حسناء الجريسي احتفل الأديب يوسف القعيد بعيد ميلاده السبعين بدار الهلال، بحضور الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل ووسط كوكبة من كبار الأدباء والإعلاميين، تكريما له على مشواره الحافل بالعطاء فى عالم الأدب. «الأهرام العربى» قررت أن تفتح صندوق أسرار «صاحب الحرب فى بر مصر» لنتعرف على الغريب والجديد فى عالمه ما شعورك بعدما أتممت سن السبعين؟ مشاعرى اكتشاف ورهبة وخوف، لقد اكتشفت أننى بلغت السبعين من العمر،وعندما اتصل بى الأديب الشاب السعداوى الكافورى لكى يبلغنى هذا، حدثت لى مفاجأة طبعاً أنا أعرف تاريخ ميلادى، وأحفظه عن ظهر قلب - مثل كل الناس - لكن اكتشاف السبعين كان مفاجأة حقيقية، وعندما اتصل بى - مشكوراً – الصديق محمد الشافعى استغربت، بل إننى عندما أبلغت الأستاذ هيكل هذا الخبر فى أحد لقاءاتى معه، أبدى دهشة حقيقية، وقال لى: لقد حدث هذا من وراء ظهورنا، وعندما اتصل بى الصديق الحميم والإنسان النبيل – ليس لنبله حدود – غالى محمد، ليحدثنى عن احتفالية، كنت ما أزال أسبح فى حالة من عدم التصديق والدهشة والتوقع أكثر ما كان يعذبنى ما قرأته فى مذكرات تولستوى، أن الإنسان يبدأ بعد سن الخمسين فى رحلة العودة، وبمناسبة العودة فعندما ذهبت قبل سنوات مع الأستاذ هيكل لدفن شقيقه الدكتور فوزى هيكل، قرأت على المدفن من الخارج القريب من مدافن الكومنولث فى مصر الجديدة عبارة: دار العودة، مقابر آل هيكل وكلمة العودة جمعت بين تولستوى والأستاذ هيكل وهى تشكل القلق والأرق الحقيقى الذى أمر به الآن.،ولا أزيد كلمة واحدة برغم أن تولستوى عاش أكثر من مائة سنة. لو عاد الزمان ثانية بالقعيد ماذا يتمني؟ أتمنى ما سبق أن تمنيته دائماً وأبداً فإن أمنيات أول العمر تظل علامات مهمة للإنسان على مدى الحياة كلها، تمنيت أن أكون كاتباً، وأرجو أن يكون ذلك قد تحقق، وتمنيت أن أكتب عن الفقراء. وأرجو أن أكون وفقت. مع أن تعبير التوفيق له رنين مخيف، وتمنيت أن أرتبط بالناس ارتباطاً حقيقياً. وأعبر عنهم من خلال كتابة واقعية، وأهم شىء تمنيته عندما جلست لأكتب لأول مرة ألا أكتب إلا عما أعرفه جيداً، وهذا دستور حياتى الذى أخذت نفسى به بكل شدة حتى الآن، أما عن حسابات الربح والخسارة، فذلك حكم التاريخ الذى لا يرحم. ولا أدرى متى يتم هل وأنا على قيد الحياة؟ أم بعد رحيلى عن الدنيا؟ هل ترى أنك حققت كل ما تحلم به؟ من المستحيل أن أقول إننى حققت كل أو بعض أو جزءاً بسيطاً مما كنت أحلم به حاولت أن أحقق، أما كلمة التحقيق فذلك حكم الآخرين علىَّ، أنا أرى أننى حققت، لكن حكم الآخرين ومحكمة الضمير أهم بكثير مما يمكن أن أقوله، ما يعنينى منذ أن تركت قريتى فى أواخر الخمسينيات وذهبت إلى إيتاى البارود ثم دمنهور، ومنذ أن جئت إلى القاهرة فى منتصف ستينيات القرن الماضى، وأنا لدىَّ مقياس أساسى آخذ نفسى به بكل شدة، لحظة النوم عندما أضع رأسى على "المخدة" أسأل نفسى: هل أقدمت خلال هذا اليوم على فعل أو قول يمكن أن أخجل منه؟ وإن كانت الإجابة بنعم، أحاكم نفسى وأحاول أن أعتبر أنه الخجل الأخير فى حياتى، وإن كانت الإجابة بلا قلت لنفسى: لا بد أن أستمر هكذا بقدر الإمكان. ماذا بعد السبعين؟ بعد السبعين مشروعات كثيرة مؤجلة لعل أهمها السؤال الذى أطرحه على نفسى: هل أجلس لأكتب مذكراتى؟ لقد عشت حياتى بالطول والعرض. وعرفت أكثر مما ينبغى لإنسان أن يعرفه، ونظرت إلى الواقع المصرى والعربى والعالمى من خلال شوارعه الخلفية، ورأيت ضعف الناس أكثر مما رأيت قوتهم، فهل أبخل عليهم بهذه الخبرة؟ أم أننى سأخاف امتثالاً لقول تشيكوف: لا أتصور أبداً أن يجلس الإنسان ليكتب عن نفسه، إن كتب لا بد أن يكتب عن الآخرين، لدىَّ أيضاً مشروعات أخرى مؤجلة، مثل كتابين عبارة عن حوارات أجريتها مع نجيب محفوظ فى حياته، ولأن كل الناس أصدرت كتباً عن نجيب محفوظ. فأنا لم أفكر فى إصدارها، لقد جمعتها وأتمنى لو صدرت، لأنها تعكس صداقة جيلين عبر نحو نصف قرن من الزمان. أيضاً لدىَّ يوميات أحرص على تدوينها ليس بصفة مستمرة، ولكن كلما حانت الظروف وأعتقد أنها تعكس موقفى من الدنيا وموقف الدنيا منى، تقدم أحبائى وأعدائى ومن كانوا بين بين، وربما لم أجرؤ على نشر هذه اليوميات فى حياتى خوفٌ؟ ربما خجل؟ جائز انعدام القدرة على مواجهة الحقيقة؟ قد يكون لكنها يوميات مهمة هذه هى المرة الأولى التى أتحدث فيها عن هذا الأمر الذى لا يعرفه حتى أقرب الناس إلىَّ. كيف التقيت نجيب محفوظ وماذا تعلمت منه؟ بعد حضورى إلى القاهرة وكنت مجنداً بالقوات المسلحة، استخرجت رقم نجيب محفوظ من دليل التليفونات. وهو نفس الرقم الموجود حتى هذه اللحظة، لم يتغير فيه إلا الأرقام الأولى، واتصلت به رد علىَّ قدمت نفسى له قلت له إننى أريد أن أراه. ضرب لى موعداً فى مقهى ريش يوم الجمعة من كل أسبوع من الساعة الخامسة والنصف حتى الثامنة يمكنك الحضور، وصلت إلى المكان، وجدت حوله كل كُتاب مصر الشبان فى ذلك الوقت قال لى: اسحب كرسياً واجلس عليه. عزمنى على القهوة، ولم أكن أشربها طلبت شاياً، وقال لى إن استهوتك الجلسة يمكنك أن نلتقى هنا فى نفس هذا الموعد من كل أسبوع، ومنذ منتصف ستينيات القرن الماضى حتى 2006 كنت أراه بشكل منتظم ومستمر..تعلمت منه أن الوقت ثروة. وأن استغلالها مسألة مهمة، أيضاً لفت نظرى فيه أنه عندما يتعامل مع الناس يركز على الجوانب الإيجابية فى شخصياتها، ولا يحاول النظر أبداً لعيوبهم الشخصية، أيضاً لديه قدرة فريدة على الإنصات لكل الناس مهما كانت تفاهة ما يقولون، تواضعه يعتبر تحدياً لكل الناس. أنا لم أجد إنساناً بهذا القدر من التواضع. وماذا عن علاقتك بهيكل خصوصاً وقد أجريت معه حوارا مطولا فى جريدة المصرى اليوم منذ أربع سنوات وكان ذلك بمناسبة عيد ميلاده؟ الأستاذ هيكل قصة أخرى. ذهبت إلى الأهرام فى مبناه القديم بشارع مظلوم. ثم ترددت على الأهرام فى مبناه الجديد ولم يخطر فى بالى أبداً أن تكون لى صلة به. كان فى العلالى علالى الفكر وعلالى الصحافة وعلالى السلطة، لا أنسى أننى فى إحدى زيارات الأهرام فى مبناه الجديد. رأيت عدداً من الوزراء يجلسون فى انتظار لقائه، فاستغربت وأدركت ساعتها أن قوة الكلمة وتأثيرها يمكن أن تكون أقوى من السلطة..عندما صدرت روايتى: يحدث فى مصر الآن، طلبها منى محمد سيد أحمد. وكنا نعمل معاً فى جريدة الأهالى بحزب التجمع، قال لى إنه يريد نسخة للأستاذ، ويومها كانت تكفى كلمة الأستاذ لنعرف أن المقصود هيكل، أحضرت الرواية وكتبت عليها إهدائه وأعطيتها له، ثم تكرر نفس الأمر بعد صدور روايتى: الحرب فى بر مصر،لم أذهب إليه لأنه لم يطلب هذا، كان يطلب الروايتين فقط واحترمت رؤيته. جرى هذا فى السبعينيات..