنسان وأهوائه. أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة