قبل أن تقرأ: المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات التي خرجت والتي لاتزال تخرج حتي الآن بغير انقطاع، لم نر منها واحدة فقط، وجهت أو خصصت مباشرة لمشكلة الفساد.. أو «العنكبوت» الذي بات ينسج خيوطه وشباكه علي مجتمعنا، بحيث إنه لم يعد هناك فكاك من هذا الجحيم! قولوا لي أليس غريبا ألا يقول الشعب بلا هوادة: لا للفساد؟! حتي الثورتان الكبيرتان في تاريخنا الحديث خرجتا للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وفي شعار آخر: الكرامة الإنسانية ولكن واحدة منهما لم تكن موجهة ضد الفساد عمدا ومع سبق الاستهداف والترصد! كيف ذلك؟ وهل هي نبوءة باستمرار الفساد.. وأنه لن يذهب الي مكان؟! وأنه قائم سواء في عصر «السادات» أو في عصر «مبارك» تماما كما استمر وبقي مع «المجلس العسكري».. كما بقي واستمر مع مرسي وإخوانه! أمن العقل أن يهتم الشعب بالحرية وبالعدالة الاجتماعية والكرامة بالدرجة الأولي، ثم يأتي اهتمامه بالفساد بدرجه أقل منها، مع أن الفساد «أس» البلاء ومكمن «الداء»؟ أم أن بعض الذين صاغوا شعارات الثورة في الميادين والفضائيات سيقولون لنا إن شعارات العيش والحرية والكرامة تعني ضمنا انها ضد الفساد وأنه لا عيش ولا حرية ولا عدالة معه! ربما كانوا يتوهمون ذلك.. لكن المسألة ليست إجراء آليا أو أوتوماتيكيا.. بل إن هذا يحتاج حربا وقتالا يوميا لاجتثاث الفساد من جذوره الضاربة في كل الأرجاء، لكن هل نحن فعلا نريد أن نجتث هذا الفساد أم أننا «نباركه» نريد له البقاء ونريد منه أن «يسير» و«ييسر» - في الحقيقة - أمور حياتنا التي تتوقف علي «تيسير» المفسدين لها، فبغير فسادهم لن تتيسر الحياة ولن تنجز الأعمال ولن تقضي المصالح؟! في داخل كل منا - مهما بلغت ثقافته ومهما بلغت إدانته للفساد والفاسدين - «ذرة - بل ربما ذرات!» استعداد، كل لحظة، للتعايش مع فساد يواجهه أو يقابله في الطريق.. قد يجد فساده وهو يرتكب مخالفة سيره بسيارته عكس الاتجاه، فيعرف ان الحل مع «الأمين»!. وقد يجده- الفساد - عندما يحين موعد تجديد التراخيص، فهو يعلم أن المخالفات - الألفية هذه الأيام - يمكن ان تسقط وتمحي بعلاقة شخصية مع لواء أو عميد أو حتي مادونهما أحيانا! قد يفاجئنا الفساد - من دون استثناء - ونحن في المطار مثلا، حينما لا يعجبنا القدر الممنوح لنا من الوزن، خاصة عندما نتأكد أن الأغلبية لا تلتزم به، فتأتي الي المطار مدججة بالواسطات التي تتيح لها ادخال مئات الكيلوات بسلاسة وبهدوء. وقد يفاجئنا الفساد عندما نكون في قرية البضائع، ونريد إدخال العديد من السلع الغالية الثمن والتي تستحق دفع جمارك للدولة عنها، من دون أن ندفع مليما واحدا؟! قد يفاجئك الفساد في التأمين الصحي وفي السجل المدني وفي الجوازات وفي التراخيص وفي الحصول علي دعم المواد التموينية، وقد يفاجئك الفساد ايضا في مستويات الوزارة. حتي الوزيرة التي كادت أن تكافح الفساد الثوري قبل خروجها من الوزارة أخرجناها من دون أن نمنحنها شرف إثبات صحة اتهامها للنشطاء والثوريين والحقوقيين ومراكز حقوق الإنسان بالحصول علي تمويلات بملايين الدولارات! لم تعد لدينا فيما يبدو فضيلة أن نعرف الرجال - أو النساء - بالحق الذي يقولونه، وإنما نعرف الحق اليوم بالشخصية التي تقوله!! فإن كان القائلون علي هوانا صدقناهم؟ ما بالنا - أيها السادة - إذا كنا سنعرف تفاصيل وأسرار المصيبة أو الفضيحة من حسام بدراوي أمين عام الحزب الوطني السابق، أو من الثائر الراحل باسم صبري؟ المهم هنا «الوقائع» ومدي صحتها وليس كون قائلها هو فايزة أبوالنجا وزيرة التعاون الدولي السابقة في عهد مبارك وفي عهد مجلس عسكر طنطاوي وعنان. مثلا ذكرت الوزيرة أبوالنجا أمام المحكمة التي كانت تنظر قضية التمويل الأجنبي أن إجمالي مبالغ التمويل الأجنبي للمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان بلغ حوالي 571 مليون دولار في الفترة من 2005/2011، منها 50 مليون دولار فقط من أمريكا خلال 7 أشهر (من فبراير وحتي سبتمبر 2011)!! ما الذي حدث؟ بعد شهادة ماراثونية مدتها 6 ساعات أدلت بها د. أبوالنجا أمام المحكمة بكلام موثق وبالأدلة (في القضية المتهم فيها 34 متهما منهم 19 أمريكيا جري تهريبهم بمعرفة عسكر طنطاوي!) لم نعد نسمع شيئا.. لا احتج الشعب علي الفساد والخيانة والعمالة والتمويل الأجنبي، ولا الشباب النقي الطاهر الذي شارك في ثورتي يناير ويونيو سأل رموز هذه المنظمات والحركات المتمولة التي تتشدق بأنها لم تمول (انظروا الي رسالة أحمد ماهر الأخيرة من محبسه) وسؤالها أين الحقيقة..ولم يتظاهر أحد لا من الشباب ولا من الإخوان ولا من السلفيين ولا من الليبراليين ولا من اليساريين.. لم يتحرك أحد لماذا؟ هل لأن الشهادة أدلت بها فايزة أبوالنجا وكأنها فايزة «مبارك» لا فايزة أبوالنجا، أم لأن المنظمات الحقوقية رغم كونها متهمة فإنها تتمتع «بحماية نفسية» تمنع أن يلقي رموزها - رغم تهمهم المشينة - اشمئزازا مجتمعيا، باعتبارهم من ثوار يناير وكأن إدانتهم تعني إدانة ثورة يناير العظيمة! بعد أن قرأت: ربما الوقت ليس مناسبا للاحتجاج اليومي علي الفساد ولا للتظاهر العنيف ضد رموزه ولا الاستمرار في التنديد به في ظل أعمال القتل والتفجير والسحل والذبح الذي يمارسه الإخوان المضللون ومن تفرع منهم من مجرمين.. لكن أظن أننا بحاجة لإبقاء جذوة الفضيحة - والفساد العميم - في مصر حية، مادام هناك مصريون فاسدون يأكلون «السحت الذهبي» بينما يأكل المصريون الشرفاء الغلابة من «صناديق القمامة» دون أن يحتج أحد أو يتظاهر لأجلهم أحد!!