هل وعى الاسكتلنديون درس الربيع العربى.. وهل أسكتلندا كالقرم تفضل الانتماء إلى دولة قوية بدلا من شعارات الاستقلال.. أم أن رجال المخابرات البريطانية والامريكية وكل القوى الخارجية التى لعبت دورا كبيرا فى تفكك العالم الثالث ومحاولة تقسيمه إلى دويلات لن تلعب هذا الدور مع نفسها ولن تشرب من نفس الكأس التى جرعتها لشعوب العالم. إنها تساؤلات عديدة ولكنها كلها تصب فى أن المواطن البسيط الحالم بحياة مستقرة ودخل معقول لا تدغدغ أحلامه أى شعارات تلعب فى اتجاه الانفصال، وأن ثلاثة قرون من أحلام الاستقلال التى تناولها العديد من الكتب والكثير من الافلام وعلى رأسها فيلم ميل جيبسون الشهير «القلب الشجاع» كلها سقطت أمام مجموعة من الاغراءات المالية التى شاور بها رئيس الوزراء البريطانى «ديفيد كاميرون» رغم أن الانفصاليين أيضا كانوا يعولون على الاغراءات المادية التى سيحصل عليها الاسكتلندى بعد الانفصال معتمدين على أن بحر الشمال، الذي يحد المملكة البريطانية المتحدة، عبر بوابة أسكتلندا، واحد من أكبر منافذ النفط والغاز التي تتغذى عليه بريطانيا، كما أنه يحتوي على مايقرب من 24 مليار برميل من النفط والغاز لم تستخرج بعد. هذه الثروة وحدها ستقفز بدخل الفرد الاسكتلندي السنوي من 39 ألف دولار، بحسب ما كانت في 2013 بالمملكة المتحدة، الى ما يزيد على 52 ألفا بعد 5 سنوات من الاستقلال على الأكثر، أي زيادة بالدخل الشهري للفرد الواحد تصل الى 1000 دولار في «دولة» سكانها 5 ملايين و400 ألف، وهذا وحده كان يكفي للعب على وتيرة الانفصال. وعلى الجانب الاخر نجد أن كل المفكرين والمبدعين والذين يعيشون فى أبراج عاجية أمثال النجم المخضرم شون كونرى وأليكس فيرجسون كانوا مع الانفصال قلبا وقالبا.. إننا أمام حالة لا يجب دراستها فقط من الجانبين السياسى والاجتماعى ولكن أيضا من الجانب النفسى، خاصة أن هذا الانفصال كان سيعنى الكثير للأوروبيين، وليس فقط لبريطانيا التى كانت مهددة أيضا بانفصال ويلز وأيرلندا الشمالية لتصبح فقط المملكة البريطانية فهو كان سيمهد الطريق للحركات الانفصالية في إسبانيا وبلجيكا. وهذا ما جعل أوروبا تكتم الانفاس فى الاسابيع الماضية انتظارا لما سيسفر عنه الاستفتاء، وبعيداً عن التفاصيل الاقتصادية والسياسية التى أدت لفوز الوحدويين، فإننى أقف حائرا أمام تحليل شخصية رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون المغامر بمستقبله السياسي بقبوله تحديد تاريخ للاستفتاء، وهو ما لم يفعله تونى بلير الاسكتلندى الأصل، فهل كان يملك أوراق اللعبة فى يديه فراهن بلا خوف أو تردد على أن الاسكتلنديين سيختارون البقاء في المملكة المتحدة على مغادرتها، خاصة أنه إذا ما خسر كاميرون الرهان وصوت الاسكتلنديون لصالح الاستقلال فسيذكر التاريخ كاميرون على أنه رئيس الوزراء البريطاني الذي تسبب في انفصال جزء مهم من البلاد. كما يتذكر العالم أجمع أن جورباتشوف هو الذى أعطى إشارة البدء لتفتيت الاتحاد السوفيتى.. مع أن كاميرون أعلن أنه لن يتقدم بإستقالته حال تصويت الاسكتلنديين لصالح الاستقلال الا أن هذا لم يكن ليحدث لان الشعب البريطاني من المستحيل أن يغفر لكاميرون تلك السقطة وكان سيعاقبه في الانتخابات المقبلة المقررة في العام 2015، وبالتالي فقد غامر بمستقبله السياسى ولعب بكل أوراقه فى لعبة مقامرة كبيرة، ولم يخيب الاسكتلنديون توقعاته وصوتوا ب«لا» للاستقلال. وفى الواقع إنه حتى التصويت بنعم لصالح الاستقلال لن يجعل حزب العمال البريطاني المعارض يفوز بالأغلبية في الانتخابات المقبلة لكونه سيحتاج إلى تأجيلها إلى ما بعد الاستقلال في عام 2016. والمثير أن دعاوى استقلال اسكتلندا تتزايد في كل مرة يضع فيها زعيم حزب العمال البريطاني المعارض إيد ميليباند قدمه في اسكتلندا، وخاصة مع فشل حزبه في إقناع المؤيدين للاستقلال بدعم وحدة المملكة المتحدة، وهو بذلك كان من المضارين أيضا بحدوث الاستقلال وربما تكون هذه هى المرة الاولى منذ أمد بعيد التى تتوحد فيها أهداف حزب المحافظين مع العمال.. واعتقد أن موضوع استقلال أسكتلندا لم يكن بالأمر الخاص ببريطانيا فقط، بل إن هذا الامر سيكون مزعجا لأمريكا أيضا فكما قالت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، أن الحليف الأقرب للولايات المتحدة سيجد نفسه دون سلاح رادع، في حالة استقلال اسكتلندا، وخاصة في ظل التهديدات التي تواجهها أوروبا، عقب استعادة روسيا لقوتها، لأن الغواصات النووية البريطانية تتواجد بشكل أساسي في أسكتلندا، وهذا يعنى فى حالة التصويت ب «نعم» أن الغواصات النووية البريطانية ستكون بدون ميناء.. وهذا أمر صعب للغاية لكون بناء موانئ جديدة لاستيعاب الصواريخ والغواصات النووية البريطانية، في انجلترا، سيحتاج ما لا يقل عن 10 سنوات، وسيكلف الحكومة البريطانية، مليارات الدولارات...وهذا يؤكد أن هناك أدواراً خفية ربما لعبتها أمريكا لمنع انفصال أسكتلندا عن حليفتها المدللة بريطانيا!.. وهذا ما ستكشفه الأيام القادمة، فهناك فى الكواليس العديد من الخفايا التى قد تفسر كيف يتخلى شعب عن حلمه فى الاستقلال، ولماذا تدعم أمريكا وأوروبا تقسيم السودان وشرذمة شعبه، وتتحرك يمينا ويسارا لدعم الحركات الانفصالية للاكراد لتكوين دولة كردستان, إلى جانب الحلم الأكبر بتقسيم الشرق الأوسط الى دويلات، فى الوقت الذى تصاب بحمى الخوف من انفصال أسكتلندا عن المملكة المتحدة، إننا هنا نعود الى ازدواجية الكيل بمكيالين الذى يبنى بهما العالم المتحضر أكذوبة ديمقراطيته. ويبقى فى النهاية ان انفصال اسكتلندا فيلم رعب تابعه الأوربيون بخوف، وخرج منه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بجائزة أحسن سيناريو وإخراج لعمل سياسى كاد يهز العرش البريطانى.