لكن بعد اغتيال الرئيس السادات عندما كان يعمل فى كتابه: خريف الغضب. اتصلت به فحدد لى موعداً فى مكتبه ذهبت إليه، وعندما كنا نتكلم قلت أمامه إن الساداتيين انقضوا على مصر مثل المظليين، يريدون الحصول على كل شىء فيها على طريقة القناصة، فوجئت به يتصل بى ويستأذننى فى أخذ هذه العبارة ضمن كتابه: خريف الغضب، وقد استغربت جداً لهذه الأمانة وتلك الموضوعية التى تتعدى حدود الندرة. قلت له هذا يسعدنى. قال لى: إن المجالس أمانات. ونشر كلام قيل لا بد من استئذان صاحبه قبل نشره، ومن يقرأ: خريف الغضب سيجد العبارة وفى الهامش اسمى بكلمة: الأديب. واستمرت الصلة حتى الآن، وأعتقد أن هيكل إنسان حنون وشهم، وفيه من صفات الفلاحين ما لا نجده عند الفلاحين أنفسهم الآن، وقف جنبى فى أيام الشدة، وآذرنى حتى عندما قدمت الاستقالة من دار الهلال. قال لى يومها: اكتب الطلب الذى ستقدمه وأرسله لى، وأرسلته له بالفاكس" قال لى إنه سيحتفظ به ضمن أوراقه." ويبدو أنه طلب منى هذا الطلب حتى أدرك وأنا أكتب الطلب أن الأستاذ هيكل سيقرأه ويجب ألا تكون فيه أقدم تنازلات على الإطلاق. بمناسبة كتابك محمد حسنين هيكل يذكر عبد الناصر والمثقفون كيف كانت علاقة عبد الناصر بالمثقفين؟ فكرت فى هذا الكتاب وعرضت الفكرة عليه. كنا فى آخر سنوات فى القرن العشرين. ورحب جداً بهذا. كان يعطينى مواعيد فى الصباح الباكر بعد الثامنة صباحاً. وأشهد أن الرجل لم يلجأ لورقة واحدة. وحكى لى كل الحكايات الموجودة فى الكتاب من ذاكرته. لم يعد إلى مراجع ولا إلى وثائق. وهيكل بطبعه روائى من الطراز الأول. ولو لم يكن صحفياً لكان روائياً ينافس جميع الروائيين. بعد أن انتهى الحديث لم يطلب منى حذف كلمة واحدة. قال لى هذا كتابك أنت ولا علاقة لى به. وأنت الذى تتفق مع الناشر. وأنت الذى تنشره وتختار عنوانه. وطريقة كتابته. هذا كتابٌ لا علاقة لى به لأنه كتابك أنت. يحدث فى مصر" والحرب فى بر مصر " هل يمكن للقعيد إعادة كتابة هاتين الرواتين فى الوقت الحالى مع فارق الأحداث؟ لا يمكن إعادة كتابة رواية مرة أخرى. عنوان الرواية الأولى وعنوان الرواية الثانية يصلحان للكلام عن مصر الآن. لكن بمجرد نشر النص لا يمكن الحذف منه أو الإضافة إليه. لأنه يصبح ملك الناس. وهذا كلام هيكل معى عن كتابى معه. يمكن استخدام عنوان: يحدث فى مصر الآن. للكتابة عن مصر الراهنة. ويمكن استخدام الحرب فى بر مصر للكتابة عن مصر الراهنة. لكن لا بد من نصوص جديدة لأن النص القديم أدى دوره وقدم رؤيته ولا يجوز التعامل معه من أول وجديد. ماذا تنصح الجيل الحالى من شباب المبدعين؟ وهل يقبلون هم النصيحة؟ قبل أن يقدم الإنسان نصيحة لا بد أن يقبلها من تُقدم له. لا أعتقد أنهم يقبلون النصيحة، ذاكرتهم ملعونة إن قرأوا فهم يكتبون الأدب الأوروبى المترجم لكى يكتبوا مثله. يكتبون وأعينهم على الترجمة. والسفريات فى الخارج. والجوائز الكبرى. كأن مصر بالنسبة لهم فندق أو مكان إقامة عابر لا تعنيهم فى شىء. بعضهم يهاجمنى بسبب الكتابة الواقعية وكأنها جريمة. وبعضهم يهاجمنى بسبب الهم الاجتماعى الموجود فى كتاباتى. لا أدرى إلى أين يمكن أن يصلوا بكتاباتهم عندما تخلوا الساحة لهم. قرأت فى رواية ديستويفيسكى: الإخوة كرامازوف. أحد أبناء كرامازوف يتساءل: من منا لم يفكر فى قتل والده؟ وكلما رأيت أحدهم أو إحداهن تذكرت عبارة ديستويفيسكى العبقرية. وكيف تنظر إلى أعمالهم الأدبية؟ فيها جرأة. فيها طرح أسئلة لكنها تخاصم الهم الاجتماعى إذن فهى تخاصم مصر وتخاصم المصريين، لأن الكاتب عندما يكتب من أجل الترجمة، قل على الدنيا السلام، وعندما يكتب بهدف أن تحمله سطور روايته لسفرية هنا أو أخرى هناك لا يصح حتى أن نقول السلام تجاربهم الإنسانية هشة، ولن أستطرد كثيراً لأننى ضد الأحكام العامة، وقد لا تكون هذه الأحكام دقيقة لأن كل كاتب فرد حالة خاصة تختلف عن الآخرين. كيف ترى الحياة الثقافية فى مصر الآن؟ تتعافىو تخرج من النفق المظلم الذى مرت به فى سنة حكم الإخوان الكبيسة. وتحاول الخروج من حالة عدم الاستقرار التى مررنا بها، لكن مشاكلها كثيرة. فوزارة الثقافة تكاد تكون بدون ميزانية، كيف يقومون بعمل ثقافى، والأمر الوحيد المؤكد هو أجور العاملين فى الثقافة والإضافى والحوافز، أما النشاط الثقافى فله رب اسمه الكريم. ثم إن 25 يناير مشكلة. و30 /6 مشكلة، كل روائى يتصور أن أى حادث يمر به صالح للكتابة عنه، ولو فى نفس اليوم أو اليوم التالى، وهم لا يعرفون أن الحدثين لم يصلا لنتائجهما الأخيرة، وأن الكتابة عن الأحداث الكبرى تحتاج مرور فترة من الوقت قبل أن تكتب، وهذا جزء من الارتباك العام الذى تعانى منه الجماعة الثقافية. خصوصاً الكتاب منهم. لماذا كتبت بعض روايتك بالعامية؟ لى رواية واحدة بالعامية هى رواية: لبن العصفور. كتبتها على سبيل التجريب. من حق الكاتب فى مرحلة معينة من حياته أن يجرب. ثم إننى قرأت بعض الأعمال الأدبية بالعامية أعجبتنى بلا حدود، وأحببت أن أجرب نفسى فى مثل هذه الكتابة. حصلت على جائزة الدولة التقديرية عام 2008 وكانت الجائزة المصرية هل هذا تقصير من الدولة لكاتب كبير مثلك؟ أنا لم أحصل حتى الآن على جائزة الدولة التشجيعية، لأننى كنت ضد أن يتقدم الإنسان بطلب لكى يحصل على جائزة، فالتقدير يجب أن يمنح له ولا يسعى إليه، وبرغم أننى أصبحت عضواً فى لجان التحكيم التى تمنح جائزة الدولة التشجيعية، فأنا لم أحصل عليها أما الجائزة التقديرية، فلولا الصديق الشاعر نصار عبد الله الذى سعى أن تقوم جامعة سوهاج بترشيحى للجائزة. ولولا وجود بعض العناصر الجيدة فى المجلس الأعلى للثقافة، ما حصلت عليها. المهم أن حصولى عليها كان من التصويت الأول، وكان بأغلبية ساحقة ربما لإدراك أعضاء المجلس بهذا الظلم غير العادى الذى وقع علىَّ وأنا سعيد به ولا أتألم بسببه، فهذه ضريبة الموقف الذى يتخذه الإنسان. كنت عضواً فى لجنة تحكيم جوائز معرض الكتاب هذا العام وقد أثير حولها الكثير من الجدل واللغط هل أنت راض عن توزيع الجوائز؟ أنا راضٍ تماماً عن توزيع الجوائز، وما لم يدركه أحمد مجاهد وتصرّف بمنطق الفعل ورد الفعل أن الضجة التى أقيمت تعنى أن الجوائز مهمة، وأن المثقفين يهتمون بها، لقد فكر البعض منهم فى تنظيم مسيرة لمكتب وزير الثقافة الدكتور صابر عرب لإلغاء الجوائز، هل هناك أهمية أكثر من هذا؟. ثم من هم الذين اعترضوا وثاروا؟ وملأوا جلسات مقاهى وسط البلد بالنميمة والثرثرة والكلام فى الفاضية والمليانة، لن أصفهم لأن أى وصف يمكن أن أقوله يضعنى تحت طائلة القانون، وأى جوائز فى الدنيا لم ترض كل الناس. مهما كانت العدالة فيها،وأحمد مجاهد خير شاهد على الحياد والنزاهة والموضوعية فى منح الجوائز، لكننى حزين بسبب تراجعه أمام الحملة الشرسة التى ثارت بعد منح هذه الجوائز، وما كان يصح له أن يتراجع، فهو أول من يدرك حجم الصواب فى منح الجوائز، ثم إنه كان شريكاً أساسياً فى كل قرار اتخذناه.