يرى الكاتب والأديب الكبير يوسف القعيد أننا في أمس الحاجة اليوم لتعبير ريجي دوبرييه "ثورة في الثورة"، محذرا من أن عدم حدوثها سيجعلنا نمر بأوقات عصيبة كثيرة قادمة، وقد تكون هناك دماء، وقد يكون هناك ضحايا، وقد نعاني من الضبابية وانعدام الرؤية،،، وفي حديثنا معه كشف لنا الكاتب الكبير الأخطاء التي وقع فيها شباب الثورة، مؤكدا على أن هذه الأخطاء أدت إلى سرقتها، وشكك في إيمان الشعب المصري بثورته بقوله: "هذا الشعب لو كان مؤمنا بثورته لتوقف سنة كاملة بعد نجاحها حتى يمحو الأمية السياسية للمصريين"، وينظر القعيد للزمن الآتي برعب وللماضي بغضب، - فى رواية الحرب فى بر مصر استعرضت مقدمات حرب أكتوبر، ثم ذهبت الرواية إلى أن هناك من ضحوا بأرواحهم فى الحرب فى حين ذهبت العائدات المترتبة على النصر إلى طبقة الأثرياء التى تهرِّب أبناءها من التجنيد، فهل ترى أن هناك ثمة تطابق بين ما حدث بعد انتصار أكتوبر وما يحدث الآن بعد الثورة المصرية؟ * بالفعل،، وقد قلت هذا الكلام صباح يوم الجمعة 11 فبراير سنة 2011، حين سألنى الروائى المصرى والمذيع محمود الوروارى فى قناة العربية سؤالاً عن مصير هذه الثورة وهل يمكن سرقتها؟ وذكَّرته بروايتى "الحرب فى بر مصر"، وقلت له إن الثورات يفكر بها الحالمون وينفذها الثوار ويسرقها الأوغاد، ولم يكن مبارك قد تنحى عن الحكم فى ذلك الوقت، ونحن نشاهد سرقة الثورة ونتائجها منذ الثانى عشر من فبراير وحتى الآن، وهو ما سبق أن شاهدناه منذ نهاية حرب أكتوبر سنة 1973 ولسنوات طويلة بعدها وربما حتى الآن، - من وجهة نظرك،، ما هي الأخطاء التى وقع فيها شباب الثورة؟ * أنهم بعد تنحى مبارك ذهب كل منهم إلى منزله، وبدأ يبحث عن مشروعاته الشخصية وعن دوره ونسى أو تناسى أن من تنحّى كان رأس النظام فقط، وأن النظام نفسه ما زال موجودًا بكل أركانه، وهكذا وجدنا أنفسنا فى أمس الحاجة لتمثُّل تعبير ريجى دوبرييه: ثورة فى الثورة، ولكن متى تحدث هذه الثورة فى الثورة؟ ما لم تحدث سنمر بأوقات عصيبة كثيرة قادمة، قد تكون هناك دماء، وقد يكون هناك ضحايا، وقد نعانى من الضبابية وانعدام الرؤية؛ لأن أنصاف الثورات تصبح مقابر للثوار كما قال لنا المؤرخون، - يوسف القعيد ابن الحلم القومي العربي،، أنت أكثر إبداعا من أبناء جيلك،، فلماذا حاز علاء الأسوانى على بريق جيلك وجيله أيضا؟ * أرفض الإجابة على هذا السؤال. - هل ترى أن نجيب محفوظ مهموم بالسطوة (تحرير المجتمع من السطوة) أم كان همه الأساسي هو الله؟ * كان نجيب محفوظ يريد أن يصبح أستاذًا جامعيًا دارسًا للفلسفة، وفى ليلة تقديمه طلب للبعثة المسافرة إلى باريس تصور الموظف الخاص بالبعثات بجامعة القاهرة أن نجيب محفوظ مسيحي، فقال له: لقد أخذنا اثنين من الطايفة،، يلا روح،، وعندما عاد له نجيب محفوظ بعد يومين ليقول له إنه مسلم وأن اسمه نجيب محفوظ عبد العزيز، كان الأمر قد فات، وكان الخطاب قد أرسل لباريس، وهكذا خسرنا أستاذًا جامعيًا، لكننا كسبنا أديبا كبيرًا، فلم يكن الله هم نجيب محفوظ الأساسى، وربما كانت السطوة أو تحرير المجتمع من أحد همومه، لكنه روائى كبير صاحب مشروع أكبر، وربما كان الوحيد من أبناء الأجيال السابقة علينا الذى عرق فى عمله كما لم يعرق أحد من أبناء جيله. - الذين صنفوا نجيب محفوظ فى خانة الكتاب اللادينيين.. هل يجوز لهم هذا التصنيف؟ * هذا لا يجوز على الإطلاق، فلكي يصنف أى كاتب أى تصنيف لا بد أن ينتج عن أمر من اثنين: إما معرفة شخصية بالكاتب، أو قراءة لكل ما كتبه فى حياته وما أدلى به من أحاديث، والذين يقولون هذا الكلام لم يتوفر لهم أحد الأمرين، فهم لم يعرفوه عن قرب ولم يقرأوا كل نتاجه الأدبى، بل ربما قرأوا رواية أو روايتين، وبالتالى فإن هذا الحكم التكفيرى جريمة فى حق نجيب محفوظ، سواء قيلت فى حياته أو بعد رحيله، - هل ترى أن موقف إحسان عبد القدوس من المرأة ووضع ذاته لسانًا لها نابع من عقدة نفسية أم كانت ما تشغله هى الحرية؟ * إحسان عبد القدوس كاتب مظلوم، فهو الوحيد الذى دخل تحت جلد المرأة المصرية وعبر عنها بصورة ربما كانت أفضل من المرأة نفسها، وقد عاصرته كاتبات مصريات لا داعى لذكر أسمائهن، فمعظمهن تركن الدنيا ويسكن الآن الآخرة، كان إحسان عبد القدوس أكثر اقترابًا من روح المرأة منهن، لم يتفوق عليه فى هذا إلا الروائى الإيطالى ألبرتو مورافيا، الذى دخل تحت أنامل المرأة وكتب على لسانها ما لا تستطيع المرأة نفسه أن تكتبه عن نفسها. وأوافقك على أن هاجس الحرية كان من الهواجس الأساسية التى حكمت إحسان عبد القدوس طوال حياته منذ كتاباته الصحفية حتى كتاباته الروائية وحتى آخر يوم فى حياته. - إسماعيل ولي الدين.. قدمته السينما فظهر استنساخا من نجيب محفوظ.. ما رأيك في هذا القول وماذا كان همه الأساسي؟ * هذا ظلم للاثنين، ففى هذا الكلام تبسيط مخل بقيمة المنجز الروائى الذى تركه نجيب محفوظ، نجيب محفوظ بالنسبة للأدب المصرى يساوى تولستوى بالنسبة للأدب الروسى وهيمنجواى بالنسبة للأدب الأمريكى وماركيز بالنسبة لأدب أمريكا اللاتينية، بل إنه يساوى سيرفانتس بالنسبة للرواية الأوروبية، وهذا الكلام فى سؤالك يعنى أنك استمعت لكلام أحد السلفيين عن نجيب محفوظ، وهو كلام ظالم، ولو أنك توقفت أمام كلامه لأدركت أنه شاهد الأفلام المأخوذة عن نجيب محفوظ ولم يقرأ رواية واحدة من رواياته. لدىَّ كلام كثير يمكن أن يقال عن عظمة نجيب محفوظ وعن غروب شمس إسماعيل ولى الدين سريعًا، لكننى أكتفى بهذا، لأن السؤال أثار غضبى. - محمد جلال، فتحى أبو الفضل، محمد مستجاب، بعد مرور سنوات طويلة على إبداعهم كيف ترى كتاباتهم الآن؟ * محمد جلال كتب عن الحارة المصرية، فتحى أبو الفضل كتب عن الأعماق الإنسانية بطريقة قريبة من إسماعيل ولى الدين، أما محمد مستجاب فهو صوت قصصى من الصعيد ما زال يرن فى آذاننا حتى الآن، كان مستجاب يروى قصصه لنا مثلما كان يفعل يحيى الطاهر عبد الله، كان مستجاب قصاصًا أصيلاً، ولو أنه تفرغ لكتابة القصة لترك تراثًا شديد الأهمية، ومع هذا فإن ما تركه محمد مستجاب لو قرئ قراءة جيدة ما تم وضعه مع محمد جلال أو مع فتحى أبو الفضل، إن فترة "المجايلة" جيل مع آخر فى أدبنا من أكثر الأفكار غموضًا، لأنها تقع فى منتصف المسافة بين النقد الأدبى وعلم اجتماع الأدب، وعلم اجتماع الأدب ما زال يمثل الفريضة الغائبة فى حياتنا الثقافية. - هل ترى أن شاشة التليفزيون أو السينما أضافت لعالم الرواية أم أن ما حدث هو تحول جمهور الرواية إلى الميديا الحديثة؟ * الجزء الثانى من السؤال لا يحتاج أن يكون سؤالاً، أين هى الرواية المصرية أو العربية أو العالمية من السينما المصرية أو الدراما التليفزيونية المصرية؟ لقد نسى صناع هذه الأشكال الفنية التراث الروائى المصرى والعربى والعالمى، وحتى ما يكتب الآن فى هذه الأشكال، إنهم يفصلون أدوارًا لعدد من النجوم والنجمات لا أكثر ولا أقل، فضلاً عن أن الممثل الذى يقرأ نصًّا ويحلم بتجسيد دور فيه لم يعد له وجود، كان آخر من فعل هذا هو نور الشريف، ومن قبله فاتن حمامة، أما أهل الفن الآن فلا يعرفون أسماء من يكتبون الروايات، نجمة من نجمات هذا الزمان اتصلت بى منذ شهرين توسطنى للحصول على رواية من نجيب محفوظ باعتباره يجلس معى على المقهى، ولم تكن تعرف أنه مات، ولم تكن تعرف أننى أنا الذى أجلس معه، فهل يمكن القول عن تقديم روايات عبر مثل هؤلاء الناس؟ - "رواية العامية" هل تصنف من ضمن الروايات العربية أم المصرية؟ * العامية ليست لغة قائمة بذاتها، هى لهجة من لهجات الفصحى، وهناك محاولات لكتابة روايات بالعامية، وأنا نفسى أقدمت على هذه التجربة فى روايتى: لبن العصفور، وفعلت هذا فى الوقت الذى شعرت أن من حقى أن أجرب، وأيضًا أن أكتب نصًا روائيًا بالعامية المصرية بسبب إعجابى القديم ببعض الأعمال الأدبية المكتوبة بالعامية، مثل: قنطرة الذى كفر للدكتور مصطفى مشرفة، ومذكرات طالب بعثة للويس عوض، والسيد ومراته فى باريس لبيرم التونسى، لكن كلها تبدو محاولات للتجريب لا أكثر ولا أقل. - فى رأيك.. لو لم يحصل نجيب محفوظ على نوبل فمن كان يستحقها؟ * لا أحب الأسئلة الافتراضية، والذكاء الذى تمارسه الأجيال التى جاءت من بعدنا علينا، نجيب محفوظ يستحق جائزة نوبل فى أواخر سنة 1951 عندما كتب الكلمة الأخيرة فى ثلاثية بين القصرين، عمل عمره الجوهرى، وقد تأخرت الجائزة كل هذه السنوات من 1951 حتى 1988 بسبب توازنات سياسية لا أكثر ولا أقل، ثم إن بين القصرين نص أفضل من رواية الروائى الألمانى توماس مان: آل بودمبروك، والموضوع واحد والكتابة تدور حول قضية متقاربة، ولكن كتابة نجيب محفوظ أكثر دفئًا وإنسانية من الكاتب الألمانى. - هل تتوقع حصول عربي آخر على نوبل فى الأدب؟ * لا يعلم هذا إلا لجنة نوبل نفسها، وقد قرأت فى العدد الأخير من مجلة الحياة الثقافية التى تصدر فى تونس، وهو العدد 228 الصادر فى فبراير 2012 على لسان سكرتير لجنة نوبل هوراس إينكدال قوله: إنهم لا يوجد لديهم فى الأكاديمية متخصصين فى اللغة العربية، وأنهم يلجأون إلى خبراء إن فكروا فى معرفة أى شيء عن الأدب العربى الآن، فى حين أن أهل الاختصاص الذين يعتمدون عليهم فى كل لغات العالم موجودون بكثرة، وهذا يعنى أن موقف الأدب العربى يمر بمأزق من ناحية نوبل ما لم يتم ترجمته كاملاً إلى لغات العالم الأساسية، إن هوس الترجمة الآن بالنسبة للكتاب العرب أو لبعضهم إن شئنا الدقة يتفوق على هوس الكتابة بلغتهم العربية، فضلاً عن تزايد أعداد الكتاب العرب الذين يكتبون بلغات أخرى غير العربية، وبالنسبة لهؤلاء لا أعتبر أن ما يكتبونه أدبًا عربيًا، فالأدب ينسب إلى اللغة المكتوب بها. -كيف لعب المثقفون والمبدعون المصريون في جذور الوعي لدى أجيال مهدت لانفجار ثورة 25 يناير؟ * كل من كتب أدبًا يعبر فيه عن مأزق مصر السابقة عن زواج المال بالسلطة، عن الفساد، عن الفقر الذى بلا حدود، عن الغنى غير العادى، عن تمزق العلاقة بالوطن، كل من اقترب من هذه الموضوعات فى ظل النظام السابق مهد للثورة، بل إن توفيق الحكيم بروايته: عودة الروح وهى عن ثورة 1919 قد مهد للثورة، وسيد درويش بنشيده: بلادى بلادى، قد مهد للثورة، ونجيب محفوظ بثلاثيته: بين القصرين وهى عن ثورة 1919 قد مهد للثورة، وبروايته: السمان والخريف وهى عن ثورة يوليو 1952 قد مهد للثورة، وصلاح عبد الصبور بمسرحيته: ليلى والمجنون قد مهد للثورة، هذا فضلاً عن أشعار عبد الرحمن الأبنودى وبيرم التونسى وفؤاد حداد وفؤاد قاعود، كل هؤلاء قد مهدوا للثورة، رغم أن الثورة عندما جاءت كانوا تحت الأرض ولم يكونوا فوقها، لا تنسَ أبدًا التراكم المجتمعى الذى يحدث للشعوب، إن هذه مسألة تجرى فى ضمير الشعوب ولا توجد قاعدة يمكن أن تحكمها. - هل ستنتج الثورة إبداعا حقيقيا؟ وما رأيك في جيل الشباب من الكتاب والروائيين؟ * ليس الآن، إن التسرع فى انتظار مثل هذا الأدب سيضر به كثيرًا، سأضرب لكما مثلين تاريخيين، قامت ثورة 1919 فى السنة التى تحمل مثلها، ومع هذا كتب توفيق الحكيم روايته: عودة الروح عن هذه الثورة بعد ثمانى سنوات، ونشرها بعد إحدى عشر سنة، ثم كتب نجيب محفوظ ثلاثيته: بين القصرين، وهى عن هذه الثورة سنة 1949، أى بعد ثلاثين سنة من قيام الثورة، وروايته عن ثورة 1952 السمان والخريف مكتوبة سنة 1962 أى بعد عشر سنوات من الثورة، ثم هل تعرفين أن رواية تولستوى: الحرب والسلام، وهى أعظم رواية فى تاريخ البشرية مكتوبة بعد 75 سنة من الحرب التى تتحدث عنها، فلماذا نستعجل مولود الثورة الأدبى؟ ولماذا نلهث وراءه بهذه الطريقة؟ أخشى أن يصبح حمل الثورة الأدبى حملاً كاذبًا إذا لم يراع شروط السرعة المطلوبة. - مشاكل القرية المصرية كانت همًّا أساسيًا فى أعمالك.. لماذا اتجهت فى روايتك "قطار الصعيد" إلى مشاكل الجنوب المصري؟ * وهل صعيد مصر لا يعتبر ريفًا؟ وهل يختلف الريف فى الصعيد عن ريف بحرى؟ إن الاختلاف فقط فى العادات والتقاليد، حتى عندما أسافر للصعيد أكتشف أن اللهجة التى نسمعها فى مسلسلات التليفزيون لا يحرصون عليها فى الواقع بنفس الطريقة، قطار الصعيد تجربة مررت بها سنة 1979، حيث استضافنى فى بيته صديقى الشاعر نصار عبد الله فى مدينة البدارى القريبة من أسيوط، وتهيبت الكتابة عن واقع لم أعش فيه إلا فترة ضيافة، وكتبت نصى وركنته وعدت إليه ونشرته، هل كان ما قمت به صحيحًا؟ هل كان خطأ؟ هل كنت أقلب فى دفاترى القديمة؟ لا أدرى، لكنى عندما نظرت فى روايتى بعد نشرها وبعد صدور ثلاث طبعات منها فى سنة واحدة أدركت أن عدم نشرها كان خطأ، وأن تردد الفنان فى أعماقى كان أكثر مما ينبغى. - هل لديك مشروع أدبي يتناول أحداث الثورة المصرية؟ * لدىَّ أكثر من مشروع، بل لدىَّ يوميات وكتابات كثيرة، لكن ثمة فارق بين الكتابة والنشر، أن تكتب فأنت تكتب لنفسك، أن تنشر معناها أنك تعرض نفسك على الآخرين، وعرض النفس على الآخرين مسألة ليست مأمونة العواقب، لذلك أنا أكتب وأكتب، أما النشر فهو قصة أخرى. - الأدب العربى يمر بمأزق من ناحية نوبل.. ما لم يترجم كاملاً إلى لغات العالم الأساسية - توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور مهدوا لثورة يناير بإبداعاتهم - حمل الثورة الأدبى سيكون حملاً كاذبًا إذا لم يراع شروط السرعة المطلوبة