مثلت المرأة في حياته حكاية جميلة، استوحى منها العديد من كتاباته، قال عنها إنها المرأة التي جهلت الكتابة والقراءة، ولم يعرف حتى الآن لا كيف تسلل إليها الإحساس الذى لم يتحدث عنه معها، وصفها بالحكاءة من الطراز الأول رغم أميتها، وشرح كيف كانت حكاياتها بمثابة البذرة الأولى في بعض رواياته. هو أديب وقصاص مصري معاصر ولد بالبحيرة. اهتم بالتعبير عن المحيط القروي المصري وما يتصل به من قضايا، عرف بنبرته السياسية الناقدة، تعرضت بعض أعماله للمصادرة، يعتبر واحداً من رواد الرواية في مرحلة ما بعد نجيب محفوظ الذي ربطته به علاقة متينة، حصد «جائزة الدولة التقديرية في الآداب (مصر)» وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2008، وحازت روايته «الحرب في بر مصر» المرتبة الرابعة ضمن أفضل مائة رواية عربية. القصاص والأديب يوسف القعيد، الذي تهديه أسرة الوفد باقة زهور في ذكرى الاحتفال بيوم ميلاده ال 70، وصف رواية «الحرب فى بر مصر» بأنها واحدة من حكاوات أمه، استمع إليها في 24 ساعة إجازة من وحدته العسكرية أثناء الحرب، ورواية «أخبار عزبة المنيسى» استمع منها إلى جوهرها الروائى. بداية إن أراد «القعيد» أن يتحدث عن نفسه فماذا يقول؟ - نفسي لا تجد الكثير لتتحدث عنها، فهي لا تحب المسرفين فى الحديث عن ذواتهم، والجمل التي تبدأ بأنا لا ميل لها فيها، كان أبى رحمه الله إذا قال «أنا» أردفها ب «أعوذ بالله من كلمة أنا»، وعلى الرغم من هذا فأستطيع القول بأني إنسان بسيط للغاية. الحكي كان اكتشافاً لذاتي في شبابي الأول، وحالي حال الكثير من المصريين، يحاكون الحب بداخلهم في حياتهم الأولى، فيكتبون الرسائل فيمن يحبون، حتى وإن غابت تلك المحبوبة فهي في خيالهم يكتبون الرسائل لها، وينشغلون عن سلوكهم المراهق فيما بعد، أما أنا فقد استمر الأمر معى، متحولاً من قول الشعر إلى الحكى وكتابة القصة والرواية. تحولت حياتى تماماً، والرواية أو الكتابة عموماً هى التي رسمت لحياتى طريقها، فكانت سبباً في نزوحي إلى المدينة التي لا أحبها، تاركاً من خلفي حياة القرية رغم عشقي لها، وأشعر فى كل لحظة أننى أخذت إجازة من أهل قريتى لفترة، أزور فيها المدينة ثم أعود إليهم فى النهاية. العشرون عاماً الأولى من عمر أي إنسان حاسمة، تتكون فيها قيمه وعاداته وتقاليده، وتلك الفترة في حياتي رسخت في داخلى موقفى من الدنيا حتى الآن. خمسون عاماً من الإبداع في حياة القعيد،، ماذا لو عاد بك الزمن إلى الوراء؟ - «لو» حرف افتراضي، ومع ذلك لو عشت حياتى من جديد، كنت سأسير فى نفس الخط مع بعض التعديلات البسيطة، كنت سأقاوم ترك قريتى والحضور إلى المدينة، كنت سأكتب روايات أخرى بشكل مغاير لما كتبته، كنت سأقاوم فكرة السفر إلى بلاد الله، لأننى اكتشفت أننى مسافر ردئ، وأن القلق الذى يصيبنى عند السفر لا حدود له، وأن الاستمرار فى نفس المكان الذى أعيشه غاية المراد من رب العباد. الحكاءة الأولى في حياة القعيد، كانت تجهل القراءة والكتابة، وعلى الرغم من هذا أثرت في حياته كاكاتب، حدثنا عنها؟ - لم تكن فقط الحكاءة، بل كانت الخندق العاطفى، كانت أقرب المحيطين إلىَّ، كنت أشكو لها همى، فهي أول من اشترت لي جريدة، عندما كنت صغيراً جالساً بصحبتها على رأس حارتنا، ومر علينا بائع الصحف، عندما اكتشفت اختلافي عن أقراني، واستمرت تفعل هذا معى. كانت أمي رحمها الله لا تكتب ولا تقرأ، وحتى الآن لا أعرف كيف تسلل إليها الإحساس الذى لم أتكلم معها عنه، فكانت حكاءة من الطراز الأول رغم أميتها، وكانت حكاياتها بمثابة البذرة الأولى في بعض رواياتى، فرواية «الحرب فى بر مصر» كانت واحدة من حكاواتها، استمعت إليها في 24 ساعة إجازة من وحدتى العسكرية أثناء الحرب، ورواية «أخبار عزبة المنيسى» استمعت منها إلى جوهرها الروائى. وماذا عن والدك؟ - كان أبى تاجراً، اتجه إلى الزراعة بعد تأميم القطن في الخمسينيات، ولأننا لم نكن نملك أرضاً، زرع مشاركاً الحاج عبد القوى أحمد سمك، كان رحمه الله خطه جميلاً، وكان يستمتع بجمال خطه، ولم أعرف لماذا توقف تعليمه، وكان يدون كل ما يمر به فى حياته، خاصةً من حيث الأرقام، ما أنفقه على زرعة الطماطم أو الفلفل أو الباذنجان، وما عاد له منه وحسابات الربح والخسارة، ذهبت معه إلى الحقل كثيراً، وعندما بدأ يسافر إلى الإسكندرية ليبيع محصوله، سافرت معه أكثر من مرة وقضيت معه الليل فيها. وكان أبي مضيافاً يقدم لضيوفنا ما لا يقدمه لنا، فكنت عندما أعود إلى القرية في زيارة وبرفقتي جمال الغيطانى، إسماعيل العادلى، نبيل بدران، عبدالفتاح الجمل، والمستعرب اليابانى نوبى آكى نوتاهارا، كان يعتبرهم ضيوفه هو وليسوا ضيوفى أنا. تبدو القرية في حياتك لها مكانة كبيرة، فلماذا لم تعش فيها؟ - نظرتى للعالم حتى الآن هى نظرة قروى، أجبر أن يعيش في المدينة، فأنا لست بمحب للحياة في المدينة، وعندما اكتشفت وجود جزيرة فى وسط النيل هى جزيرة الدهب، ذهبت إلى هناك أبحث عن مكان فيها ولم أوفق، وعندما علم مصباح قطب الصحفى الشاب – فى ذلك الوقت – بهذه الرغبة، سألني: متى تغسل قلبك من حب القرية؟.. فأجابته: ولماذا أغسله؟.. إننى أعتبر أن أهم ما يميزني حبى للقرية، ولو توقف هذا الحب لتوقف قلبى عن الخفقان، القرية هى الواقع الذى أعرفه جيداً، نشأت بها وقضيت الخمسة وعشرين سنة الأولى فيها، وهى السنوات التى تكون فيها وعيى، وحياة القرية تطبع ساكنها بطابعها الريفى، بصرف النظر عن العمل الذى يقوم به، فنجار القرية نجار ريفى، وبقال القرية بقال ريفى، وحلاق القرية حلاق صحة ريفى. لمن تقرأ؟.. ولمن تستمع؟.. ولمن تحكى؟ - أحكى لمن يقرأون الحكايات حتى الآن، وأتمنى ألا تخلو الحياة منهم، فوجودهم هو مبرر استمرارى فى الحياة، أحكى كتابة لمن يقرأ الكتاب، وأحكى سرداً بصوت عالٍ لمن يجلسون معى، وكل ما فى الحياة أتعامل معه بسعادة بالغة، خصوصاً الممكن تحويله لحكايات وروايات، أعتبر أن الحياة كلها عبارة عن حكاية كبيرة نعيشها من الميلاد إلى الممات. وأستمع للغناء الذى يطربنى، فما زلت أستمع عبدالوهاب، أم كلثوم، أسمهان، فيروز، محمد عبدالمطلب، كارم محمود، ومحمد طه، فالغناء والموسيقى أكثر ما يعبر عما يدور فى الحياة، وعن إيقاع العصر والواقع، أخشى أن تتوقف مصر عن إفراز الأصوات الجديدة، لدينا أصوات جيدة مثل آمال ماهر، أنغام، على الحجار، ومدحت صالح، لكنهم لا يجدون المجتمع الحاضن الذى يحتضن