أحداث جسام مرت بها مصر على مدار الثلاث سنوات الماضية بداية من ثورة 25 يناير وخلع مبارك وثورة 30 يونية وعزل مرسي، وغيرها من الأحداث المهمة التي غيرت مجريات الأقدار تحت سماء مصر المحروسة، ففي وقت قصير خلع الشعب المصري اثنين من رؤسائه وخرج للاستفتاء على دستوره الديمقراطي ب «نعم» ثم جرت انتخابات رئاسية نزيهة مثل الانتخابات في الدول المتقدمة، خرج فيها الشعب المصري نساؤه قبل رجاله، شيوخه قبل شبابه في ملحمة تعكس نقاء هذا الشعب ووعيه الفطري، واحترامه للديمقراطية التي علمها لشعوب العالم أجمع بعد أن ازاح من طريقه نظامين: الأول منهما حكم الشعب المصري بالدكتاتورية، وأغرقه في الفساد، والثاني مثل الفاشية الدينية حق تمثيل!! لذا يجدر بنا أن نطلق «شعب المعجزات» لكن من يعرف تاريخ هذا الشعب لن يجد في ذلك غرابة فأول ثورة في التاريخ نُسبت لأجدادنا المصريين وهو حديث يستحق الخوض فيه، فأول ثورة في تاريخ العالم كانت مصرية،وهى ثورة ضد نظام «بيبي الثاني - نفر كارع» عام 2278 قبل الميلاد تقريباً، حيث اعتلى «بيبي الثاني نفر كارع» عرش مصر وهو في سن السادسة، وكانت والدته «انخسينمينريرع الثانية» وصية عليه، كان حال مصر في بدايات عهده مزدهراً، وفي أواخر عهده شهد العالم أول ثورة في التاريخ، حيث فرض على المصريين طوال فترة حكم «بيبي الثاني» التي وصلت الى 94 عاماً الضرائب، ومورس ضدهم الارهاب، وتعرض الشعب المصري لشتى وسائل التنكيل من قبل نظام «بيبي الثاني» وتفشى الظلم واتسعت الهوية بين الطبقات وتلاشت أي معالم للعدالة الاجتماعية وتحمل الشعب المصري الظلم الكثير وأدى هذا إلى انعدام الاستقرار والأمن. وفي مصر القديمة قبل أول ثورة في التاريخ طُرد الموظفون من وظائفهم، وانتهكت القوانين التي قامت عليها الحضارة المصرية، وانهار الصرح الاجتماعي المصري المتضافر، واستقل حُكام الأقاليم بأقاليمهم، وامعنوا في استبدادهم وظلمهم للمصريين، وتخلى الكهنة ورجال الدين عن أماناتهم، ووظفوا شهادتهم وفتواهم لخدمة الحكام حرصاً على أوقافهم، غير مُبالين بالفقراء وما يُعانونه من قهر وذل وجوع. إضراب عام وقام المصريون بعمل اضراب عام شمل البلاد وشل حركتها تماما، واعتصموا في أكبر المعابد لكي يلفتوا النظر اليهم، وقاموا ببعض الأعمال التي من شأنها اجبار الملك على سماع مطالبهم كالطرق على أبواب المعابد والهتاف بصوت عال. وانطلق الكثير من المظلومين يدعون الناس إلى العصيان ومحاربة الظلم، فحطموا حاجز الخوف وسرعان ما استجاب باقي الشعب الى النداء، فاشتعلت نار الثورة في كافة أنحاء مصر. وانقلبت الأوضاع في المجتمع رأساً على عقب وانهيار النظام الفاسد وانتصر الشعب المصري في معركته الأولى مع الاستبداد والظلم وانهارت الدواوين والمحاكم وبددت السجلات، وأفلست الخزانات. ولم يعد أحد يخشى رجال الأمن ولا النبلاء ولا الكهنة ولا الأسر المالكة فأصبح السادة عبيداً، وتخلى الناس عن خدمة الطقوس الجنائزية وعاشت مصر بعد الثورة بلا حُكام لمدة ست سنوات. وبمرور الوقت انضمت القرى والمدن بعضها إلى البعض فتكونت الأقاليم وكان