الذى يقرأ رحلة مصر والسودان لمحمد بك مهرى الشهير بكركوكى، المترجم بالباب العالى، يكتشف كيف كانت مصر فى منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وثيقة الصلة بالسودان وبإفريقيا السوداء، حيث لم نكتف بنهر النيل لكى يربط الشعوب جغرافيا على الخريطة، بل إن أهم خطوة فكرت فيها مصر وقامت بتنفيذها، هى تنفيذ هذه الرابطة على أرض الواقع وذلك بمد خط سكك حديدية يسهل حركة الانتقال والتجارة والمصاهرة بين الشعوب، حيث كان القطار يبدأ من محطة مصر وينتهى فى مدينة وادى حلفا بالسودان، ومن وادى حلفا إلى العاصمة السودانية الخرطوم، هذه الرحلة تجعلك تتحسر على الخلافات بين الحكام العرب التى دفعتهما إلى قطع كل الروابط التى تقرب بين الشعبين والبلدين، حيث نزعوا قضبان السكك الحديدية، وحطموا الطرق البرية لكى يعزلوا الشعوب عن بعضها داخل حدود بلدانهم. فى عام 1909 كان الأمير يوسف كمال أحد أحفاد محمد على باشا، قد عزم على القيام برحلة إلى إفريقيا، فأعد خدمه الحقائب اللازمة للرحلة، من طعام وشراب وملابس وأدوات، وبعد أن استأذن الخديوى عباس حلمى الثانى نجل الخديوى محمد توفيق فى السفر، حمل الخدم الحقائب إلى محطة القطار المتجه إلى السودان يوم 27 يناير 1909، على المحطة حضر جميع رفقاء وخدم البرنس يوسف كمال لكى يصاحبوه فى رحلته، وكان بين هؤلاء كركوكى، أو محمد بك مهرى مترجم اللغة العربية والفارسية بديوان الخارجية فى الباب العالي. البرنس يوسف كمال، ثالث رئيس لجامعة القاهرة، الذى كان يعشق الرحلات واستكشاف الأدغال، والمحب للثقافة والفن، والذى عد فى حياته أغنى شخصية فى مصر(قيل إن ثروته بلغت 10 ملايين جنيه)، هذا الأمير الذى أنفق آلاف الجنيهات على ترجمة الكتب الجغرافية الخاصة بإفريقيا، لم يترك لنا كتابًا واحدًا يحكى فيه رحلاته وسفرياته إلى قلب إفريقية السوداء. وقد وصلتنا رحلته هذه إلى السودان عبر كتاب كركوكى الذى صدر بعد عودتهم إلى القاهرة من مكتبة الهلال بالفجالة عام 1914، تحت عنوان رحلة إلى مصر والسودان، رحلة البرنس يوسف كمال كما شاهدها كركوكى تبدأ بعد الصفحة رقم 305 من كتابه الذى صدر فى 520 صفحة، بعد المقدمة أفرد كركوكى حوالى 305 صفحات للحديث عن مصر منذ عهد الفراعنة وحتى تولى الخديوى عباس حلمى الثانى الذى سافر فى ولايته مع البرنس يوسف إلى السودان. بدأت الرحلة من محطة مصر حتى مدينة أسوان، ومنها يستكمل الرحلة بالقطار إلى مدينة حلفا أول المدن السودانية، وهى أول مدينة تقابلها بعد تركك الحدود المصرية، وحلفا أو وادى حلفا كان ومازال يسكنها نوبيون، وقد تم نقل مدينة حلفا فى الستينيات لمسافة مائة كيلو لكى تقوم مصر ببناء السد العالي، خاصة وأن مياه البحيرة قد امتدت لعشرات الكيلو مترات داخل السودان، وأيامها قامت الحكومة المصرية والسودانية بنقل القرى والمدن النوبية التى تقع بالقرب من منطقة السد. بعد أن وصل الأمير إلى محطة وادى حلفا، نزل من القطار ليستقل قطارًا آخر من رصيف آخر ليستكمل رحلته إلى الخرطوم. كركوكى لم يترك الفرصة دون ان يروى مشاهداته فى محافظة وادى حلفا، حيث ذكر أن أول بلدة تتبع هذه المحافظة اسمها «فرص»، وتقع على النيل وأشهر معالمها أطلال مدينة قديمة يظن أنها من عهد الرومان، كما يوجد بها خرائب أقدم من هذا العهد، وبجوار الشلال الذى يقع غربها يوجد ثلاثة أضرحة قديمة منحوتة فى الصخر، قام نصارى النوبة بتحويل إحداها إلى كنيسة وكتبوا على جدرانها بالقبطية عظات وآيات من التوراة. أهمية رحلة كركوكى ليست فى المشاهدات التى يحكى عنها ويقارنها بما سبق وكتبه الرحالة الأجانب، بل الأهمية الحقيقية فى هذه الرحلة أنها تلقى لنا الضوء على قطار إفريقية، أو القطار الذى كان يربط مصر بالدول الإفريقية عبر السودان منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، والذى أقامه المحتل البريطانى بأموال وسواعد مصرية، وكان الهدف من هذا القطار آنذاك التخديم على مصالح الاستعمار البريطاني، حيث سيسهل نقل البضائع والمؤن والسلاح والجنود من مصر وإلى إفريقيا والعكس. هذا القطار لماذا لا نعيده مرة أخرى؟، لماذا لا نستغله فى عودة الروابط بين الشعوب الإفريقية؟، لماذا لا يكون بوابة للتبادل التجارى بين مصر والبلدان الإفريقية؟