أعرف نوابًا سابقين فى مجلس الشعب لم يصرفوا مليمًا واحدًا على الدعاية الانتخابية، ورغم ذلك حصلوا على ثقة الناخبين فى عدة فصول تشريعية، ودخلوا البرلمان محمولين على الأعناق، هؤلاء النواب كانوا ومازالوا لا يملكون الأموال ولا القصور ولا الأراضى التي يتمتع بها بعض النواب الذين استثمروا الحصانة وعاشوا على ريعها. نواب الشعب الحقيقيون عصاميون لا يعرفون سكة «الأرانب» ولا زواج المال بالسلطة ولم يعقدوا صفقات مع الحكومة، وارتبطوا بعقد اجتماعى وكلمة شرف مع المواطنين بأن يكونوا صوتهم تحت القبة. الأتوبيس العام والمترو والقطار وسيلة مواصلاتهم إلى مجلس الشعب، كنت أشاهد أحدهم ينزل من قطار الضواحى ليستقل المترو، ويعدى فى الصباح الباكر علي القومسيون الطبى لاستلام قرارات علاج المرضى من أبناء دائرته. ويدخل قاعة مجلس الشعب ولجانه يصول ويجول ويقترح القوانين، ويحاسب الوزراء، ويضع أصبعه فى عين التخين، ومثله كثيرون، هؤلاء كانوا يأتون بإرادة الشعب رغم محاولات التزوير التي كانت تتم ضدهم، قال لى أحدهم بل أقسم انه صرف 140 جنيهًا فقط فى الانتخابات قيمة أوراق وتقديم طلبات الترشح. الناخب المصرى شاطر فى الفرز، يعرف الصالح من الطالح عندما تكون لديه الحرية فى الاختيار. فى إحدى الدوائر ترشح اثنان من الأثرياء أحدهما كان نائبًا والآخر قرر خوض الانتخابات ضده، وهاجم كل منهما الآخر فى مؤتمراته، وظهر المستخبى عن الأعراض ومصادر الثروات المشبوهة، والعلاقات النسائية، فضيحة بجلاجل تفجرت فى الدائرة، وأصبحت على كل لسان فى المحافظة بالكامل. فقرر الناخبون معاقبتهما، واختاروا مرشحا آخر كان قد تقدم بأوراقه للحصول على إجازة من عمله، كان هذا المرشح لا يملك شيئًا من حطام الدنيا، فجمع أهالى الدائرة مبلغًا من المال، واشتروا له بدلة جديدة، ومنحوه أصواتهم وفاز بالمقعد، نائب آخر ضبطته «الكاميرا» يبكى فى اجتماع لجنة برلمانية لأن رئيس اللجنة عايره بأن والده كان صاحب محل كشرى، هذا النائب جاء من دائرة قاهرية فقيرة، كان عصاميًا، محترمًا، رفض الارتماء فى حضن النظام المباركى، وقرر الابقاء علي عهده مع أبناء الدائرة، الذين حملوه بمشاكلهم، فى اجتماع اللجنة تحدث النائب عن معاناة اسرته عندما كان صغيرًا مع اشقائه وكيف نجح والده فى تربيتهم من عائد قليل لمحل كشرى صغير، إلي أن أنهوا تعليمهم، وبدأ الاجتماع، وطلب النائب الكلمة، وفوجئ برئيس اللجنة يقول له اسكت يا ابن بتاع الكشرى، النائب صعبت عليه نفسه، ودخل فى نوبة بكاء هستيرى ولم تجف دموعه إلا بعد محاولات قام بها أعضاء اللجنة لتوضيح موقف رئيس اللجنة بأنه كان يمزح معه. نائب آخر كان يجبر الحكومة بالوقوف علي قدم واحدة، وقاعة مجلس الشعب تتراقص، عندما كان يفتح ملفات الفساد تحت القبة، فوجئ فى إحدى جلسات المساءلة البرلمانية التى كان نجمها الأول، بالوزير المكلف بالرد عليه يعايره بأن الدولة تعالجه علي نفقتها وكان فى استطاعة هذا النائب أن يكون من أصحاب الملايين ولكنه تمسك بمبادئه. مع التطور الطبيعى للفساد الذى ضرب أجناب السلطة تقهقر النواب الفقراء أمام الملايين التى أصبحت تضخ فى الدوائر، وان كان بعض النواب الفقراء قد حافظوا علي مقاعدهم إلا أن آخرين تراجعوا أمام أصحاب الطائرات الخاصة، وملايين الكيلو مترات من الأراضى ومليارات فى البنوك، وهؤلاء دخلوا البرلمان لتأمين ثرواتهم، اشتروا المقاعد بمباركة النظام. أداء أصحاب الملايين تحت القبة كان نفاقهم للنظام وتسابقهم علي ارتداء رابطة عنق أحدث صيحة، كانوا يتجمعون فى القاعة، وكل منهم يمسك رابطة عنق الآخر، ويشير إليه بعلامة (YES). وآخر النهار يحررون العقود التي كانت تتنازل فيها الحكومة كل يوم عن جزء من أملاك الشعب، النواب الفقراء يستمتعون بشرفهم كل صباح ولصوص الحصانة مرعوبون مع طلعة كل شمس ويتحسس كل منهم قفاه.