لكل اقليم حاكم وكانت هناك مجموعة أقاليم في الوجه البحري وأقاليم في الوجه القبلي، ثم قامت حركة «اتحاد» في الوجه البحري حينما اتحدت اقاليم الدلتا في مملكة واحدة «مملكة الشمال» وكانت عاصمتها مدينة «بوتو» شمال مدينة دسوق الحالية بمحافظة كفر الشيخ وكان ملكها يزين رأسه بتاج أحمر. كما تكونت مملكة أخرى في الوجه القبلي «مملكة الجنوب» وكانت عاصمتها مدينة «نخب» قرب مدينة ادفو الحالية بمحافظة أسوان. وكان الملك مينا هو ملك مملكة الجنوب الذي وجد أن تفرق مصر الى مملكتين شىء غير مريح فحارب مملكة الشمال وانتصر عليها، وهذا كان حوالي سنة 3200 ق.م، وأصبح مينا أول حاكم مصري يلقب بملك مصر العليا والسفلى ولبس تاجاً مزدوجاً يضم تاجي الشمال والجنوب معاً، وكون لمصر كلها حكومة مركزية قوية وأصبح أول حاكم يحمل عدة ألقاب، مثل: ملك الأرضين، وصاحب التاجين،ونسر الجنوب، وثعبان الشمال، وكان كل ذلك تمجيداً لما قام به هذا البطل المصري القديم. وأصبح الملك «مينا» مؤسس أول أسرة حاكمة في تاريخ مصر الفرعونية، بل في تاريخ العالم كله، ولبس التاج المزدوج لمملكتي الشمال والجنوب، وأدرك الملك «مينا» ضرورة بناء مدينة متوسطة الموقع، يستطيع منها الاشراف على الوجهين القبلي والبحري، فقام بتأسيس مدينة جديدة على الشاطئ الغربي للنيل مكان قرية «ميت رهينة» الحالية بمحافظة الجيزة، وقد كان في بادئ الأمر قلعة حربية محاطة بسور أبيض، أراد بها صاحبها أن يحصن ويحمي المملكة من غارات أصحاب الشمال واطلق عليها «نفر» أي الميناء الجميل. كما تم تسجيل انتصارات الملك مينا على مملكة الشمال وتوحيده البلاد، على وجهي لوحة تعرف باسم «لوحة نارمر»، والتي كرست للملك وتم الكشف عنها عام 1897، ويرجح المؤرخون أن «نارمر» هو «مينا»، وقد وجدت هذه اللوحة في مدينة «الكاب»، وهي موجودة حالياً بالمتحف المصري بالقاهرة، وللوحة وجهان الوجه الأول يصور الملك «مينا»، وهو يقبض على أسير من أهل الشمال، وعلى رأسه التاج الأبيض، بينما يصور الوجه الآخر الملك مينا وهو يحتفل بانتصاره على مملكة الشمال،وهو يلبس التاج الأحمر. وأعقب هذا الانتصار الذي قام به مينا تطور هائل في الحضارة المصرية وتبلورت مبادئ الحكومة المركزية، وكانت هذه الوحدة عاملاً مهماً في نهضة مصر الفرعونية في شتى نواحي الحياة. أحفاد يشبهون الأجداد «ما أشبه اليوم بالبارحة وما أشبه المصريون بأجدادهم» بهذه العبارة بدأ الدكتور علاء الدين شاهين العميد الأسبق لكلية الآثار بجامعة القاهرة حديثه عن الشعب المصري وثورته الأولى على «بيبي الثاني» مؤكداً أن دوافع ثورة الشعب المصري وتمرده على الظلم متشابهة، منذ بداية التاريخ، وتتلخص في الانهيار الاقتصادي، وانتشار الفساد، واستبداد الحكام، وتجاهل القانون لصالح الأقوياء والأغنياء من الطبقة العليا، وعدم قدرة الدولة على الوفاء بحقوق المجتمع والمواطنين، فمثلاً حكام الأقاليم التي أسماهم المصري القديم «حاتي عا» ويطلق عليهم اليوم «المحافظ أو رئيس المدينة» هم أول من يصدر الظلم ويمرر الفساد وكذلك أول من يثور عليه المواطنون في ثوراتهم، ففي