مواهبهم بنفس الطريقة التى جرت فى ستينيات القرن الماضى. قال الشيخ مصطفى عبدالرازق لأم كلثوم، عندما تركت قريتها وجاءت للقاهرة فى عشرينيات القرن الماضى: إن صوتها يستحق أن تقف مصر معه، من يقول للمطربين المصريين الجدد هذه العبارة الآن؟.. هذا مجتمع مشغول عن فنه، والمجتمع الذى ينشغل عن فنه لا يجد فى النهاية سوى دماره. الأوبرا واحة عظيمة وسط لهيب مصر اليومى، وتقودها فنانة جليلة هى الدكتورة إيناس عبدالدايم، لكنها تفتقر الاعتماد المالى، لكى تتبنى هذه المواهب وتقف معها، والإذاعة كان لديها ما يمكنها من إنتاج الأغانى، وكل هذا توقف، والصوت الجديد سواء كان لمطرب أو مطربة، عليه إما أن يدفن نفسه بالحياة أو أن ينتظر فرصة قد تأتى ولا تأتى. أقرأ رواية لروائى من إريتريا، اسمه حجى جابر، والرواية عنوانها: «مرسى فاطمة»، لفتت نظرى لها الصديقة الروائية سلوى بكر، التى اكتشفت فيها قارئة رواية من الطراز الأول ومتابعة دؤوبة لكل ما ينشر، حجى جابر مفاجأة مفرحة، فهو روائى حقيقى يكتب الرواية القريبة من الشعر، ويرتبط بواقعه ويقدمه بشكل فنى بالغ الجمال، ورغم عدم وجود تراث روائى فى بلده، والبلد نفسه حديث العهد بالدنيا إلا أنى أتوقع أن حجى جابر صوت روائى شديد الأهمية سيواجه ما يفعله الشباب الجدد فى الكتابة الروائية فى مصر والعالم الآن، من كثرة سعادتى بنصه لا أحب أن ينتهى، أقاوم أن أصل لكلمة النهاية، ونزلت للأسواق واشتريت روايته الثانية: «سمراويت»، لأقرأها بمجرد الانتهاء من قراءة مرسى فاطمة. هل تقرأ لجيل الشباب أمثال أحمد مراد وعصام يوسف أو غيرهم؟.. ومن يعجبك منهم؟.. وما رأيك فيهم؟.. وبماذا تنصحهم؟ - لا أنصح أحداً، النصيحة تقدم لمن يريد النصيحة، وهؤلاء لا يريدون النصيحة من أحد، عندما أقابل أحدهم أشعر أنه لم يقرأ لأى كاتب قبل، أرجوكى اعفىنى من أن أقول رأيى فىهم، لأن الأمر سيتم تفسيره على أنه صراع أجيال، والأمر أخطر من هذا، ثمة محاولة لتغيير الذائقة الأدبية خاصة مع التعامل مع النص الروائى، النص الذى يروج، ومع ذلك لا يحتوى على أى قيم أدبية تبرر هذا الرواج، إنه الرواج الذى يأتى من خارج النص، وهو رواج وقتى وعابر ولن يستمر طويلاً. ما رأيك فيما آل إليه حال الجوائز داخل مصر وخارجها؟ - الجوائز داخل مصر يكفى أنها تقدم باسم مصر، يكفى أن تحمل الجائزة اسم وطن أحببناه وافتديناه بأعمارنا، أما الجوائز العربية وأنا لا أحب التعميم، بعض الجوائز العربية لا بأس به، وبعضها الآخر مغرض، وبعضها الثالث استنساخ لجوائز عالمية، وهو يساعد على تغيير ذائقة القراء، بعد محاولة تغيير ذائقة الكتاب لكى نصل إلى ما يمكن أن نصل إليه، وأتمنى ألا أكون موجوداً عندما نصل إليه. كيف ترى المستقبل فى مصر؟.. وهل أنت متفائل؟ - أنا متشائل، والتعبير يعود للروائى الفلسطينى إيميل حبيبى، له رواية عنوانها: «سعيد أبى النحس المتشائل»، بمعنى أننى نصف متفائل ونصف متشائم، وأرجو أن أنتقل لأرض المتفائلين قريباً، وأرجو أن أردد عبارة ناظم حكمت الشاعر التركى العظيم، وعظمته لا علاقة لها بما يجرى فى تركيا الآن، فلو كان على قيد الحياة لتنازل عن جنسيته فوراً، يقول ناظم حكمت: إن أجمل الأيام هى التى لم نعشها بعد. بعد كل ما مر فى مصر من أحداث.. متى يحق لنا أن نسأل الكتاب والمبدعين عن إنتاجهم الأدبى فيما يخص هذه السنوات؟ - لماذا نستعجل الكتابة عما مر بنا منذ 25 يناير حتى الآن؟.. أولاً: ما تم يكاد أن يكون مبتدأ جملة لم نقرأ خبرها، ثانياً: دعينا نتعلم من حكمة التاريخ، ثورة 1919 كتب عنها توفىق الحكيم روايته: عودة الروح، بعد عشر سنوات من الثورة، وكتب عنها نجيب محفوظ ثلاثيته: بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية، بعد ثلاثين عاماً من قيام الثورة، أى سنة 1949، ونشر الثلاثية سنة 1959 أى بعد أربعين عاماً من قيامها. رواية نجيب محفوظ عن ثورة يوليو: «السمان والخريف» مكتوبة سنة 1962، أى بعد قيام الثورة بعشر سنوات، بل إن رواية: «الحرب والسلام» لتولستوى، وهى أهم رواية فى تاريخ البشرية حتى الآن، مكتوبة بعد انتهاء الحرب التى ترصدها وتعبر عنها، وهى محاولة نابليون غزو روسيا، مكتوبة بعدها بخمسة وسبعين عاماً، لدرجة أن تولستوى عندما جلس يكتب روايته لم يكتب أحداً على قيد الحياة من الذين عاصروا أحداثها. رواية: «قصة مدينتين»، لتشارلز ديكينز, المكتوبة عن الثورتين الإنجليزية والفرنسية، مكتوبة بعد قرن من الزمان من وقوع أحداث الثورتين، لماذا الاستعجال؟.. لماذا الهرولة؟.. لا أعتقد أن قصة ما يجرى على أرض مصر الآن يمكن أن تكتب فى مصر الآن. إلى أى حد يستطيع الكاتب أن يغير واقع وطنه المهموم؟ - أريد وعداً بمحو أمية 45% من المصريين، وأريد وعداً أن تكون القراءة فريضة فى حياة المصريين، الكتاب يكتبون، يحاولون تغيير الواقع للأفضل والأحسن، ويكتبون كتابة جيدة، فى مصر الآن انفجار روائى وقصصى لم يحدث من قبل، لكن المشكلة مشكلة قراءة، وعندما تحل هذه المشكلة ستساهم هذه الكتابة فى تغيير الواقع إلى الأفضل والأحسن والأجمل. هل يوسف القعيد سعيد؟ - في عام 1979 طرحت هذا السؤال على صلاح عبدالصبور فى حوار كنت أجريه معه، يومها ذهبت إليه، فقال لى: اترك لى الأسئلة وسأكتب لك الإجابات ودعنا نثرثر فى أحوال أيامنا، وعندما وصل إلى هذا السؤال قال لى إنه غير سعيد، ثم شرح السبب عندما قال: إن الحزن ابن التأمل، والتأمل هو ما يجب أن نواجه به الحياة، أما بلهنية السعادة والإحساس أن كل الأمور على ما يرام، فهى لا تنتج كل ما يمكن أن يخرج به الإنسان من لحظات التأمل. بصدق أنا إنسان غير سعيد، ولحظات السعادة بالنسبة لى عندما أكتب كتابة وأرضى عنها، وتصل سعادتى لأقصاها عندما تصل إلى الآخرين، وتوصل أسبابى بأسبابهم وتقيم وشائج علاقة بينى وبينهم، التواصل الإنسانى هو مفتاح السعادة بالنسبة لى، ولأن التواصل بين إنسان وإنسان لم يعد له وجود، فإن التواصل الأدبى يبقى الأمل الأخير، وإن كنت أشك فى استمراره ووجوده معنا فى السنوات القادمة. لقد اغتالت حالة التقدم التكنولوجى والإنترنت كثيراً من إنسانية الإنسان، حفيدتى أمينة مصطفى فاروق، وهى أغلى ما فى الوجود بالنسبة لى الآن، ما إن تصل إلى بيتى حتى تسألنى عن الآى باد، وإن أحضرته لها أصبح كل حياتها، صديقها ومسامرها ومبدد وحدتها ووحشتها، إن كانت عند الأطفال وحدة ووحشة، ومع ذلك فأنا أواصل الحياة.