عهد بيبي الأول استوحش حكام الأقاليم على الشعب المصري، حتى أصبحوا أكثر استبداداً من الملك، وهو الشر ذاته الذي استشرى في عهد مبارك، فالفساد أصبح اخطبوطاً له ملايين الأذرع لحماية كل أعضائه في كل قطاعات الدولة، مما جعل الفساد أكثر قوة علي البقاء من رئيس الجمهورية الذي أطاح به الشعب المصري في 25 يناير، بينما أخطبوط الفساد مازالوا في المحافظات يتصدر المشهد. ويؤكد شاهين أن الحكيم المصري القديم «أبيو-ور» سجل أحوال المصريين قبل الثورة على بيبي الثاني قائلا: «أصبح المصري في بلاده أجنبي، والأجنبي فيها مصري، والانسان لا يأمن خلفه» ويقول أيضاً: «الخلل الاجتماعي يتضح في المرأة التي كانت ترى وجهها في المرآة واليوم تراه في المياه والمرأة التي كانت ترى وجهها في المياه اليوم تراه في المرآة» في إشارة من الحكيم إلى أن انقلاب الأوضاع في مصر القديمة أهم دافع لانفجار الثورة المصرية، وهذا ما حدث بالفعل قبل ثورة 25 يناير وكأن الحكيم المصري القديم جاء من أعماق التاريخ ليشخص أمراض المجتمع المصري في الألفية الثالثة، ويحدد دوافع ثورته، فالغني أصبح فقيراً والفقير أصبح غنياً، والحقير أصبح من أعالي القوم، والعلماء أحط بهم الفساد وحقر من قدرهم. كما أشاد «شاهين» بموقف الفلاح المصري في الثورات المصرية، مشيراً إلى أن ذلك الفلاح القديم كان ممن اعترضوا على ظلم الحاكم وتأخر الأجور، واعتصم مضرباً عن العمل في وادي النطرون، فالمصري يعي تماماً الحق والعدالة، والحكومة والقانون، ومتى يخرج مستبدلاً الصمت بالثورة لاسترداد حقه، فنجد مفهوم الدولة والقانون عند المصريين، يقول أحد الوزراء من المصريين القدماء للملك عن الحق «ماعت»: «لا تكن عادلاً إلى درجة أن تظلم نفسك وأولادك فهناك قانون»، ولأن هذه الصفات تحملها الجينات المصرية منذ آلاف السنين. فلا عجب أن نضع في الاعتبار نصائح الملك لابنه «ميركارع» قائلا: «لكي تكون ملكاً صالحاً كن قريباً من جنودك وضعهم في شرق الدلتا فهى منطقة الانفلات القادم». ويتفق الدكتور عبد الحليم نور الدين، أستاذ ورئيس قسم الآثار المصرية بجامعة القاهرة، مع الرأي السابق بشأن الجينات المصرية التي يتفرد بها أبناء النيل منذ القدم وحتى اليوم، قائلاً: إن الانسان المصري القديم هو عينه المصري الذي يخلق المعجزات في الألفية الثالثة، مشيراً الى أن الثورة عبارة عن حركة هدفها التغيير واتجاه نحو اعادة حيوية الأمة المصرية التي مر عليها ثورات عديدة بدأها المصري القديم ضد بيبي الثاني، وغيرها من الثورات، ففي عهد رمسيس الثالث تمرد العامل المصري على تأخر مستحقاته المالية، مقابل بناء المقابر المصرية القديمة، وكتب المصريون لافتات تدعو للتمرد والعصيان المدني والتوقف عن العمل. وأضاف نور الدين: إن من يقرأ تاريخ المصريين يعلم جيداً أنه لا فارق بين الأجداد والأحفاد فلا يزاد المصريون ينسجون تاريخهم المشرف، ويؤكدون أن المصري يتفرد بشخصية عبقرية لا تقبل القيود ولا الظلم، لا يجبن ولا يستسلم ولا ينهار فهو مسالم وغير مستسلم ينبذ العنف ولا يلجأ إليه في الدفاع عن حقه وأرضه.